الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 493 ] سورة الحاقة

                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: فهو في عيشة راضية (21) في جنة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية

                                                                                                                                                                                              فالأشقياء في البرزخ في عيش ضنك، قال الله تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا

                                                                                                                                                                                              وقد روي عن أبي سعيد الخدري ، مرفوعا وموقوفا: أن المعيشة الضنك عذاب القبر . يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويسلط عليه تسعة وتسعون تنينا .

                                                                                                                                                                                              وأما عيشهم في الآخرة فأضيق وأضيق فأما من طاب عيشه بعد الموت فإن طيب عيشه لا ينقطع بل كلما جاء تزايد طيبه . ولهذا سئل بعضهم: من أنعم الناس؟ فقال: أجسام في التراب قد أمنت العذاب فانتظرت الثواب فهذا في البرزخ في عيش طيب .

                                                                                                                                                                                              ورئي معروف في المنام بعد موته وهو ينشد:


                                                                                                                                                                                              موت التقي حياة لا نفاد لها . قد مات قوم وهم في الناس أحياء



                                                                                                                                                                                              وكان إبراهيم بن أدهم ينشد:


                                                                                                                                                                                              ما أحد أنعم من مفرد .     في قبره أعماله تؤنسه
                                                                                                                                                                                              منعم الجسم وفي روضة .     زينها الله فهي مجلسه



                                                                                                                                                                                              [ ص: 494 ] رئي بعض الصالحين في المنام بعد موته، فقال: نحن بحمد الله في برزخ محمود، نفترش فيه الريحان ونوسد فيه السندس والإستبرق إلى يوم النشور .

                                                                                                                                                                                              رئي بعض الموتى في المنام فسئل عن حال الفضيل بن عياض ، فقال: كسي حلة لا تقوم لها الدنيا بحواشيها .

                                                                                                                                                                                              فأما عيش المتقين في الجنة فلا يحتاج أن يسأل عن طيبه ولذته، ويكفي في ذلك قوله تعالى: فهو في عيشة راضية في جنة عالية ومعنى راضية: أي: عيشة يحصل بها الرضى .

                                                                                                                                                                                              وفسر ابن عباس : هنيئا: بأنه لا موت فيها يشير إلى أنه لم يهنهم العيش إلا بعد الموت والخلود فيها .

                                                                                                                                                                                              قال يزيد الرقاشي : أمن أهل الجنة الموت فطاب لهم العيش، وأمنوا من الأسقام فهنيئا لهم في جوار الله طول المقام .

                                                                                                                                                                                              وقال الله تعالى: إن المتقين في جنات وعيون إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق إلى آخرها . أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه وسرره وقصوره مسيرة ألفي عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وأعلاهم من ينظر إلى وجه ربه بكرة وعشيا .

                                                                                                                                                                                              وقال طائفة من السلف: إن المؤمن له باب في الجنة من داره إلى دار السلام، يدخل على ربه إذا شاء بلا إذن .

                                                                                                                                                                                              قال أبو سليمان الداراني : وإذا أتاه رسول من رب العزة بالتحية واللطف فلا يصل إليه حتى يستأذن عليه يقول للحاجب: استأذن لي على ولي الله . فإني لست أصل إليه . فيعلم ذلك الحاجب حاجبا آخر حتى يصل إليه فذلك [ ص: 495 ] قوله تعالى: وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا


                                                                                                                                                                                              فلله ذاك العيش بين خيامها .     وروضاتها والثغر في الروض يبسم
                                                                                                                                                                                              ولله كم من خيرة إن تبسمت     أضاء لها نور من الفجر أعظم
                                                                                                                                                                                              ولله واديها الذي هو موعد الـ     مزيد لوفد الحب لو كنت منهم
                                                                                                                                                                                              بذيالك الوادي يهيم صبابة     محب يرى أن الصبابة مغنم
                                                                                                                                                                                              ولله أفراح المحبين عندما     يخاطبهم مولاهم ويسلم
                                                                                                                                                                                              ولله أبصار ترى الله جهرة     فلا الغيم يغشاها ولا هي تسأم
                                                                                                                                                                                              فيا نظرة أهدت إلى القلب نظرة     أمن بعدها يسلو المحب المتيم
                                                                                                                                                                                              فروحك قرب إن أردت وصالهم     فما غلبت نظرة تشري بروحك منهم
                                                                                                                                                                                              وأقدم ولا تقنع بعيش منغص     فما فاز باللذات من ليس يقدم
                                                                                                                                                                                              فصم يومك الأدنى لعلك في غد     تفوز بعيد الفطر والناس صوم
                                                                                                                                                                                              فيا بائعا هذا ببخس معجل     كأنك لا تدري بلى سوف تعلم
                                                                                                                                                                                              فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة     وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم



                                                                                                                                                                                              * * *

                                                                                                                                                                                              الصائمون على طبقتين:

                                                                                                                                                                                              إحداهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى، يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يخيب معه من عامله، بل يربح عليه أعظم الربح، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل: "إنك لن تدع شيئا اتقاء الله إلا آتاك الله خيرا منه " خرجه الإمام أحمد ، فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب [ ص: 496 ] ونساء، قال الله تعالى: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين .

                                                                                                                                                                                              قال يعقوب بن يوسف الحنفي: بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة: يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم وخفقت بطونكم; كونوا اليوم في نعيمكم . وتعاطوا الكأس فيما بينكم، و كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية

                                                                                                                                                                                              وقال الحسن: تقول الحوراء لولي الله وهو متكئ معها على نهر العسل تعاطيه الكأس: إن الله نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين، وأنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش، فباهى بك الملائكة، وقال: انظروا إلى عبدي ترك زوجته وشهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي، رغبة فيما عندي، اشهدوا أنى قد غفرت له; فغفر لك يومئذ وزوجنيك .

                                                                                                                                                                                              وفي "الصحيحين " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن في الجنة بابا يقال له: الريان ، يدخل منه الصائمون، لا يدخل منه غيرهم " وفي رواية: "فإذا دخلوا أغلق " . وفي رواية: "من دخل منه شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا " . وفي حديث عبد الرحمن ابن سمرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه الطويل، قال: "ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا، كلما ورد حوضا منع منه، فجاءه صيام رمضان، فسقاه وأرواه " خرجه الطبراني وغيره .

                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف، عن أنس مرفوعا: "الصائمون [ ص: 497 ] ينفح من أفواههم ريح المسك، ويوضع لهم مائدة تحت العرش، يأكلون منها والناس في الحساب " .

                                                                                                                                                                                              وعن أنس موقوفا: "إن لله مائدة لم تر مثلها عين، ولم تسمع أذن، ولا خطر على قلب بشر، لا يقعد عليها إلا الصائمون " .

                                                                                                                                                                                              وعن بعض السلف، قال: بلغنا أنه يوضع للصوام مائدة يأكلون عليها والناس في الحساب، فيقولون: يا رب، نحن نحاسب وهم يأكلون؟ فيقال: إنهم طالما صاموا وأفطرتم، وقاموا ونمتم .

                                                                                                                                                                                              رأى بعضهم بشر بن الحارث في المنام وبين يديه مائدة وهو يأكل، ويقال له: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب .

                                                                                                                                                                                              كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى وانقطع صوته، فمات فرئي بعض أصحابه الصالحين في المنام فسئل عن حاله، فضحك وأنشد .


                                                                                                                                                                                              قد كسي حلة البهاء وطافت .     بأباريق حوله الخدام
                                                                                                                                                                                              ثم حلي وقيل يا قارئ ارقى .     فلعمري لقد براك الصيام



                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية