الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) ، الاشتراء والشراء بمعنى : الاستبدال بالشيء والاعتياض منه ، إلا أن الاشتراء يستعمل في الابتياع والبيع ، وهو مما جاء فيه افتعل بمعنى الفعل المجرد ، وهو أحد المعاني التي جاء لها افتعل . الربح : هو ما يحصل من الزيادة على رأس المال . التجارة : هي صناعة التاجر ، وهو الذي يتصرف في المال لطلب النمو والزيادة . المهتدي : اسم فاعل من اهتدى وافتعل فيه للمطاوعة ، هديته فاهتدى ، نحو : سويته فاستوى ، وغممته فاغتم . والمطاوعة أحد المعاني التي جاءت لها أفعل ، ولا تكون افتعل للمطاوعة مبنية إلا من الفعل المتعدي ، وقد وهم من زعم أنها تكون من اللازم ، وأن ذلك قليل فيها ، مستدلا بقول الشاعر :


حتى إذا اشتال سهيل في السحر كشعلة القابس ترمي بالشرر



لأن افتعل في البيت بمعنى ، فعل . تقول : شال يشول ، واشتال يشتال بمعنى واحد ، ولا تتعقل المطاوعة ، إلا بأن يكون المطاوع متعديا .

( وإذا قيل لهم لا تفسدوا ) جملة شرطية ، ويحتمل أن تكون من باب عطف الجمل استئنافا ينعي عليهم قبائح أفعالهم وأقوالهم ، ويحتمل أن يكون كلاما ، وفي الثاني جزء كلام لأنها من تمام الصلة . وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفة على يكذبون ، فإذ ذاك يكون لها موضع من الإعراب ، وهو النصب ، لأنها معطوفة على خبر كان ، والمعطوف على الخبر خبر ، وهي إذ ذاك جزء من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم . وعلى الاحتمالين الأولين لا تكون جزءا من الكلام ، وهذا الوجه الذي أجازاه على أحد وجهي ما من قوله ( بما كانوا يكذبون ) خطأ ، وهو أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، وذلك أن المعطوف على الخبر خبر ، فيكذبون قد حذف منه العائد على ما ، وقوله : وإذا قيل لهم إلى آخر الآية لا ضمير فيه يعود على ما ، فبطل أن يكون معطوفا عليه ، إذ يصير التقدير : ولهم عذاب أليم بالذي كانوا .

( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، وهذا كلام غير منتظم لعدم العائد . وأما وجهها الآخر ، وهو أن تكون ما مصدرية ، فعلى مذهب الأخفش يكون هذا الإعراب أيضا خطأ ، إذ عنده أن ما المصدرية اسم يعود [ ص: 64 ] عليها من صلتها ضمير ، والجملة المعطوفة عارية منه . وأما على مذهب الجمهور ، فهذا الإعراب شائع ، ولم يذكر الزمخشري وأبو البقاء إعراب هذا سوى أن يكون معطوفا على يكذبون ، أو على يقول ، وزعما أن الأول وجه ، وقد ذكرنا ما فيه ، والذي نختاره الاحتمال الأول ، وهو أن تكون الجملة مستأنفة ، كما قررناه ، إذ هذه الجملة والجملتان بعدها هي من تفاصيل الكذب ونتائج التكذيب . ألا ترى قولهم : ( إنما نحن مصلحون ) ، وقولهم : ( أنؤمن كما آمن السفهاء ) ، وقولهم عند لقاء المؤمنين : ( آمنا ) كذب محض ؟ فناسب جعل ذلك جملا مستقلة ذكرت لإظهار كذبهم ونفاقهم ونسبة السفه للمؤمنين واستهزائهم ، فكثر بهذه الجمل واستقلالها ذمهم والرد عليهم ، وهذا أولى من جعلها سيقت صلة جزء كلام لأنها إذ ذاك لا تكون مقصودة لذاتها ، إنما جيء بها معرفة للموصول إن كان اسما ، ومتممة لمعناه إن كان حرفا . والجملة بعد إذا في موضع خفض بالإضافة ، والعامل فيها عند الجمهور الجواب ، فإذا في الآية منصوبة بقوله : ( إنما نحن مصلحون ) . والذي نختاره أن الجملة بعدها تليها هي الناصبة لإذا لأنها شرطية ، وأن ما بعدها ليس في موضع خفض بالإضافة ، فحكمها حكم الظروف التي يجازى بها وإن قصرت عن عملها الجزم . على أن من النحويين من أجاز الجزم بها حملا على متى منصوبا بفعل الشرط ، فكذلك إذا منصوبة بفعل الشرط بعدها ، والذي يفسد مذهب الجمهور جوازا إذا قمت فعمرو قائم ; لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها ، وجواز وقوع إذا الفجائية جوابا لإذا الشرطية ، قال تعالى : ( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا ) ، وما بعد إذا الفجائية لا يعمل فيما قبلها ، وحذف فاعل القول هنا للإبهام ، فيحتمل أن يكون الله - تعالى - أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو بعض المؤمنين ، وكل من هذا قد قيل ، والمفعول الذي لم يسم فاعله ، فظاهر الكلام أنها الجملة المصدرة بحرف النهي وهي : ( لا تفسدوا في الأرض ) ، إلا أن ذلك لا يجوز إلا على مذهب من أجاز وقوع الفاعل جملة ، وليس مذهب جمهور البصريين . وقد تقدمت المذاهب في ذلك عند الكلام على قوله تعالى : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) ، والمفعول الذي لم يسم فاعله في ذلك حكمه حكم الفاعل ، وتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو مضمر تقديره هو ، يفسره سياق الكلام كما فسر المضمر في قوله تعالى : ( حتى توارت بالحجاب ) سياق الكلام والمعنى ، وإذا قيل لهم قول شديد فأضمر هذا القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة ، فلا موضع لها من الإعراب لأنها مفسرة لذلك المضمر الذي هو القول الشديد ، ولا جائز أن يكون لهم في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله لأنه لا ينتظم منه مع ما قبله كلام ; لأنه يبقى لا تفسدوا لا ارتباط له ، إذ لا يكون معمولا للقول مفسرا له . وزعم الزمخشري أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجملة التي هي : لا تفسدوا ، وجعل ذلك من باب الإسناد اللفظي ونظره بقولك ألف حرف من ثلاثة أحرف ، ومنه زعموا مطية الكذب ، قال : كأنه قيل ، وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام ، انتهى . فلم يجعله من باب الإسناد إلى معنى الجملة لأن ذلك لا يجوز على مذهب جمهور البصريين ، فعدل إلى الإسناد اللفظي ، وهو الذي لا يختص به الاسم بل يوجد في الاسم والفعل والحرف والجملة ، وإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى الإسناد اللفظي ، وقد أمكن ذلك بالتخريج الذي ذكرناه . واللام في قوله : لهم ، للتبليغ ، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها للام عند كلامنا على قوله تعالى : ( الحمد لله ) . وإفسادهم في الأرض بالكفر ، قاله ابن عباس ، أو المعاصي ، قاله أبو العالية ومقاتل ، أو بهما ، قاله السدي عن أشياخه ، أو بترك امتثال الأمر واجتناب النهي ، قاله مجاهد ، أو بالنفاق الذي صافوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين ، ذكره علي بن عبيد الله ، أو بإعراضهم عن الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن ، [ ص: 65 ] أو بقصدهم تغيير الملة ، قاله الضحاك ، أو باتباعهم هواهم وتركهم الحق مع وضوحه ، قاله بعضهم . وقال الزمخشري : الإفساد في الأرض تهييج الحروب والفتن ، قال : لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية ، قال تعالى : ( ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ) ، ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) ، ومنه قيل لحرب كانت بين طيئ : حرب الفساد ، انتهى كلامه . ووجه الفساد بهذه الأقوال التي قيلت أنها كلها كبائر عظيمة ومعاص جسيمة ، وزادها تغليظا إصرارهم عليها ، والأرض متى كثرت معاصي أهلها وتواترت قلت خيراتها ونزعت بركاتها ومنع عنها الغيث الذي هو سبب الحياة ، فكان فعلهم الموصوف أقوى الأسباب لفساد الأرض وخرابها . كما أن الطاعة والاستغفار سبب لكثرة الخيرات ونزول البركات ونزول الغيث ، ألا ترى قوله تعالى : ( فقلت استغفروا ربكم ) ، ( وأن لو استقاموا على الطريقة ) ، ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا ) ، ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ) ، الآيات . وقد قيل في تفسيره ما روي في الحديث من أن الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب ، إن معاصيه يمنع الله بها الغيث ، فيهلك البلاد والعباد لعدم النبات وانقطاع الأقوات . والنهي عن الإفساد في الأرض من باب النهي عن المسبب ، والمراد النهي عن السبب . فمتعلق النهي حقيقة هو مصافاة الكفار وممالأتهم على المؤمنين بإفشاء السر إليهم وتسليطهم عليهم ، لإفضاء ذلك إلى هيج الفتن المؤدي إلى الإفساد في الأرض ، فجعل ما رتب على المنهي عنه حقيقة منهيا عنه لفظا . والنهي عن الإفساد في الأرض هنا كالنهي في قوله تعالى : ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) . وليس ذكر الأرض لمجرد التوكيد بل في ذلك تنبيه على أن هذا المحل الذي فيه نشأتكم وتصرفكم ، ومنه مادة حياتكم ، وهو سترة أمواتكم ، جدير أن لا يفسد فيه ، إذ محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) وقال تعالى : ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ) ، وقال تعالى : ( والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم ) ، وقوله تعالى : ( أنا صببنا الماء صبا ) ، الآية . إلى غير ذلك من الآيات المنبهة على الامتنان علينا بالأرض ، وما أودع الله فيها من المنافع التي لا تكاد تحصى . وقابلوا النهي عن الإفساد بقولهم : ( إنما نحن مصلحون ) ، فأخرجوا الجواب جملة اسمية لتدل على ثبوت الوصف لهم ، وأكدوها بإنما دلالة على قوة اتصافهم بالإصلاح . وفي المعنى الذي اعتقدوا أنهم مصلحون أقوال : أحدها : قول ابن عباس : إن ممالأتنا الكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين . والثاني : قول مجاهد وهو : أن تلك الممالأة هدى وصلاح وليست بفساد . والثالث : أن ممالأة النفس والهوى صلاح وهدى . والرابع : أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحا لهم ، وليس كذلك لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم ، ولذلك قال : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) . والخامس : أنهم أنكروا أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار ، وقالوا : ( إنما نحن مصلحون ) باجتناب ما نهينا عنه . والذي نختاره أنه لا يتعين شيء من هذه الأقوال ، بل يحمل النهي على كل فرد من أنواع الإفساد ، وذلك أنهم لما ادعوا الإيمان وأكذبهم الله في ذلك وأعلم بأن إيمانهم مخادعة ، كانوا يكونون بين حالين ، إحداهما : أن يكونوا مع عدم إيمانهم موادعين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين ، والحالة الأخرى أن يكونوا مع عدم إيمانهم يسعون بالإفساد بالأرض لتفرق كلمة الإسلام وشتات نظام الملة ، فنهوا عن ذلك وكأنهم قيل لهم : إن كنتم قد قنع منكم بالإقرار بالإيمان ، وإن لم تؤمن قلوبكم فإياكم والإفساد في الأرض ، فلم يجيبوا بالامتناع من الإفساد ، بل أثبتوا لأنفسهم أنهم مصلحون وأنهم ليسوا [ ص: 66 ] محلا للإفساد ، فلا يتوجه النهي عن الإفساد نحوهم لاتصافهم بضده وهو الإصلاح . كل ذلك بهت منهم وكذب صرف على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم . ولما كانوا قد قابلوا النهي عن الإفساد بدعوى الإصلاح الكاذبة أكذبهم الله بقوله : ( ألا إنهم هم المفسدون ) ، فأثبت لهم ضد ما ادعوه مقابلا لهم ذلك في جملة اسمية مؤكدة بأنواع من التأكيد منها التصدير بإن وبالمجيء بهم ، وبالمجيء بالألف واللام التي تفيد الحصر عند بعضهم . وقال الجرجاني : دخلت الألف واللام في قوله المفسدون لما تقدم ذكر اللفظة في قوله لا تفسدوا ، فكأنه ضرب من العهد ، ولو جاء الخبر عنهم ولم يتقدم من اللفظة ذكر لكان ( ألا إنهم هم المفسدون ) ، انتهى كلامه ، وهو حسن . واستفتحت الجملة بألا منبهة على ما يجيء بعدها لتكون الأسماع مصغية لهذا الإخبار الذي جاء في حقهم ، ويحتمل هم أن يكون تأكيدا للضمير في أنهم وإن كان فصلا ، فعلى هذين الوجهين يكون المفسدون خبرا لأن ، وأن يكون مبتدأ ويكون المفسدون خبره . والجملة خبر لإن ، وقد تقدم ذكر فائدة الفصل عند الكلام على قوله : ( وأولئك هم المفلحون ) . وتحقيق الاستدراك هنا في قوله : ( ولكن لا يشعرون ) ، هو أن الإخبار عنهم أنهم هم المفسدون يتضمن علم الله ذلك ، فكان المعنى أن الله قد علم أنهم هم المفسدون ، ولكن لا يعلمون ذلك ، فوقعت لكن إذ ذاك بين متنافيين ، وجهة الاستدراك أنهم لما نهوا عن إيجاد مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك ، وأخبر الله عنهم أنهم هم المفسدون ، كانوا حقيقين بأن يعلموا أن ذلك كما أخبر الله - تعالى - وأنهم لا يدعون أنهم مصلحون ، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بذلك . تقول : زيد جاهل ولكن لا يعلم ، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل وصار وصفا قائما بزيد ، كان ينبغي لزيد أن يكون عالما بهذا الوصف الذي قام به ، إذ الإنسان ينبغي أن يعلم ما اشتمل عليه من الأوصاف ، فاستدرك عليه بلكن ، لأنه مما كثر في القرآن ويغمض في بعض المواضع إدراكه . قالوا : ومفعول يشعرون محذوف لفهم المعنى تقديره أنهم مفسدون ، أو أنهم معذبون ، أو أنهم ينزل بهم الموت فتنقطع التوبة ، والأولى الأول ، ويحتمل أن لا ينوى محذوف فيكون قد نفي عنهم الشعور من غير ذكر متعلقه ولا نية ، وهو أبلغ في الذم ، جعلوا لدعواهم ما هو إفساد إصلاحا ممن انتفى عنه الشعور وكأنهم من البهائم ; لأن من كان متمكنا من إدراك شيء فأهمل الفكر والنظر حتى صار يحكم على الأشياء الفاسدة بأنها صالحة ، فقد انتظم في سلك من لا شعور له ولا إدراك ، أو من كابر وعاند فجعل الحق باطلا ، فهو كذلك أيضا . وفي قوله تعالى : ( ولكن لا يشعرون ) تسلية عن كونهم لا يدركون الحق ، إذ من كان من أهل الجهل فينبغي للعالم أن لا يكترث بمخالفته . والكلام على قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم آمنوا ) ، كالكلام على قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا ) من حيث عطف هذه الجملة على سبيل الاستئناف ، أو عطفها على صلة من قوله : من يقول ، أو عطفها على يكذبون ، ومن حيث العامل في إذا ، ومن حيث حكم الجملة بعد إذا ، ومن حيث المفعول الذي لم يسم فاعله . واختلف في القائل لهم آمنوا ، فقال ابن عباس : الصحابة ، ولم يعين أحدا منهم ، وقال مقاتل : قوم مخصوصون منهم وهم : سعد بن معاذ وأبو لبابة وأسيد بن الحضير . ولما نهاهم تعالى عن الإفساد أمرهم بالإيمان لأن الكمال يحصل بترك ما لا ينبغي وبفعل ما ينبغي ، وبدئ بالمنهي عنه لأنه الأهم ، ولأن المنهيات عنها هي من باب التروك ، والتروك أسهل في الامتثال من امتثال المأمورات بها . والكاف من قوله : ( كما آمن الناس ) في موضع نصب ، وأكثر المعربين يجعلون ذلك نعتا لمصدر محذوف التقدير عندهم : آمنوا إيمانا كما آمن الناس ، وكذلك يقولون : في سير عليه شديدا ، أو : سرت حثيثا ، إن شديدا وحثيثا نعت لمصدر محذوف ، التقدير : سير عليه سيرا شديدا ، وسرت [ ص: 67 ] سيرا حثيثا . ومذهب سيبويه ، رحمه الله ، أن ذلك ليس بنعت لمصدر محذوف ، وإنما هو منصوب على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم المحذوف بعد الإضمار على طريق الاتساع ، وإنما لم يجز ذلك لأنه يؤدي إلى حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير المواضع التي ذكروها . وتلك المواضع أن تكون الصفة خاصة بجنس الموصوف ، نحو : مررت بكاتب ومهندس ، أو واقعة خبرا ، نحو : زيد قائم ، أو حالا ، نحو : مررت بزيد راكبا ، أو وصفا لظرف ، نحو : جلست قريبا منك ، أو مستعملة استعمال الأسماء ، وهذا يحفظ ولا يقاس عليه ، نحو : الأبطح والأبرق . وإذا خرجت الصفة عن هذه المواضع لم تكن إلا تابعة للموصوف ، ولا يكتفى عن الموصوف ، ألا ترى أن سيبويه منع : ألا ماء ولو باردا ، وإن تقدم ما يدل على حذف الموصوف ، وأجاز : ولو باردا ، لأنه حال ، وتقرير هذا في كتب النحو .

وما من : ( كما آمن الناس ) ، مصدرية التقدير كإيمان الناس ، فينسبك من ما والفعل بعدها مصدر مجرور بكاف التشبيه التي هي نعت لمصدر محذوف ، أو حال على القولين السابقين ، وإذا كانت ما مصدرية فصلتها جملة فعلية مصدرة بماض متصرف أو مضارع ، وشذ وصلها بليس في قول الشاعر :


بما لستما أهل الخيانة والغدر



ولا توصل بالجملة الأسمية خلافا لقوم ، منهم : أبو الحجاج الأعلم ، مستدلين بقوله :


وجدنا الحمر من شر المطايا     كما الحبطات شر بني تميم



وأجاز الزمخشري ، وأبو البقاء في ما من قوله : كما آمن ، أن تكون كافة للكاف عن العمل مثلها في : ربما قام زيد ، وينبغي أن لا تجعل كافة إلا في المكان الذي لا تتقدر فيه مصدرية ، لأن إبقاءها مصدرية مبق للكاف على ما استقر فيها من العمل ، وتكون الكاف إذ ذاك مثل حروف الجر الداخلة على ما المصدرية ، وقد أمكن ذلك في : كما آمن الناس ، فلا ينبغي أن تجعل كافة . والألف واللام في الناس يحتمل أن تكون للجنس ، فكأنه قال : الكاملون في الإنسانية ، أو عبر بالناس عن المؤمنين لأنهم هم الناس في الحقيقة ، ومن عداهم صورته صورة الناس ، وليس من الناس لعدم تمييزه ، كما قال الشاعر :


ليس من الناس ولكنه     يحسبه الناس من الناس



ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد ، ويعنى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، قاله ابن عباس ، أو عبد الله بن سلام ، ونحوه ممن حسن إسلامه من اليهود ، قاله مقاتل ، أو معاذ بن جبل ، وسعد بن معاذ ، وأسيد بن الحضير ، وجماعة من وجوه الأنصار عدهم الكلبي . والأولى حملها على العهد ، وأن يراد به من سبق إيمانه قبل قول ذلك لهم ، فيكون حوالة على من سبق إيمانه لأنهم معلومون معهودون عند المخاطبين بالأمر بالإيمان . والتشبيه في : ( كما آمن الناس ) إشارة إلى الإخلاص ، وإلا فهم ناطقون بكلمتي الشهادة غير معتقديها . أنؤمن : معمول لقالوا ، وهو استفهام معناه الإنكار أو الاستهزاء . ولما كان المأمور به مشبها كان جوابهم مشبها في قولهم : ( أنؤمن كما آمن السفهاء ) ، والقول في الكاف وما في هذا كالقول فيهما في : ( كما آمن الناس ) . والألف واللام في السفهاء للعهد ، فيعنى به الصحابة ، قاله ابن عباس ، أو الصبيان والنساء ، قاله الحسن ، أو عبد الله بن سلام وأصحابه ، قاله مقاتل ، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج تحته من فسر به الناس من المعهودين ، أو الكاملون في السفه ، أو لأنهم انحصر السفه فيهم إذ لا سفيه غيرهم . وأبعد من ذهب إلى أن الألف واللام للصفة الغالبة نحو : العيوق والدبران ; لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم ، فصاروا إذا قيل : السفهاء ، فهم منه ناس مخصوصون ، كما يفهم من العيوق نجم مخصوص . ويحتمل قولهم : ( كما آمن السفهاء ) أن يكون ذلك من باب التعنت والتجلد حذرا من الشماتة ، وهم عالمون بأنهم ليسوا بسفهاء . ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاعتقاد الجزم عندهم ، فيكونوا قد [ ص: 68 ] نسبوهم للسفه معتقدين أنهم سفهاء ، وذلك لما أخلوا به من النظر والفكر الصحيح المؤدي إلى إدراك الحق ، وهم كانوا في رئاسة ويسار ، وكان المؤمنون إذ ذاك أكثرهم فقراء وكثير منهم موال ، فاعتقدوا أن من كان بهذه المثابة كان من السفهاء لأنهم اشتغلوا ما لا يجدي عندهم وكسلوا عن طلب الرئاسة والغنى وما به السؤدد في الدنيا ، وذلك هو غاية السفه عندهم . وفي قوله : ( كما آمن السفهاء ) إثبات منهم في دعواهم بسفه المؤمنين أنهم موصوفون بضد السفه ، وهو رزانة الأحلام ورجحان العقول ، فرد الله عليهم قولهم وأثبت أنهم هم السفهاء ، وصدر الجملة بألا التي للتنبيه لينادي عليهم المخاطبين بأنهم السفهاء ، وأكد ذلك بإن وبلفظ هم . وإذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو : السفهاء ألا ، ففي ذلك أوجه . أحدها : تحقيق الهمزتين ، وبذلك قرأ الكوفيون ، وابن عامر . والثاني : تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا كحالها إذا كانت مفتوحة قبلها ضمة في كلمة نحو : أؤاتي مضارع آتى ، فاعل من أتيت ، وجؤن تقول : أواتي وجون ، وبذلك قرأ الحرميان وأبو عمرو . والثالث : تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو ، وتحقيق الثانية . والرابع : تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وإبدال الثانية واوا . وأجاز قوم وجها . خامسا : وهو جعل الأولى بين الهمزة والواو ، وجعل الثانية بين الهمزة والواو ، ومنع بعضهم ذلك لأن جعل الثانية بين الهمزة والواو تقريبا لها من الألف ، والألف لا تقع بعد الضمة ، والأعاريب الثلاثة التي جازت في : هم ، في قوله : ( هم المفسدون ) ، جائزة في : هم ، من قوله : ( هم السفهاء ) . والاستدراك الذي دلت عليه لكن في قوله : ( ولكن لا يعلمون ) ، مثله في قوله تعالى : ( ولكن لا يشعرون ) ، وإنما قال هناك لا يشعرون وهنا لا يعلمون لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد ، وهو مما يدرك بأدنى تأمل ; لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير ، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر ، وهي الحواس ، مبالغة في تجهيلهم ، وهو أن الشعور الذي قد يثبت للبهائم منفي عنهم ، والمثبت هنا هو السفه ، والمصدر به هو الأمر بالإيمان ، وذلك مما يحتاج إلى إمعان فكر واستدلال ونظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ، ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم ، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالمأمور ، قال السموأل :


نخاف أن تسفه أحلامنا     فنجهل الجهل مع الجاهل



والعلم نقيض الجهل ، فقابله بقوله : لا يعلمون ; لأن عدم العلم بالشيء جهل به . قرأ ابن السميفع اليماني وأبو حنيفة : ( وإذا لاقوا الذين ) ، وهي فاعل بمعنى الفعل المجرد ، وهو أحد معاني فاعل الخمسة ، والواو المضمومة في هذه القراءة هي واو الضمير تحركت لسكون ما بعدها ، ولم تعد لام الكلمة المحذوفة لعروض التحريك في الواو ، واللقاء يكون بموعد وبغير موعد ، فإذا كان بغير موعد سمي مفاجأة ومصادفة ، وقولهم لمن لقوا من المؤمنين : آمنا ، بلفظ مطلق الفعل غير مؤكد بشيء تورية منهم وإيهاما ، فيحتمل أن يريدوا به الإيمان بموسى وبما جاء به دون غيره ، وذلك من خبثهم وبهتهم ، ويحتمل أن يريدوا به الإيمان المقيد في قولهم : ( آمنا بالله وباليوم الآخر ) ، وليسوا بصادقين في ذلك ، ويحتمل أن يريدوا بذلك ما أظهروه بألسنتهم من الإيمان ، ومن اعترافهم حين اللقاء ، وسموا ذلك إيمانا ، وقلوبهم عن ذلك صارفة معرضة .

التالي السابق


الخدمات العلمية