الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ) . ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ) ، الجمهور على أنها منسوخة بالآية المتقدمة المنصوص فيها على عدة الوفاة أنها أربعة أشهر وعشر . وقال مجاهد : هي محكمة ، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا ، ثم جعل الله لهن وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإن شاءت سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت . حكى ذلك عنه الطبري ، وهو قوله : ( غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم ) . وقال ابن عطية : الألفاظ التي حكاها [ ص: 245 ] الطبري عن مجاهد لا تدل على أن الآية محكمة ، ولا نص مجاهد على ذلك ، وقال السدي : كان ذلك ثم نسخ بنزول الفرائض ؛ فأخذت ربعها أو ثمنها ، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة ، وصارت الوصايا لمن لا يرث . ونقل القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي ، وأبو محمد بن عطية الإجماع على نسخ الحول بالآية التي قبل هذه . وروى البخاري عن ابن الزبير قال : قلت لعثمان : هذه الآية في البقرة : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ) إلى قوله : ( غير إخراج ) قد نسخت الأخرى فلم تكتبها . قال : ندعها يا ابن أخي ، لا أغير شيئا من مكانه . انتهى . ويعني عثمان : من مكانه الذي رتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ؛ لأن ترتيب الآية من فعله - صلى الله عليه وسلم - لا من اجتهاد الصحابة . واختلفوا هل الوصية كانت واجبة من الله بعد وفاة الزوج ؟ فقال ابن عباس ، وعطاء ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد : كان لها بعد وفاته السكنى والنفقة حولا في ماله ما لم تخرج برأيها ، ثم نسخت النفقة بالربع أو الثمن ، وسكنى الحول بالأربعة الأشهر والعشر . أم كانت على سبيل الندب ؟ ندبوا بأن يوصوا للزوجات بذلك ، فيكون يتوفون على هذا يقاربون . وقاله قتادة أيضا ، والسدي ، وعليه حمل الفارسي الآية في الحجة له . وقرأ الحرميان ، والكسائي ، وأبو بكر : " وصية " بالرفع ، وباقي السبعة بالنصب ، وارتفاع " والذين " على الابتداء . و " وصية " بالرفع على الابتداء وهي نكرة موصوفة في المعنى ، التقدير : وصية منهم أو من الله ، على اختلاف القولين في الوصية ، أهي على الإيجاب من الله ؟ أو على الندب للأزواج ؟ وخبر هذا المبتدأ هو قوله : " لأزواجهم " ، والجملة من " وصية لأزواجهم " في موضع الخبر عن " الذين " ، وأجازوا أن يكون " وصية " مبتدأ ، و " لأزواجهم " صفة ، والخبر محذوف تقديره : فعليهم وصية لأزواجهم . وحكي عن بعض النحاة أن " وصية " مرفوع بفعل محذوف تقديره : كتب عليهم وصية ، قيل : وكذلك هي في قراءة عبد الله ، وينبغي أن يحمل ذلك على أنه تفسير معنى لا تفسير إعراب ؛ إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل . وأجاز الزمخشري أن يكون التقدير : ووصية الذين يتوفون ، أو : وحكم الذين يتوفون وصية لأزواجهم ؛ فيكون ذلك مبتدأ على حذف مضاف ، وأجاز أيضا أن يكون التقدير : والذين يتوفون أهل وصية ، فجعل المحذوف من الخبر ، ولا ضرورة تدعو بنا إلى ادعاء هذا الحذف ، وانتصاب " وصية " على إضمار فعل ، التقدير : والذين يتوفون ؛ فيكون " والذين " مبتدأ ، و " يوصون " المحذوف هو الخبر ، وقدره ابن عطية : ليوصوا ، وأجاز الزمخشري ارتفاع " والذين " على أنه مفعول لم يسم فاعله على إضمار فعل ، وانتصاب " وصية " على أنه مفعول ثان ، التقدير : وألزم الذين يتوفون منكم وصية ، وهذا ضعيف ؛ إذ ليس من مواضع إضمار الفعل ، ومثله في الضعف من رفع " والذين " على إضمار : وليوص الذين يتوفون ، وبنصب " وصية " على المصدر ، وفي حرف ابن مسعود : " الوصية لأزواجهم " وهو مرفوع بالابتداء ، و " لأزواجهم " الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : عليهم الوصية . وانتصب متاعا إما على إضمار فعل من لفظه ، أي : متعوهن متاعا ، أو من غير لفظه ، أي : جعل الله لهن متاعا ، أو بقوله : وصية ، أهو مصدر منون يعمل ، كقوله :


فلولا رجاء النصر منك ورهبة عقابك قد كانوا لنا كالموارد



ويكون الأصل : بمتاع ، ثم حذف حرف الجر ، فإن نصبت " وصية " فيجوز أن ينتصب متاعا بالفعل الناصب لقوله " وصية " ويكون انتصابه على المصدر ؛ لأن معنى : يوصي به بمتع بكذا ، وأجازوا أن يكون " متاعا " صفة لوصية ، وبدلا وحالا من الموصين ، أي : ممتعين ، أو ذوى متاع ، ويجوز أن ينتصب حالا من أزواجهم ، أي : ممتعات أو ذوات متاع ؛ ويكون حالا مقدرة إن كانت الوصية من الأزواج . وقرأ أبي : " متاع لأزواجهم متاعا إلى الحول " ، وروي عنه : " فمتاع " ، ودخول الفاء في خبر " والذين " لأنه موصول ضمن [ ص: 246 ] معنى الشرط ، فكأنه قيل : ومن يتوف ، وينتصب " متاعا إلى الحول " بهذا المصدر ؛ إذ معناه التمتيع ، كقولك : أعجبني ضرب لك زيدا ضربا شديدا . وانتصب " غير إخراج " صفة لـ " متاعا " ، أو بدلا من " متاعا " ، أو حالا من الأزواج ، أي : غير مخرجات ، أو : من الموصين ، أي : غير مخرجين ، أو مصدرا مؤكدا ، أي : لا إخراجا ، قاله الأخفش .

( فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ) ، منع من له الولاية عليهن من إخراجهن ، فإن خرجن مختارات للخروج ارتفع الحرج عن الناظر في أمرهن ؛ إذ خروجهن مختارات جائز لهن ، وموضح انقطاع تعلقهن بحال الميت ؛ فليس له منعهن مما يفعلن في أنفسهن من تزويج ، وترك إحداد ، وتزين ، وخروج ، وتعرض للخطاب ، إذا كان ذلك بالمعروف شرعا . ويتعلق " فيما فعلن " بما يتعلق به " عليكم " أي : فلا جناح يستقر عليكم فيما فعلن . و " ما " موصولة ، والعائد محذوف ، أي : فعلنه ، و " من معروف " في موضع الحال من الضمير المحذوف في " فعلن " ؛ فيتعلق بمحذوف ، أي : فعلنه كائنا من معروف . وجاء هنا " من معروف " نكرة مجرورة بـ " من " ، وفي الآية الناسخة لها على قول الجمهور جاء " بالمعروف " معرفا مجرورا بالباء . والألف واللام فيه نظيرتها في قولك : لقيت رجلا ، ثم تقول : الرجل من وصفه كذا وكذا ، وكذلك أن الآية السابقة متقدمة في التلاوة متأخرة في التنزيل ، وهذه بعكسها ، ونظير ذلك : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم ) على ظاهر ما نقل ، مع قوله : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) . ( والله عزيز حكيم ) ، ختم الآية بهاتين الصفتين ، فقوله " عزيز " إظهار للغلبة والقهر لمن منع من إنفاذ الوصية بالتمتيع المذكور ، أو أخرجهن وهن لا يخترن الخروج ، ومشعر بالوعيد على ذلك . وقوله " حكيم " إظهار أن ما شرع من ذلك فهو جار على الحكمة والإتقان ووضع الأشياء مواضعها . قال ابن عطية : وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قاله الطبري عن مجاهد ، وفي ذلك نظر على الطبري . انتهى كلامه . وقد تقدم أول الآية ما نقل عن مجاهد من أنها محكمة ، وهو قول ابن عطية في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية