الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويستحب اتباع الجنازة لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه قال : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز ، وعيادة المريض وتشميت العاطس وإجابة الداعي ، ونصر المظلوم } والمستحب أن لا ينصرف من يتبع الجنازة حتى تدفن لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط ، وإن شهد دفنها فله قيراطان القيراط أعظم من أحد } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذان الحديثان رواهما البخاري ومسلم ، وعازب والد البراء صحابي رضي الله عنهما ، والتشميت يقال بالشين المعجمة وبالمهملة لغتان ، سبق بيانهما في باب هيئة الجمعة ، ووقع في المهذب القيراط أعظم من أحد ، والذي في صحيحي البخاري ومسلم " القيراط مثل أحد " وفي رواية لهما : " القيراطان مثل الجبلين العظيمين " وفي رواية لمسلم " أصغرهما مثل أحد " قال القاضي حسين وغيره من أصحابنا وغيرهم : القيراط مقدار من الثواب يقع على القليل والكثير ، فبين في هذا الحديث مثل أحد . واعلم أن القيراطين بالدفن إنما هما لمن صلى عليها ، فيحصل له بالدفن والصلاة جميعا قيراطان ، وبالصلاة على انفرادها قيراط ، وقد جاءت روايات الحديث في الصحيح ببيان هذا ، وله نظائر في القرآن والسنة ، وقد أوضحت كل هذا في هذا الموضع من شرح صحيح مسلم .

                                      ( أما الأحكام ) ففيها مسألتان : ( إحداهما ) : قال الشافعي والأصحاب : يستحب للرجال اتباع الجنازة حتى تدفن ، وهذا مجمع عليه ، للأحاديث الصحيحة فيه ، وأما النساء فيكره لهن اتباعها ولا يحرم ، هذا هو الصواب ، وهو الذي قاله أصحابنا . وأما قول الشيخ نصر المقدسي رحمه الله : لا يجوز للنساء اتباع الجنازة فمحمول على كراهة التنزيه ، فإن أراد به التحريم فهو مردود ، مخالف لقول الأصحاب ، بل للحديث الصحيح ، قالت أم عطية رضي الله عنها { نهينا عن [ ص: 237 ] اتباع الجنائز ولم يعزم علينا } رواه البخاري ومسلم ، وهذا الحديث مرفوع ، فهذه الصيغة معناها رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقرر في كتب الحديث والأصول ، وقولها : ولم يعزم علينا معناه نهينا نهيا شديدا غير محتم ، ومعناه كراهة تنزيه ليس بحرام . وأما الحديث المروي عن علي رضي الله عنه قال { : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا نسوة جلوس قال : ما تجلسن ؟ قلن : ننتظر الجنازة قال : هل تغسلن ؟ قلن : لا ، قال : هل تحملن ؟ قلن : لا ، قال هل تدلين فيمن يدلي ؟ قلن : لا ، قال : فارجعن مأزورات غير مأجورات } رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف ، من رواية إسماعيل بن سليمان الأزرق ، ونقل ابن أبي حاتم تضعيفه عن أعلام هذا الفن .

                                      وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن { النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها : ما أخرجك من بيتك ؟ قالت : أتيت أهل هذا البيت فرحمت إليهم ميتهم ، قال : لعلك بلغت معهم الكدى ؟ قالت : معاذ الله أن أكون بلغتها وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر فقال : لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك } فرواه أحمد بن حنبل وأبو داود والنسائي بإسناد ضعيف ، هذا الذي ذكرناه من كراهة اتباع النساء الجنازة هو مذهبنا ومذهب جماهير العلماء حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وابن عمر وأبي أمامة وعائشة ومسروق والحسن والنخعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق ، وبه قال الثوري . وعن أبي الدرداء والزهري وربيعة أنهم لم ينكروا ذلك ، ولم يكرهه مالك إلا للشابة ، وحكى العبدري عن مالك أنه يكره إلا أن يكون الميت ولدها أو والدها أو زوجها وكانت ممن يخرج مثلها لمثله . دليلنا حديث أم عطية رضي الله عنها .



                                      [ ص: 238 ] المسألة الثانية ) أجمعت الأمة على استحباب اتباع الجنازة ، وحضور دفنها وقد سبق أنه يحصل بالصلاة عليها قيراط ، وبالدفن قيراط آخر ، وفيما يحصل به قيراط الدفن وجهان حكاهما صاحب الحاوي ( أحدهما ) إذا ووري في لحده ( والثاني ) إذا فرغ من قبره ، قال : وهذا أصح . وقال إمام الحرمين : إن نضد اللبن ولم يهل التراب أو لم يستكمل ، فقد تردد فيه بعض الأصحاب . قال الإمام : والوجه أن يقال إذا أقرع حصل ، وقد يحتج لهذا برواية في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : من صلى على جنازة فله قيراط ، ومن تبعها حتى توضع في القبر فقيراطان } وفي رواية " حتى توضع في اللحد " . وذكر السرخسي في الأمالي فيما يحصل به القيراط الثاني ثلاثة أوجه : ( أحدها ) قال وهو أضعفها : إذا وضع في اللحد ( والثاني ) إذا نصب عليه اللبن . قاله القفال ( والثالث ) إذا فرغ من الدفن ، قلت : والصحيح أنه لا يحصل إلا بالفراغ من الدفن لرواية البخاري ومسلم في هذا الحديث : { ومن تبعها حتى يفرغ من دفنها فله قيراطان } " وفي رواية مسلم " حتى يفرغ منها " أو يتأول رواية " حتى توضع في القبر " أن المراد وضعها مع الفراغ ، وتكون إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يرجع قبل وصولها القبر ، فالحاصل أن الانصراف عن الجنازة مراتب .

                                      ( إحداها ) ينصرف عقب الصلاة .

                                      ( الثانية ) ينصرف عقب وضعها في القبر ، وسترها باللبن قبل إهالة التراب .

                                      ( الثالثة ) ينصرف بعد إهالة التراب وفراغ القبر .

                                      ( الرابعة ) يمكث عقب الفراغ ، ويستغفر للميت ويدعو له ، ويسأل له التثبيت فالرابعة أكمل المراتب ، والثالثة تحصل القراطين ، ولا تحصله الثانية على الأصح ويحصل بالأولى قيراط بلا خلاف .




                                      الخدمات العلمية