الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله : ( والله يغضب ويرضى ، لا كأحد من الورى ) .

ش : قال تعالى : رضي الله عنهم [ المائدة : 119 ] [ المجادلة : 22 ] [ البينة : 8 ] . لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [ الفتح : 18 ] . وقال تعالى : من لعنه الله وغضب عليه [ المائدة : 60 ] . وغضب الله عليه ولعنه [ النساء : 93 ] . وباءوا بغضب من الله [ البقرة : 61 ] . ونظائر ذلك كثيرة .

[ ص: 685 ] ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب ، والرضى ، والعداوة ، والولاية ، والحب ، والبغض ، ونحو ذلك من الصفات ، التي ورد بها الكتاب والسنة ، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى . كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات ، كما أشار إليه الشيخ فيما تقدم بقوله : إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية - ترك التأويل ، ولزوم التسليم ، وعليه دين المسلمين .

وانظر إلى جواب الإمام مالك رضي الله عنه في صفة الاستواء كيف قال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول . وروي أيضا عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفا عليها ، ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

وكذلك قال الشيخ رحمه الله فيما تقدم : من لم يتوق النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه . ويأتي في كلامه أن الإسلام بين الغلو والتقصير ، وبين التشبيه والتعطيل .

فقول الشيخ رحمه الله : لا كأحد من الورى ، نفي التشبيه . ولا يقال : إن الرضى إرادة الإحسان ، والغضب إرادة الانتقام - فإن هذا نفي للصفة . وقد اتفق أهل السنة على أن الله يأمر بما يحبه ويرضاه ، وإن كان لا يريده ولا يشاؤه ، وينهى عما يسخطه ويكرهه ، ويبغضه ويغضب على فاعله ، وإن كان قد شاءه وأراده . فقد يحب عندهم ويرضى ما لا يريده ، ويكره ويسخط ويغضب لما أراده .

[ ص: 686 ] ويقال لمن تأول الغضب والرضى بإرادة الإحسان : لم تأولت ذلك ؟ فلابد أن يقول : لأن الغضب غليان دم القلب ، والرضى الميل والشهوة ، وذلك لا يليق بالله تعالى ! فيقال له : غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب ، لا أنه الغضب . ويقال له أيضا : وكذلك الإرادة والمشيئة فينا ، فهي ميل الحي إلى الشيء أو إلى ما يلائمه ويناسبه ، فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة ، وهو محتاج إلى ما يريده ومفتقر إليه ، ويزداد بوجوده ، وينتقص بعدمه . فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء ، فإن جاز هذا جاز ذاك ، وإن امتنع هذا امتنع ذاك .

فإن قال : الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد ، وإن كان كل منهما حقيقة ؟ قيل له : فقل : إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد ، وإن كان كل منهما حقيقة . فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات ، لم يتعين التأويل ، بل يجب تركه ، لأنك تسلم من التناقض ، وتسلم أيضا من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب . فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام ، ولا يكون الموجب للصرف ما دله عليه عقله ، إذ العقول مختلفة ، فكل يقول إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر !

وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله تعالى ، لامتناع مسمى ذلك في المخلوق ، فإنه لا بد أن يثبت شيئا لله تعالى [ ص: 687 ] على خلاف ما يعهده حتى في صفة الوجود ، فإن وجود العبد كما يليق به ، ووجود الباري تعالى كما يليق به ، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم ، ووجود المخلوق لا يستحيل عليه العدم ، وما سمى به الرب نفسه وسمى به مخلوقاته ، مثل الحي والعليم والقدير ، أو سمى به بعض صفاته ، كالغضب والرضى ، وسمى به بعض صفات عباده - : فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله تعالى ، وأنه حق ثابت موجود ، ونعقل أيضا معاني هذه الأسماء في حق المخلوق ، ونعقل أن بين المعنيين قدرا مشتركا ، لكن هذا المعنى لا يوجد في الخارج مشتركا ، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركا إلا في الأذهان ، ولا يوجد في الخارج إلا معينا مختصا . فيثبت في كل منهما كما يليق به . بل لو قيل : غضب مالك خازن النار وغضب غيره من الملائكة - : لم يجب أن يكون مماثلا لكيفية غضب الآدميين ، لأن الملائكة ليسوا من الأخلاط الأربعة ، حتى تغلي دماء قلوبهم كما يغلي دم قلب الإنسان عند غضبه . فغضب الله أولى .

وقد نفى الجهم ومن وافقه كل ما وصف الله به نفسه ، من كلامه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه وأسفه ونحو ذلك ، وقالوا : إنما هي أمور مخلوقة منفصلة عنه ، ليس هو في نفسه متصفا بشيء من ذلك ! !

وعارض هؤلاء من الصفاتية ابن كلاب ومن وافقه ، فقالوا : لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلا ، بل جميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته ، قديمة أزلية ، فلا يرضى في وقت دون وقت ، ولا يغضب في وقت دون وقت . كما قال في حديث الشفاعة : إن [ ص: 688 ] ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا .

فيستدل به على أنه يحل رضوانه في وقت دون وقت ، وأنه قد يحل رضوانه ثم يسخط ، كما يحل السخط ثم يرضى ، لكن هؤلاء أحل عليهم رضوانا لا يتعقبه سخط .

وهم قالوا : لا يتكلم إذا شاء ، ولا يضحك إذا شاء ، ولا يغضب إذا شاء ، ولا يرضى إذا شاء ، بل إما أن يجعلوا الرضى والغضب والحب والبغض هو الإرادة ، أو يجعلوها صفات أخرى ، وعلى التقديرين فلا يتعلق شيء من ذلك لا بمشيئته ولا بقدرته ، إذ لو تعلقت بذلك لكان محلا للحوادث ! ! فنفى هؤلاء الصفات الفعلية الذاتية بهذا الأصل ، كما نفى أولئك الصفات مطلقا بقولهم ليس محلا للأعراض . وقد يقال : بل هي أفعال ، ولا تسمى حوادث ، كما سميت [ ص: 689 ] تلك صفات ، ولم تسم أعراضا . وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى ، ولكن الشيخ رحمه الله لم يجمع الكلام في الصفات في المختصر في مكان واحد ، وكذلك الكلام في القدر ونحو ذلك ، ولم يعتن فيه بترتيب .

وأحسن ما يرتب عليه كتاب أصول الدين ترتيب جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام ، حين سأله عن الإيمان ، فقال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر ، الحديث - فيبدأ بالكلام على التوحيد والصفات وما يتعلق بذلك ، ثم بالكلام على الملائكة ، ثم وثم ، إلى آخره .

التالي السابق


الخدمات العلمية