الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأكابر عن الأصاغر

831 - وقد روى الكبير عن ذي الصغر طبقة وسنا او في القدر      832 - أو فيهما ومنه أخذ الصحب
عن تابع كعدة عن كعب

( الأكابر ) الذين يروون ( عن الأصاغر ) ، وهو نوع مهم تدعو لفعله الهمم العلية والأنفس الزكية ; ولذا قيل كما تقدم في محله : لا يكون الرجل محدثا حتى يأخذ عمن فوقه ومثله ودونه . وفائدة ضبطه الخوف من ظن الانقلاب في السند مع ما فيه من العمل بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أنزلوا الناس منازلهم ) .

وإلى ذلك أشار ابن الصلاح بقوله : ومن الفائدة فيه ألا يتوهم كون المروي عنه أكبر وأفضل ; نظرا إلى أن الأغلب كون المروي عنه كذلك ، فتجهل بذلك منزلتهما .

والأصل فيه رواية النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته حديث الجساسة عن تميم الداري كما في صحيح مسلم ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه إلى اليمن : ( وإن مالكا - يعني ابن مرارة - حدثني بكذا ) ، وذكر شيئا . أخرجه ابن منده . وقوله أيضا : ( حدثني عمر أنه ما سابق أبا بكر إلى خير قط إلا سبقه ) ، أخرجه الخطيب في تاريخه والديلمي . إلى غير ذلك ; [ ص: 166 ] كأمر الأذان ، وما ذكره - صلى الله عليه وسلم - عن سعد بن عبادة . وفيه تأليف لإسحاق بن إبراهيم المنجنيقي سمعته ، ولمحمد بن حميد بن سهل المخرمي ، وفي مستخرج ابن منده لتذكرة أشياء نفيسة من ذلك .

( وقد روى الكبير عن ذي الصغر ) بضم الصاد المهملة وتسكين الغين المعجمة ; أي : عن الصغير . وذلك ينقسم أقساما : ( طبقة وسنا ) ; أي : إما أن تكون الرواية عن أصغر منه فيهما ، وهما لتلازمهما غالبا كالشيء الواحد ، لا في الجلالة والقدر ; كرواية كل من الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري عن تلميذهما الإمام الجليل مالك بن أنس في خلق غيرهما ممن روى عن مالك من شيوخه ، بحيث أفردهم الرشيد العطار في مصنف سماه : ( الإعلام بمن حدث عن مالك بن أنس الإمام من مشايخه السادة الأعلام ) . ومن قبله أفردهم محمد بن مخلد الدوري ، وهو في مسموعاتي . وكرواية أبي القاسم عبيد الله بن أحمد الأزهري من المتأخرين في بعض تصانيفه عن تلميذه الحافظ الجليل الخطيب ، والخطيب إذ ذاك في عنفوان شبابه وطلبه .

( او ) بالنقل ، روى الحافظ العالم عمن هو أصغر منه ( في القدر ) فقط دون السن ; كرواية مالك وابن أبي ذئب عن شيخهما عبد الله بن دينار وأشباهه ، وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه عن شيخهما عبيد الله بن موسى ، مع كونهم دون الرواة عنهم في الحفظ والعلم ; لأجل روايتهم . وذلك كثير جدا ، فكم من حافظ جليل أخذ عن مسند محض كالحجار ، أو عمن دونه في اللقي خاصة دون السن أيضا . ( أو ) روى عمن هو أصغر منه ( فيهما ) ; أي : في السن الملازم للطبقة كما مر ، وفي القدر معا ; كرواية كثير من الحفاظ والعلماء عن أصحابهم وتلامذتهم ; مثل عبد الغني بن سعيد عن محمد بن علي الصوري ، والخطيب عن أبي النصر بن ماكولا ، في نظائرهما .

وحاصلها يرجع إلى رواية الراوي عمن دونه في اللقي أو في السن أو في المقدار .

[ ص: 167 ] ( ومنه ) ; أي : ومن هذا النوع ، ( أخذ الصحب ) ; أي : الصحابة ، ( عن تابع ) لهم ; ( كـ ) رواية ( عدة ) من الصحابة ، فيهم العبادلة الأربعة وعمر وعلي وأنس ومعاوية وأبو هريرة رضي الله عنهم ( عن كعب ) الأحبار في أشباه لذلك ، أفردها الخطيب في جزء رواية الصحابة عن التابعين ، وقد رتبته ولخصه شيخنا فيما أخذت عنه . ومن أمثلته ما رواه الترمذي في ( جامعه ) من حديث صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن سهل بن سعد ، عن مروان بن الحكم ، عن زيد بن ثابت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله ) ، قال : فجاءه ابن أم مكتوم ، الحديث .

وقال عقبه : وهذا الحديث يرويه رجل من الصحابة ، وهو سهل ، عن رجل من التابعين ، وهو مروان .

ويلتحق بذلك ما في صحيح البخاري من رواية معاوية بن أبي سفيان عن مالك بن يخامر عن معاذ لزيادة ( وهم بالشام ) في حديث : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ) ، فمالك المذكور كما قال أبو نعيم : لا يثبت كونه صحابيا . ورواية الصحابة عن التابعين ، وكذا الآباء عن الأبناء ، والشيخ عن التلميذ ، وإن كانت من مسائل هذا النوع ، فهي أخص من مطلقه .

وكذا أخذ التابعين عن أتباعهم ; كالزهري ويحيى بن سعيد عن مالك ، وكعمرو بن دينار وأبي إسحاق السبيعي وهشام بن عروة ويحيى بن أبي كثير عن معمر ، وكقتادة والزهري ويحيى بن أبي كثير عن الأوزاعي .

ومن ظريف أمثلة هذا النوع أن الشريف يعقوب المغربي المالكي المتوفى في سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة ( 783هـ ) كان يواظب الحضور عند الولي ابن الناظم في المدرسة الظاهرية القديمة ; لكونه منزلا في طلبتها مع كونه في عداد [ ص: 168 ] شيوخه . بل ذكر السراج بن الملقن أنه قرأ عليه في مذهب مالك ; ولذا قال الولي : فقد أخذ المذكور عني ، وأخذ عنه شيخي . قال : وهذه ظريفة .

ومن فوائد هذا النوع وما أشبهه التنويه من الكبير بذكر الصغير ، وإلفات الناس إليه في الأخذ عنه . وقد قال التاج السبكي بعد إفادته : إن إمام الحرمين نقل في الوصية من نهايته عن تلميذه أبي نصر بن أبي القاسم القشيري ، وهذا أعظم ما عظم به أبو نصر ، فهو فخار لا يعدله شيء . وكذا نقل الجمال الأسنوي في المهمات وغيرها عن الناظم واصفا له بحافظ العصر مع كونه من تلامذته ، وهو وأمثاله مما يعد من مفاخر كل من الراوي والمروي عنه . وذكرت مما وقع لشيخنا من ذلك مع طلبته في ترجمته جملة .

التالي السابق


الخدمات العلمية