الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( والمستحب أن يجلسه إجلاسا رفيقا ، ويمسح بطنه مسحا بليغا ، لما روى القاسم بن محمد قال " توفي عبد الله بن عبد الرحمن فغسله ابن عمر فنفضه نفضا شديدا ، وعصره عصرا شديدا ، ثم غسله " ولأنه ربما كان في جوفه شيء . فإذا لم يعصره قبل الغسل خرج بعده ، وربما خرج بعدما كفن فيفسد الكفن ، وكلما أمر اليد على البطن صب عليه ماء كثيرا ، حتى إن خرج شيء لم تظهر رائحته ، ثم يبدأ فيغسل أسافله كما يفعل الحي إذا أراد الغسل ، ثم يوضأ كما يتوضأ الحي لما روت أم عطية قالت " { لما غسلنا ابنة رسول الله [ ص: 128 ] صلى الله عليه وسلم قال لنا : ابدءوا بميامنها ومواضع الوضوء } لأن الحي يتوضأ إذا أراد الغسل ، ويدخل أصبعه في فيه ، ويسوك بها أسنانه ، ولا يفغر فاه ، ويتتبع ما تحت أظفاره - إن لم يكن قد قلم أظفاره - ويكون ذلك بعود لين لا يجرحه ، ثم يغسله ، ويكون كالمنحدر قليلا حتى لا يجتمع الماء تحته فيستنقع فيه ويفسد بدنه ، ويغسله ثلاثا كما يفعل الحي في وضوئه وغسله فيبدأ برأسه ولحيته كما يفعل الحي ، فإن كانت اللحية متلبدة سرحها حتى يصل الماء إلى الجميع ، ويكون بمشط منفرج الأسنان ويمشطه برفق حتى لا ينتف شعره ، ثم يغسل شقه الأيمن حتى ينتهي إلى رجله ، ثم شقه الأيسر حتى ينتهي إلى رجله ، ثم يحرفه على جنبه الأيسر ، فيغسل جانب ظهره كذلك لحديث أم عطية .

                                      والمستحب أن تكون الغسلة الأولى بالماء والسدر ، لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قال في المحرم الذي خر من بعيره : اغسلوه بماء وسدر } ولأن السدر ينظف الجسم ; ثم يغسل بالماء القراح ويجعل في الغسلة الأخيرة شيئا من الكافور ، لما روت أم سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " { إذا كان في آخر غسلة من الثلاث أو غيرها فاجعلي فيه شيئا من الكافور } ولأن الكافور يقويه ، وهل يحتسب الغسل بالسدر من الثلاث أم لا ؟ فيه وجهان . قال أبو إسحاق : يعتد به لأنه غسل بما لم يخالطه شيء ، ومن أصحابنا من قال : لا يعتد به لأنه ربما غلب عليه السدر ، فعلى هذا يغسل ثلاث مرات أخر بالماء القراح والواجب منها مرة واحدة كما قلنا في الوضوء . ويستحب أن يتعاهد إمرار اليد على البطن في كل مرة ، فإن غسل الثلاث ولم يتنظف زاد حتى يتنظف ، والسنة أن يجعله وترا خمسا أو سبعا ، لما روت أم عطية { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اغسلنها وترا ، ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن } " والفرض مما ذكرناه النية ، وغسل مرة واحدة ، وإذا فرغ من غسله أعيد تليين أعضائه وينشف بثوب لأنه إذا كفن وهو رطب ابتل الكفن وفسد وإن غسل ثم خرج منه شيء ففيه ثلاثة أوجه :

                                      ( أحدها ) يكفيه غسل الموضع كما لو غسل ثم أصابته نجاسة من غيره .

                                      ( والثاني ) يجب منه الوضوء لأنه حدث فأوجب الوضوء ، كحدث الحي .

                                      ( والثالث ) يجب الغسل منه ، لأنه خاتمة أمره ، فكان بطهارة كاملة وإن تعذر غسله لعدم الماء أو غيره يمم لأنه تطهير لا يتعلق بإزالة عين ، فانتقل فيه عند العجز إلى التيمم كالوضوء وغسل الجنابة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) فيه مسائل : ( إحداها ) في أحاديث الفصل ، ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن أم عطية الصحابية رضي الله عنها نسيبة - بضم النون وفتحها - قالت " { دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته فقال اغسلنها ثلاثا أو [ ص: 129 ] خمسا أو أكثر من ذلك ، إن رأيتن ذلك ، بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور ، فإذا فرغتن فآذنني ، فلما فرغنا آذناه فألقى إلينا حقوه وقال : أشعرنها إياه } " وفي رواية لهما " { ابدأن بميامنها ، ومواضع الوضوء منها } " وفي رواية " { فضفرنا شعرها ثلاثة أثلاث ، قرنيها وناصيتها } " وفي رواية للبخاري " فألقيناها خلفها " وفي رواية له " { اغسلنها ثلاثة أو خمسا أو سبعا ، أو أكثر من ذلك } " وفي رواية لمسلم " أن اسم هذه البنت زينب رضي الله عنها " وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال " { بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ، إذ وقع من راحلته ، فأوقصته أو قال : فوقصته ، أو قال فأقصعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اغسلوه بماء وسدر ، وكفنوه في ثوبين ، ولا تخيطوه ولا تخمروا رأسه ، فإن الله تعالى يبعثه يوم القيامة ملبيا } وفي رواية " { ولا تمسوه طيبا ، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبدا } رواه البخاري ومسلم .

                                      ( وأما قول المصنف ) لما روت أم سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فإذا كان في آخر غسلة من الثلاث أو غيرها فاجعلي فيه شيئا من كافور " فهكذا وقع في المهذب ( أم سليم ) والمشهور المعروف في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث وغيرها أن هذا الحديث من رواية أم عطية ، كما سبق ، لا أم سليم ، وقد كررها المصنف على الصواب إلا في هذا الموضع ، وقد بحثت عنه فلم أجده عن أم سليم ، فلعله جاء في رواية غريبة عن أم سليم أيضا ، وليس هذا بعيدا ، فإن أم سليم أشد قربا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم عطية ، ومعلوم أن أم عطية لم تنفرد بالغسل ، ومما يوضح هذا قوله صلى الله عليه وسلم " واجعلن " ، " إن رأيتن " ، " اغسلنها " ، " وابدأن " ، وقولها " فضفرنا " وغير ذلك من ضمائر الجمع الموجودة في الصحيحين . فلعل أم سليم كانت من الغاسلات ، فخاطبها النبي صلى الله عليه وسلم تارة وخاطب أم عطية تارة . ( المسألة الثانية ) في ألفاظ الفصل ( قوله ) لما روى القاسم بن محمد : توفي عبد الله بن عبد الرحمن ( أما ) القاسم فهو أبو محمد ، وقيل أبو عبد الرحمن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم القرشي [ ص: 130 ] التيمي المدني التابعي الجليل أحد فقهاء المدينة السبعة ، أجمعوا على جلالته .

                                      وأما عبد الله بن عبد الرحمن فهو ابن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم ، فهو ابن عم القاسم بن محمد ، واتفقوا على توثيقه . قال البخاري في تاريخه : ورث عبد الله هذا عمته عائشة رضي الله عنها . قوله " قال لنا : ابدءوا بميامنها " كذا هو في نسخ المهذب ابدءوا بميامنها ، وكذا هو في بعض روايات البخاري ، وهو في روايات مسلم وباقي روايات البخاري : ( ابدأن ) خطابا للنسوة ، وهو ظاهر ، والأول مؤول عليه . قوله " ويسوك بها أسنانه " هو بفتح الياء وضم السين ، قوله " ويدخل أصبعه في فمه ويسوك بها أسنانه " معنى إدخالها فمه أن يجعلها بين شفتيه على أسنانه هكذا قاله الأصحاب ، وهو مفهوم من كلام المصنف . قوله " ولا يفغر فاه " هو بمثناة مفتوحة ثم فاء ساكنة ثم غين معجمة مفتوحة أي لا يفتحه ولا يرفع أسنانه بعضها عن بعض ، بل يمضمضه فوقها . المشط معروف - بضم الميم وإسكان الشين - وبضمهما وبكسر الميم وإسكان الشين ويقال : له ممشط - بكسر الميم الأولى - ومشقأ مقصور مهموز وغير مهموز وممدود أيضا ومكد وقيلم ومرجل حكاهن أبو عمر الزاهد في أول شرح الفصيح ( قوله ) خر من بعيره أي سقط ( قوله ) فاجعلي فيه شيئا من كافور ، هكذا هو في المهذب : فاجعلي ، خطابا لأم عطية وحدها ، والمشهور في روايات الحديث واجعلن بالنون ، خطابا للنسوة والماء القراح بفتح القاف وتخفيف الراء - وهو الخالص الذي لم يخالطه سدر ولا غيره ( قوله ) لأنه تطهير لا يتعلق بإزالة عين احتراز من إزالة النجاسة .

                                      ( المسألة الثالثة ) في صفة الغسل قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : يستحب أن يعد قبل الغسل خرقتين نظيفتين ، وأول ما يبدأ به إذا وضعه على المغتسل أن يجلسه إجلاسا رفيقا بحيث يكون مائلا إلى ورائه ، لا معتدلا . قال الشافعي في الأم والشيخ أبو حامد والمحاملي والبندنيجي والأصحاب إن احتاج إلى دهن ليلين ، دهنه ثم يشرع في غسله ، قال أصحابنا : ويضع [ ص: 131 ] يده اليمنى على كتفه ، وإبهامه في نقرة قفاه ، لئلا يميل رأسه ، ويسند ظهره إلى ركبته اليمنى ويمر يده اليسرى على بطنه إمرارا بليغا ليخرج الفضلات ويكون عنده مجمرة كما سبق ، ويصب عليه المعين ماء كثيرا لئلا يظهر رائحة ما يخرج ، ثم يرده إلى هيئة الاستلقاء ، ويلقيه على ظهره ورجلاه إلى القبلة ويكون الموضع منحدرا بحيث يكون رأسه أعلى ، لينحدر الماء عنه ، ولا يقف تحته ثم يغسل بيساره وهي ملفوفة بإحدى الخرقتين دبره ومذاكيره ، وما حولها ، وينجيه كما يستنجي الحي ثم يلقي تلك الخرقة ويغسل يده بماء وأشنان ، هكذا قال الجمهور : إنه يغسل الفرجين بخرقة واحدة ، وفي النهاية والوسيط أنه يغسل كل فرج بخرقة أخرى ، فتكون الخرق ثلاثا ، والمشهور خرقتان ، خرقة للفرجين ، وخرقة لباقي البدن وكذا نص عليه الشافعي في الأم ومختصر المزني والقديم ، وقال الشافعي في الجنائز الصغير يغسل بإحداهما أعلى بدنه ووجهه وصدره ثم يغسل بها مذاكيره وما بين رجليه ، ثم يأخذ الأخرى فيصنع بها مثل ذلك .

                                      قال البندنيجي : وللأصحاب طريقان ( أحدهما ) قاله أبو إسحاق في المسألة قولان ( أحدهما ) يغسل بكل واحدة منهما كل بدنه ( والثاني ) يغسل بإحداهما فرجيه ، وبالأخرى كل بدنه .

                                      ( والطريق الثاني ) يغسل بكل واحدة منهما كل بدنه ، قال وهذا هو المذهب وليس كما ادعى ، بل المذهب ما قدمناه عن الأصحاب ، ومعظم نصوص الشافعي قال أصحابنا : ثم يتعهد ما على بدنه من قذر وغيره ، فإذا فرغ مما ذكرناه لف الخرقة الأخرى على يده ، وأدخل أصبعه في فيه ، وأمرها على أسنانه بماء ، ولا يفتح أسنانه باتفاق الأصحاب مع نص الشافعي في الأم بل يمرها فوق الأسنان وينشقه بأن يدخل الماء في أنفه ولا يبالغ ، هذا مذهبنا . وقال أبو حنيفة والثوري : لا يمضمض الميت ولا ينشق ، لأن المضمضة إدارة الماء في الفم والاستنشاق جذبه بالنفس ، ولا يتأتى واحد منهما من الميت ، واستدل أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم " وموضع الوضوء منها " وهذا منها ، وبالقياس على وضوء الحي .

                                      ( وأما ) دليلهم فممنوع بل المضمضة جعل الماء في فيه فقط وكذا الاستنشاق قال القاضي أبو الطيب ولهذا لو تمضمض ثم بلع الماء جاز [ ص: 132 ] وحصلت المضمضة وإنما الإدارة من كمال المضمضة لا شرط لصحتها وقد سبق بيان حقيقة المضمضة في صفة الوضوء ، قال أصحابنا : ويدخل أصبعه بشيء من الماء في منخريه ليخرج ما فيهما من أذى ثم يوضئه كوضوء الحي ثلاثا ثلاثا مع المضمضة والاستنشاق ، قال الرافعي : ولا يكفي ما سبق من إدخال الأصبعين عن المضمضة والاستنشاق ، بل ذاك كالسواك قال : هذا مقتضى كلام الجمهور . قال : وفي الشامل وغيره ما يقتضي الاكتفاء والأول أصح قال : ويميل رأسه في المضمضة والاستنشاق لئلا يصل الماء باطنه . قال : وهل يكفي وصول الماء إلى مقاديم الثغر والمنخرين أم يوصله الداخل ؟ . حكى إمام الحرمين فيه خلافا لخوف الفساد وجزم بأن أسنانه لو كانت متراصة لا تفتح قال المصنف والأصحاب : ويتبع ما تحت أظفاره إن لم يكن قلمها ويكون ذلك بعود لين لئلا يجرحه . وهكذا نص عليه الشافعي في الأم والمختصر . قال الشافعي والأصحاب : ويتبع بهذا العود ما تحت أظافر يديه ورجليه ، وظاهر أذنيه وصماخيهما ، فإذا فرغ من وضوئه جعله كالمنحدر قليلا ، حتى لا يجتمع الماء تحته ويغسل ثلاثا كما يفعل الحي في طهارته ، فيبدأ بغسل رأسه ثم لحيته بالسدر والخطمي ، واتفق أصحابنا على أنه يستحب تقديم الرأس في هذا على اللحية . وقال النخعي : عكسه . واحتج الأصحاب بأنه إذا غسل اللحية أولا ثم غسل الرأس نزل منه الماء والسدر إلى لحيته فيحتاج إلى غسلها ثانيا ، فعكسه أرفق .

                                      وأما قول المصنف : ويبدأ برأسه ولحيته فصحيح ومراده تقديم الرأس . ولو قال : رأسه ثم لحيته . كما قال الأصحاب لكان أحسن وأبين . قال أصحابنا : ويسرح رأسه ولحيته إن كانا متلبدين بمشط واسع الأسنان . وقال المصنف وجماعة : منفرج الأسنان ، وهو بمعناه ، قالوا ويرفق في ذلك لئلا ينتتف شعره فإن انتتف رده إليه ودفنه معه . قال أصحابنا : فإذا فرغ من هذا كله غسل شقه الأيمن المقبل من عنقه وصدره وفخذه وساقه وقدمه ، ثم يغسل شقه الأيسر كذلك ، ثم يحوله إلى جنبه الأيسر فيغسل شقه الأيمن مما يلي القفا والظهر من الكفين إلى القدم ، ثم يحوله إلى جنبه الأيمن فيغسل شقه الأيسر كذلك ، هذا نص الشافعي في المختصر وبه قال جمهور الأصحاب . [ ص: 133 ] وحكى العراقيون وغيرهم قولا آخر أنه يغسل جانبه الأيمن من مقدمه ، ثم يحوله فيغسل جانبه الأيسر من مقدمه ، ثم يحوله فيغسل جانب ظهره الأيمن ثم يلقيه على ظهره فيغسل جانبه الأيسر من مقدمه ثم يحوله ليغسل جانب ظهره الأيسر قال الأصحاب : وكل واحد من هذين الطريقين سائغ ، والأول أفضل . وقال إمام الحرمين والغزالي وجماعة : يضجع أولا على جنبه الأيسر فيصب الماء على شقه الأيمن من رأسه إلى قدمه ثم يضجع على جنبه الأيمن فيصبه على شقه الأيسر والمذهب ما قدمناه ، وبه قطع الجمهور . قال الجمهور : ولا يعاد غسل الرأس ، بل يبدأ بصفحة العنق فما تحتها ، وقد حصل الرأس أولا ، قال أصحابنا ولا يكب على وجهه قالوا : وكل هذه الصفات المذكورة غسلة واحدة ، وهذه الغسلة يستحب أن تكون بالماء والسدر والخطمي ونحوهما ، ثم يصب عليه القراح ، من قرنه إلى قدمه ، ويستحب أن يغسل ثلاثا ، فإن لم تحصل النظافة زاد حتى تحصل ، فإن حصلت بوتر فلا زيادة وإن حصلت بشفع استحب الإيتار ، ودليل المسألة حديث أم عطية السابق .

                                      وقوله صلى الله عليه وسلم " أو أكثر من ذلك إن رأيتن " ومعناه إن احتجتن ، وهل يسقط الفرض بالغسلة المتغيرة بالسدر والخطمي ونحوهما ؟ فيه الوجهان المذكوران في الكتاب ( أصحهما ) لا يسقط ، هذا مختصر القول في الغسلة المتغيرة بالسدر ، وقد اضطرب كلام الأصحاب فيها ، وقد أوضحها الشيخ أبو حامد في تعليقه فقال : قال الشافعي : إن كان عليه وسخ غسله بالأشنان والسدر ، فيطرح عليه الأشنان والسدر ، فيدلكه به ثم يغسل السدر عنه ، ثم يغسله بعد ذلك بالماء القراح ، فيكون هذا غسلا واحدا وما تقدمه تنظيف . هذا لفظ الشافعي . قال الشيخ أبو حامد : ( وهذا صحيح لأن الماء إذا صب على السدر والأشنان كانا غالبين للماء فلا يعتد به غسلة حتى يغسل بالماء القراح . هذا هو المذهب . وقال أبو إسحاق : إذا غسل عنه السدر والأشنان فهذا غسل واحد . قال أبو حامد : هذا غلط ومخالف لنص الشافعي ) هذا آخر كلام أبي حامد . وهكذا قال القاضي أبو الطيب في تعليقه ، وابن الصباغ وآخرون : لا يعتد بالغسل بالماء والسدر من الثلاث بلا خلاف ، فإذا غسل [ ص: 134 ] بعد ذلك بالماء القراح وزال به أثر السدر والخطمي - ففي الاعتداد بهذه الغسلة وجهان ( أحدهما ) وهو قول أبي إسحاق المروزي - تحسب من الثلاث لأنها بماء قراح فأشبهت ما بعدها .

                                      ( والثاني ) وهو الصحيح عند جمهور المصنفين : لا يحسب منها . لأن الماء خالط السدر فهو كما قبلها . وجزم صاحب الحاوي والمحاملي في كتابيه وصاحب البيان وغيرهم بأن هذه الغسلة تحسب بلا خلاف ، وأن خلاف أبي إسحاق إنما هو في الغسلة الأولى بالماء والسدر . قال القاضي حسين والبغوي : الغسل بالماء مع السدر أو الخطمي لا يحتسب من الثلاث ، قالا : وكذا الذي يزال به السدر ، وإنما المحسوب ما يصب عليه من الماء القراح فيغسله بعد زوال السدر ثلاثا . قال البغوي : وإذا لم يتغير الماء بالسدر حسب من الثلاث . قال : ولو كان على بدنه نجاسة غسله بعد زوالها ثلاثا . واختصر الرافعي كلام الأصحاب في المسألة فقال : هل يسقط الفرض بالغسلة التي فيها سدر ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) وهو قول أبي إسحاق : يسقط ، لأن المقصود من غسل الميت التنظيف فالاستعانة بما يزيد في النظافة لا يقدح ( وأصحهما ) لا يسقط ، لأن التغير به فاحش فسلب الطهورية ، فعلى هذا في الاحتساب بالغسلة التي بعد هذه وجهان ( أصحهما ) عند الروياني : تحسب لأنه غسله بما لم يخالطه شيء ( وأصحهما ) عند الجمهور وبه قطع البغوي لا تحسب ، لأن الماء إذا أصاب المحل اختلط بالسدر وتغير به ، فعلى هذا المحسوب ما يصب من الماء القراح . هذا كلام الرافعي .

                                      فحاصل المسألة ثلاثة أوجه :

                                      ( الصحيح ) أن غسلة السدر والغسلة التي بعدها لا يحسبان من الثلاث .

                                      ( والثاني ) يحسبان .

                                      ( والثالث ) تحسب الثانية دون الأولى هذا حكم المسألة .

                                      ( وأما ) عبارة المصنف ففيها نوع إشكال لأنه قال : وهل يحسب الغسل بالسدر من الثلاث ؟ فيه وجهان ( قال ) أبو إسحاق : يعتد به لأنه غسل بما لم يخالطه شيء . ومن أصحابنا من قال : لا يعتد به ، لأنه ربما غلب عليه السدر ، فعلى هذا يغسل ثلاث مرات [ ص: 135 ] أخر بالماء القراح ، والواجب منها مرة ، هذا لفظ المصنف ، ووجه الإشكال أنه قال : لأنه غسل بما لم يخالطه شيء وهذا نوع تناقض لصورة المسألة وجوابه أن مراده أن الغسلة التي بعد السدر هل تحسب ؟ فيه الوجهان ( أحدهما ) تحسب لأن الماء المصبوب قراح ، ولا أثر لما يصيبه حال تردده على البدن ( والثاني ) لا يحسب لأنه قد يكثر السدر بحيث يغيره ، وهو مستغن عن هذا المغير والله أعلم .

                                      وإذا قلنا : لا تحسب غسلة بعدها ثلاثا ، والواجب مرة واحدة ، والثانية والثالثة سنة كما قلنا في الوضوء والغسل . ولا خلاف هنا في استحباب الثانية والثالثة نص عليه الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب وغيرهم ، وفي غسل الجنابة وجه أنه لا تستحب الثانية والثالثة ، وقد سبق ذكره في باب غسل الجنابة عن صاحب الحاوي ، ووافق صاحب الحاوي هنا على استحباب الثلاث ، لأنه خاتمة أمر الميت مع قوله صلى الله عليه وسلم " اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر " والله أعلم .

                                      قال أصحابنا : ويستحب أن يجعل في كل مرة من الغسلات كافورا في الماء القراح ، وهو في الغسلة الأخيرة آكد للحديث السابق ، ولأنه يقوي البدن وليكن قليلا لا يتفاحش التغير به ، فإن كان صلبا وتفاحش التغير به ، ففيه قولان سبقا في أول كتاب الطهارة ( أصحهما ) لا يؤثر في طهوريته في غير الميت وأما في غسل الميت فقد نص الشافعي عليه والأصحاب ، وثبت فيه الحديث الصحيح . قال القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد : فإن قيل هلا قلتم إن الكافور إذا غير الماء سلب طهوريته ؟ قلنا قال الشافعي : تغيير الكافور تغيير مجاورة لا مخالطة ، ولم يزد القاضي في الجواب على هذا ، وحاصله أنه تفريع على الصحيح ، وأحسن من ذكر السؤال وقال كلاما فيه السرخسي ; فقال في الأمالي : اختلف أصحابنا في الجواب فمنهم من قال : لا يحسب إذا تغير بالكافور ، وتأول الحديث وكلام الشافعي على كافور يسير لا يفحش تغيره ، ومنهم من حمله على ما إذا جعل الكافور في البدن ثم صب الماء القراح عليه . ومنهم من قال : هو على إطلاقه في كافور يطرح في الماء ويغيره تغييرا كثيرا ، ولكن لا يحسب ذلك على الغسلة الواجبة . ومنهم من قال : هو [ ص: 136 ] على إطلاقه كما ذكرنا ويحسب ذلك عن الفرض في غسل الميت خاصة لأن مقصوده التنظيف . هذا كلام السرخسي .

                                      وهذا الذي ذكرناه أولا من استحباب الكافور في كل غسلة هو المعروف في المذهب . وقد صرح به القاضي أبو الطيب في المجرد والبغوي والرافعي وخلائق من الأصحاب . ونص عليه الشافعي في الأم والمختصر . قال في المختصر ويجعل في كل ماء قراح كافورا وإن لم يجعل إلا في الآخرة أجزأ ذلك ، هذا لفظه في مختصر المزني . وقال في الأم في باب عدة غسل الميت : أقل ما يجزئ من غسل الميت الإنقاء . كما يكون ذلك أقل ما يجزئ في غسل الجنابة . قال : وأقل ما أحب أن يغسل ثلاثا فإن لم ينق فخمسا فإن لم ينق فسبعا . قال ولا يغسله بشيء من الماء إلا ألقى فيه كافورا للسنة فإن لم يفعل كرهته ورجوت أن يجزئه قال ولست أعرف أن يلقى في الماء ورق سدر ولا طيب غير كافور ولا غيره . ولكن يترك الماء على وجهه ويلقى فيه الكافور . هذا نصه بحروفه . وهو جميع الباب المذكور .

                                      وأما قول المصنف : ويجعل في الغسلة الأخيرة شيئا من الكافور وتخصيصه بالأخيرة فغريب في المذهب ، وإن كان موافقا لظاهر الحديث ، وأغرب منه ما ذكره الجرجاني في التحرير قال : يستحب غسله ثلاثا وأن يكون في الأولى شيء من سدر ، وفي الثانية شيء من كافور ، والثالثة بالماء القراح ، وهذا الذي قاله غلط منابذ للحديث الصحيح ، ولنصوص الشافعي والأصحاب . قال المصنف والأصحاب : والواجب مما ذكرناه غسل مرة واحدة ، وكذا النية إن أوجبناها ، ولا يحسب الغسل حتى يطهر من نجاسة إن كانت هناك ، وقد سبق بيان هذا في غسل الجنابة والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال الشافعي والمصنف والأصحاب : يستحب أن يتعاهد في كل مرة إمرار يده على بطنه ومسحه بأرفق مما قبلها ، هذا هو الصحيح المشهور ، الذي نص عليه الشافعي ، وقطع به الجمهور ، ونقل صاحب الحاوي فيه وجهين : ( أحدهما ) : هذا ( والثاني ) : وهو الأصح عنده أنه لا يمر يده على البطن إلا في ابتداء الغسل وتأول نص الشافعي بأن المراد تعاهده [ ص: 137 ] هل خرج منه شيء أم لا ؟ وهذا ضعيف مخالف للنص ولا يصح هذا التأويل .



                                      ( فرع ) قال الشافعي والمصنف والأصحاب : إذا فرغ من غسله يستحب أن يعيد تليين مفاصله وأعضائه ليسهل تكفينه ، وهذا لا خلاف فيه ، ونقل المزني في المختصر استحباب إعادة التليين في أول وضعه على المغتسل ، فقال به بعض الأصحاب وأنكره الجمهور ، قال القاضي أبو الطيب في المجرد : قال أصحابنا : هذا التليين ليس بمستحب ، ولا يعرف للشافعي في شيء من كتبه ، وإنما يفيد تليين المفاصل عقب الموت لبقاء الحرارة فيها ، فأما عند الغسل فلا فائدة فيه ، وقال الشيخ أبو حامد : هذا النقل غلط من المزني على الشافعي ، فلم يذكر الشافعي تليين الأعضاء في شيء من كتبه في هذا الموضع ، إنما ذكره بعد فراغ غسله . وقال صاحب الشامل : قال أصحابنا : هذا التليين هنا لا يعرف للشافعي ، ولا فائدة فيه ; لأنها لا تبقى لينة إلى هذا الوقت غالبا . وقال صاحب الحاوي : هذا التليين لا يوجد للشافعي في شيء من كتبه إلا فيما حكاه المزني في مختصره دون جامعه ، وترك ذلك أولى من فعله لتتماسك أعضاؤه ، وإنما قال الشافعي : أعاد تليين مفاصله عند موته ، لا عند غسله ، فلو أعاد تليينها عند غسله جاز ، هذا كلام صاحب الحاوي ، وجزم البغوي والسرخسي وغيرهما باستحباب إعادة تليينها عند الغسل ، عملا بظاهر نقل المزني .



                                      ( فرع ) قال الشافعي والأصحاب : فإذا فرغ من غسله استحب أن ينشف بثوب تنشيفا بليغا ، وهذا لا خلاف فيه ، قال الأصحاب ، والفرق بينه وبين غسل الجنابة والوضوء حيث قلنا : المذهب استحباب ترك التنشيف إن كان هنا ضرورة أو حاجة إلى التنشيف وهو أن لا يفسد الكفن .



                                      ( فرع ) إذا خرج من أحد فرجي الميت بعد غسله وقبل تكفينه نجاسة وجب غسلها بلا خلاف ، وفي إعادة طهارته ثلاثة أوجه مشهورة ( أصحها ) لا يجب شيء ; لأنه خرج عن التكليف بنقض الطهارة وقياسا على [ ص: 138 ] ما لو أصابته نجاسة من غيره فإنه يكفي غسلها بلا خلاف .

                                      ( والثاني ) : يجب أن يوضأ كما لو خرج من حي ( والثالث ) : يجب إعادة الغسل ; لأنه ينقض الطهر وطهر الميت غسل جميعه ، هذه [ هي ] العلة المشهورة ، وعلله المصنف وصاحب الشامل بأنه خاتمة أمره ، ورجح المصنف في كتابه الخلاف ، وفي التنبيه وسليم الرازي في كتابه رءوس المسائل ، والغزالي في الخلاصة ، والعبدري في الكفاية وجوب إعادة الغسل ، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ، وبه قطع سليم الرازي في الكفاية ، والشيخ نصر المقدسي في الكافي وهو مذهب أحمد بن حنبل ، وضعف المحاملي وآخرون هذا الوجه ، ونقل صاحب البيان تضعيفه عن الشيخ أبي حامد .

                                      وإيجاب الوضوء ، هو قول أبي إسحاق المروزي ، والصحيح عند أكثر الأصحاب : لا يجب غير غسل النجاسة ، صححه المحاملي في التجريد والرافعي وآخرون ، وهو قول المزني وغيره من متقدمي أصحابنا ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والثوري ، وسبب اختلاف الأصحاب أن الشافعي قال في مختصر المزني : إن خرج منه شيء أنقاه وأعاد غسله ، فقال المزني والأكثرون : إعادة الغسل مستحبة ، وقال ابن أبي هريرة واجبة وقال أبو إسحاق المروزي : يجب الوضوء . أما إذا خرجت النجاسة من الفرج بعد إدراجه في الكفن فلا يجب وضوء ولا غسل بلا خلاف ، هكذا صرح به المحاملي في التجريد والقاضي أبو الطيب في المجرد والسرخسي في الأمالي ، وصاحب العدة ، واحتج له السرخسي بأنه لو أمر بإعادة الغسل والوضوء لم يأمن مثله في المستقبل ، فيؤدي إلى ما لا نهاية له ، ولم يتعرض الجمهور للفرق بين ما قبل التكفين وبعده ، بل أرسلوا الخلاف ولكن إطلاقهم محمول على التفصيل الذي ذكره المحاملي وموافقوه ، أما إذا خرجت منه بعد الغسل نجاسة من غير الفرجين فيجب غسلها ، ولا يجب غيره بلا خلاف .

                                      وقال إمام الحرمين : إذا أوجبنا إعادة الغسل لنجاسة السبيلين ففي غيرها احتمال ، وهذا ضعيف أو باطل ، ولا فرق بين هذه النجاسة ونجاسة أجنبية [ ص: 139 ] تقع عليه وقد اتفقوا على أنه يكفي غسلها ، ولو لمس أجنبي ميتة بعد غسلها أو أجنبية ميتا بعد غسله ( فإن قلنا ) : خروج النجاسة من السبيل لا يوجب غير غسل النجاسة لم يجب هنا شيء في حق الميت والميتة بلا خلاف إذ لا نجاسة ، وإن أوجبنا هناك الوضوء أو الغسل أوجبنا هنا إن قلنا ينتقض وضوء الملموس وإلا فلا ، هكذا قاله القاضي حسين والمتولي وآخرون ، وأطلق البغوي وجوبهما ، ومراده إذا قلنا : ينتقض طهر الملموس ، كما صرح به شيخه القاضي حسين والمتولي وموافقهما ، ولو وطئت الميتة أو الميت بعد الغسل فإن قلنا : بإعادة الوضوء أو الغسل - وجب هنا الغسل ; لأنه مقتضى الوطء ، وإن قلنا : لا تجب إلا إزالة النجاسة لم يجب هنا شيء ، هكذا أطلقه القاضي وصاحباه ومتابعوهم والرافعي وغيرهم ، وينبغي أن يكون فيه خلاف مبني على نجاسة باطن الفرج ، والله أعلم . أما إذا خرج منه مني بعد غسله ، فإن قلنا : في خروج النجاسة يجب غسلها لم يجب هنا شيء ; لأن المني طاهر ، وإن قلنا : بالوجهين الآخرين وجب إعادة غسله ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال المصنف رحمه الله والأصحاب : إذا تعذر غسل الميت لفقد الماء أو احترق بحيث لو غسل لتهرى لم يغسل بل ييمم ، ، وهذا التيمم واجب ; لأنه تطهير لا يتعلق بإزالة نجاسة ، فوجب الانتقال فيه عند العجز عن الماء إلى التيمم كغسل الجنابة ، ولو كان ملدوغا بحيث لو غسل لتهرى أو خيف على الغاسل يمم لما ذكرناه ، وذكر إمام الحرمين والغزالي وآخرون من الخراسانيين أنه لو كان به قروح وخيف من غسله إسراع البلى إليه بعد الدفن ، وجب غسله ; لأن الجميع صائرون إلى البلى ، هذا تفصيل مذهبنا ، وحكى ابن المنذر فيمن يخاف من غسله تهري لحمه ولم يقدروا على غسله ، عن الثوري ومالك : يصب عليه الماء وعند أحمد وإسحاق : ييمم قال : وبه أقول .




                                      الخدمات العلمية