الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون )

                          أقول : روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن المراد بالمؤمنين هنا من يؤمن بالنبي والقرآن من أهل الكتاب ، وبالمؤمنين فيما قبلها من يؤمن من مشركي العرب ، واختاره ابن جرير وآخرون ، وعن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة : أن المؤمنين في الآيتين قسم واحد ، وهو كل مؤمن ، وإنما تعدد ما يؤمنون به ، فالعطف فيهما عطف الصفات لا عطف الموصوفين ، وثم قول ثالث شاذ ، وهو : أن الآيتين في مؤمني أهل الكتاب ، وقد بينا قول شيخنا وسيأتي شرحه . والمراد على كل رأي من قوله تعالى :

                          [ ص: 111 ] ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك ) الإيمان التفصيلي بكل ما أنزله الله تعالى في القرآن ، وأما قوله : ( وما أنزل من قبلك ) فيكفي فيه الإيمان الإجمالي ، وقال شيخنا ما مثاله :

                          هذه هي الطبقة الثانية من المتقين ، وأعيد لفظ ( الذين ) لتحقيق التمايز بين الطبقتين ، وهذه الطبقة أرقى من الطبقة الأولى ؛ لأن أوصافها تقتضي الأوصاف التي أجريت على تلك وزيادة ، فالقرآن يكون هدى لها بالأولى ، ومعنى كونه هدى لها : أنه يكون إمامها في أعمالها وأحوالها ، لا تحيد عن النهج الذي نهجه لها ، كما ذكرنا .

                          ما كل من أظهر الإيمان بما ذكر مهتد بالقرآن ، فالمؤمنون بالقرآن على ضروب شتى ، ونرى بيننا كثيرين ممن إذا سئل عن القرآن قال : هو كلام الله ولا شك ، ولكن إذا عرضت أعماله وأحواله على القرآن نراها مباينة له كل المباينة ، القرآن ينهى عن الغيبة والنميمة والكذب ، وهو يغتاب ويسعى بالنميمة ولا يتأثم من الكذب ، القرآن يأمر بالفكر والتدبر ، وهو كما وصف القرآن المكذبين بقوله تعالى فيهم : ( الذين هم في غمرة ساهون ) ( 51 : 11 ) لا يفكر في أمر آخرته ، ولا في مستقبله ولا مستقبل أمته ، ولا يتدبر الآيات والنذر ، ولا الحوادث والعبر .

                          إن المؤمن الموقن المذكور في الآية الكريمة هو الذي يزين أعماله وأخلاقه باستكمال ما هدي إليه من القرآن دائما ، ويجعله معيارا يعرض عليه تلك الأعمال والأخلاق ، ليتبين : هل هو مهتد به أم لا ؟ مثال ذلك : الصلاة . يصفها القرآن بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وقال في المصلين : ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ) ( 70 : 19 - 22 ) .

                          فبين أن الصلاة تقتلع الصفات الذميمة الراسخة التي تكاد تكون فطرية ، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، ولم تقتلع من نفسه جذور الجبن والهلع ، وتصطلم جراثيم البخل والطمع ، فليعلم أنه ليس مصليا في عرف القرآن ، ولا مستحقا لما وعد عباده الرحمن .

                          أما لفظ " الإنزال " فالمراد به ما ورد من جانب الربوبية الرفيع الأعلى ، وأوحى إلى العباد من الإرشاد الإلهي الأسمى ، وسمي إنزالا لما في جانب الألوهية من ذلك العلو ، علو الرب على المربوب ، والخالق على المخلوقين ، الذين لا يخرجون بالتكريم والاصطفاء عن كونهم عبيدا خاضعين ، وقد سمى القرآن غير الوحي من إسداء النعم الإلهية إنزالا فقال : ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ) ( : 57 : 25 ) فنكتف بهذا من معنى الإنزال ، وهو ما يفهمه كل عربي ، من حضر وبدو .

                          [ ص: 112 ] وأقول الآن : إنني كنت اكتفيت بهذا القدر في تفسير الإنزال تحاميا لما في المسألة من خلاف وجدال ، ولكنني عدت في التفسير إلى فصل المقال في مسائل النزاع ، فأزيد عليه أن إنزال الحديد فيه أقوال أخرى للسلف والخلف ، كقوله تعالى : ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) ( 39 - 6 ) أوضحها أن المراد إنزال الأحكام المتعلقة بها ، وقيل : إن الحديد نزل من الجنة مع آدم ، ومن المعلوم أن الإنزال في أصل اللغة : هو نقل الشيء من مكان عال إلى ما دونه ، ويطلق العلو مجازا في الأمور المعنوية ، فهو علو مكان وعلو مكانة ، ومن الثاني : ( وإن فرعون لعال في الأرض ) ( 10 : 83 ) .

                          والتحقيق أن علو المكان الحسي أمر نسبي يختلف باختلاف موقع الناس من الأشياء ، والجهات كلها أمور نسبية لا حقيقية ، وأن الله سبحانه وتعالى فوق جميع خلقه بائن منهم ، بلا تشبيه ولا تمثيل ، ولا متصل بشيء ولا حال فيه ، مستو على عرشه بالمعنى الذي أراده ، وهذا وجه تسمية ما يأتي من لدنه إنزالا ، فملك الوحي كان يتلقى الوحي منه - عز وجل - وينزل به من السماء إلى الأرض فيتلقاه منه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم صفة تلقي الملك عن الله تعالى ؛ لأنه من الغيب الذي نؤمن به مجملا كما بلغناه ، ولا صفة تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من جبريل ؛ لأنه من شأن النبوة ولسنا بأنبياء ، وهو من الصلة بين عالم الغيب والشهادة ، ولكن الله وصف لنا تكليمه للبشر بقوله : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) ( 42 : 51 ) الآية - وقوله : ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) ( 26 : 193 - 195 ) ووصفه لنا رسوله - صلى الله عليه وسلم - في جوابه لمن سأله عنه - وهو الحارث بن هاشم المخزومي - فقال : ( ( أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ) ) رواه الشيخان من حديث عائشة - رضي الله عنها - . ثم قال تعالى :

                          ( وبالآخرة هم يوقنون ) أما لفظ ( الآخرة ) فقد ورد في القرآن كثيرا والمراد به الحياة الآخرة أو الدار الآخرة حيث الجزاء على الأعمال ، ويتضمن كل ما وردت به النصوص القطعية من الحساب والجزاء بالجنة وبالنار .

                          وأما اليقين : فهو الاعتقاد المطابق الواقع الذي لا يقبل الشك ولا الزوال ، فهو اعتقادان : اعتقاد أن الشيء كذا ، واعتقاد أنه لا يمكن أن يكون إلا كذا .

                          وأقول الآن : هذا ما قاله شيخنا في الدرس ، وهو عرف علماء المعقول من المنطقيين والمتكلمين ، وقد جاريناه عليه في مواضع ، وأما اليقين في اللغة : فهو الاعتقاد الجازم في غير الحسيات والضروريات كما صرحوا به ، فالجزم بخبر الصادق واعتقاد المبني على الأدلة والأمارات يسمى يقينا إذا كان ثابتا لا شك فيه .

                          [ ص: 113 ] وفي لسان العرب أن اليقين : العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر ، وهو نقيض الشك . والعلم : نقيض الجهل ا هـ .

                          فالإيمان الشرعي يشترط فيه اليقين اللغوي فقط ، وهو التصديق الجازم الذي لا شك فيه ولا تردد ، ولا ملاحظة طرف راجح على طرف مرجوح ، فإن هذا هو الظن . و اليقين المنطقي أكمل ، وهو ما بنى عليه شيخنا ما يأتي مبسوطا لا ملخصا ، قال ما معناه :

                          ( وصفهم بأنهم موقنون بالآخرة لأنهم مؤمنون بالقرآن ، ولم يصف بهذا الوصف الطائفة الأولى لأنها وإن كانت تؤمن بالغيب وتتوجه إلى الله تعالى بالصلاة المخصوصة بها وتنفق مما رزقها الله ، فذلك لا ينافي أنها في حيرة من أمر البعث والجزاء ، وكذلك كانت قبل الإيمان بالقرآن ، وكان من هداية القرآن لها : أن خرج بها من غمرات تلك الحيرة ) .

                          ( ولا يعتد بما دون اليقين في الإيمان وقد قال الله تعالى في اعتقاد قوم : ( وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) ( 53 : 28 ) وإذا لم يكن الظان موقنا وعلى نور من ربه في اعتقاده ، فما حال من هو دونه من الشاكين والمرتابين ؟ ويعرف اليقين في الإيمان بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال ) .

                          ( إننا نرى الرجل يأتي إلى المحكمة بدعوى زور يريد أن يأكل بها حق أخيه بالباطل أو يجامل آخر بشهادة زور ، أو ينتقم بها من ثالث ، وهو يعلم أنه مزور ومبطل ، فيقال له : اتق الله إن أمامك يوما يعض الظالم فيه على يديه فيقول : أعوذ بالله ، أنا أعلم أن أمامي يوما ، وأن أمامي شبرا من الأرض - يعني القبر - والدنيا لا تغني عن الآخرة ، ويحلف اليمين الغموس باسم الله تعالى أنه محق في دعواه أو في شهادته ، ثم يظهر التحقيق أنه مزور ، ويضطر إلى الاعتراف والإقرار بذلك ، فكأن الإيمان بالله واليوم الآخر عنده خيال يلوح في ذهنه عندما يريد الخلابة والخداع لأجل أكل الحقوق أو إرضاء الهوى ، ولا يظهر له أثر في أعماله وأحواله كأثر الاعتقاد ببعض المشايخ الميتين ، كما بينا ذلك من قبل ) .

                          ( فمثل هذا الإيمان - وإن تعارف الناس على تسميته تلك - ليس من الإيمان الذي يقوم على ذلك المعنى من الإيقان ، ويظهر أثره في الجوارح والأركان ) .

                          ثم قال بعد كلام في آثار اليقين : اليقين إيمانك بالشيء ، والإحساس به من طريق وجدانك كأنك تراه ، بأن يكون قد بلغ بك العلم به أن صار مالكا لنفسك مصرفا لها في أعمالها ، ولا يكون العلم محققا للإيمان على هذا الوجه حتى تكون قد أصبته من إحدى طريقتين :

                          ( الأولى ) النظر الصحيح فيما يحتاج فيه إلى النظر ، كالإيقان بوجود الله ورسالة الرسل ، وذلك بتلخيص المقدمات ، والوصول بها إلى حد الضروريات ، فأنت بعد الوصول إلى ما وصلت إليه كأنك راء ما استقر رأيك عليه .

                          [ ص: 114 ] ( والطريق الأخرى ) خبر الصادق المعصوم بعد أن قامت الدلائل على صدقه وعصمته عندك ، ولا يكون الخبر طريقا لليقين حتى تكون سمعت الخبر من نفس المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، أو جاءك عنه من طريق لا تحتمل الريب ، وهي طريق التواتر دون سواها ، فلا ينبوع لليقين بعد طول الزمن بيننا وبين النبوة إلا سبيل المتواترات التي لم يختلف أحد في وقوعها ، فالإيقان بالمغيبات كالآخرة وأحوالها والملأ الأعلى وأوصافه ، وصفات الله التي لا يهتدي إليها النظر لا يمكن تحصيله إلا من الكتاب العزيز ، وهو الحق الذي جاءنا من الله لا ريب فيه ، فعلينا أن نقف عندما أنبأ به من غير خلط ولا زيادة ولا قياس .

                          وأكد الإيقان بالآخرة بقوله : ( هم ) اهتماما بشأنه وليبين أن الإيقان بالآخرة خاصة من خواص الذين آمنوا بالقرآن وبما أنزل قبله من الكتب لا يشركهم فيه سواهم ، وقد علمت أنه لا بد أن يكون الموقن به من أحوال الآخرة قطعيا ، فهذه الإضافات التي أضافوها على أخبار الغيب وخلقوا لها الأحاديث ، بل أضافوا إليها أيضا أقوال أهل الكتاب وأشياء أخرى نسبوها إلى السلف ، وبعض غرائب جاءت على لسان المنتسبين للتصوف لا تدخل فيما يتعلق به اليقين ، بل الجهل بالكثير منها خير من العلم به ، فإنما الوصف الذي يمتاز به أهل القرآن هو اليقين ، ولا يكون اليقين إلا حيث يكون القطع ، وأما الظن : فهو وصف من عابهم القرآن وأزرى بهم ، فلا علاقة له بأحوالهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية