الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                [ ص: 468 ] [سورة الناس] 50 مكية، وقيل: مدنية، وآياتها 6 نزلت بعد [الفلق]

                                                                                                                                                                                                بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس

                                                                                                                                                                                                قرئ: قل أعوذ

                                                                                                                                                                                                بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام، ونحوه: فخذ أربعة [البقرة: 260]. فإن قلت: لم قيل: برب الناس مضافا إليهم خاصة؟ قلت: لأن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس، فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم، وهو إلههم ومعبودهم، كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم. فإن قلت: ملك الناس إله الناس ما هما من رب الناس؟ قلت: هما عطف بيان، كقولك: سيرة أبي حفص عمر الفاروق. بين بملك الناس، ثم زيد بيانا بإله الناس؛ لأنه قد يقال لغيره: رب الناس، كقوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [التوبة: 31]. وقد يقال: ملك الناس. وأما إله الناس فخاص لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان. فإن قلت: فهلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرة واحدة؟ قلت: لأن عطف البيان للبيان، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار الوسواس اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة. وأما المصدر فوسواس بالكسر كزلزال. المراد به الشيطان، سمي [ ص: 469 ] بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه. أو أريد ذو الوسواس. والوسوسة: الصوت الخفي. ومنه: وسواس الحلي. و الخناس الذي عادته أن يخنس، منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والبتات، لما روي عن سعيد بن جبير : إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى، فإذا غفل وسوس إليه.

                                                                                                                                                                                                الذي يوسوس يجوز في محله الحركات الثلاث، فالجر على الصفة، والرفع والنصب على الشتم، ويحسن أن يقف القارئ على الخناس ويبتدئ الذي يوسوس على أحد هذين الوجهين من الجنة والناس بيان للذي يوسوس، على أن الشيطان ضربان: جني وإنسي، كما قال: شياطين الإنس والجن [الأنعام: 112]. وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال لرجل: هل تعوذت بالله من شيطان الإنس؟ ويجوز أن يكون: "من" متعلقا ب "يوسوس"، ومعناه: ابتداء الغاية، أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجن ومن جهة الناس، وقيل: من الجنة والناس بيان للناس، وأن اسم الناس ينطلق على الجنة، واستدلوا بـ (نفر) و (رجال): في سورة الجن. وما أحقه; لأن الجن سموا "جنا" لاجنتانهم، والناس "ناسا" لظهورهم، من الإيناس وهو الإبصار، كما سموا بشرا; ولو كان يقع على الناس على القبيلين، وصح ذلك وثبت: لم يكن مناسبا لفصاحة القرآن وبعده من التصنع. وأجود منه أن يراد بالناس: الناسي، كقوله: يوم يدع الداع [القمر: 6]. كما قرئ: من حيث أفاض الناس [البقرة: 199]. ثم يبين بالجنة والناس; لأن الثقلين هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله عز وجل.

                                                                                                                                                                                                عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد أنزلت علي سورتان ما أنزل مثلهما، وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما " يعني: المعوذتين. ويقال للمعوذتين: المقشقشتان.

                                                                                                                                                                                                قال عبد الله الفقير إليه: وأنا أعوذ بهما وبجميع كلمات الله الكاملة التامة، وألوذ [ ص: 470 ] بكنف رحمته الشاملة العامة من كل ما يكلم الدين ويثلم اليقين، أو يعود في العاقبة بالندم، أو يقدح في الإيمان المسوط باللحم والدم، وأسأله بخضوع العنق وخشوع البصر، ووضع الخد لجلاله الأعظم الأكبر، مستشفعا إليه بنوره الذي هو الشيبة في الإسلام، متوسلا بالتوبة الممحصة للآثام، وبما عنيت به من مهاجرتي إليه ومجاورتي ومرابطتي بمكة ومصابرتي على تواكل من القوى، وتخاذل من الخطأ، ثم أسأله بحق صراطه المستقيم وقرآنه المجيد الكريم وبما لقيت من كدح اليمين وعرق الجبين في عمل الكشاف عن حقائقه المخلص عن مضايقه المطلع على غوامضه المثبت في مداحضه الملخص لنكته ولطائف نظمه المنقر عن نقره وجواهر علمه المكتنز بالفوائد المفتنة التي لا توجد إلا فيه، المحيط بما لا يكتنه من بدع ألفاظه ومعانيه مع الإيجاز الحاذف للفضول وتجنب المستكره المملول; ولو لم يكن في مضمونه إلا إيراد كل شيء على قانونه لكفى به ضالة ينشدها محققة الأخبار، وجوهره يتمنى العثور عليها غاصة البحار وبما شرفني به ومجدني واختصني بكرامته وتوحدني من ارتفاع على يدي في مهبط بشاراته ونذره ومتنزل آياته وسوره من البلد الأمين بين ظهراني الحرم وبين يدي البيت المحرم حتى وقع التأويل حيث وجد التنزيل: أن يهب لي خاتمة الخير ويقيني مصارع السوء ويتجاوز عن فرطاتي يوم التناد، ولا يفضحني بها على رؤوس الأشهاد; ويحلني دار المقامة من فضله بواسع طوله وسابغ نوله، إنه هو الجواد الكريم الرؤوف الرحيم.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية