الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أحكام من يجوز له الفطر إذا أفطر [ ص: 252 ] [ أحكام من يجوز له الفطر إذا أفطر ]

وأما النظر في أحكام الصنف الذي يجوز له الفطر إذا أفطر : فإن النظر في ذلك يتوجه إلى من يفطر بجماع ، وإلى من يفطر بغير جماع ، وإلى من يفطر بأمر متفق عليه ، وإلى من يفطر بأمر مختلف عليه - أعني : بشبهة أو بغير شبهة - وكل واحد من هذين إما أن يكون على طريق السهو ، أو طريق العمد ، أو طريق الاختيار ، أو طريق الإكراه .

أما من أفطر بجماع متعمدا في رمضان ، فإن الجمهور على أن الواجب عليه القضاء والكفارة ، لما ثبت من حديث أبي هريرة أنه قال : " جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هلكت يا رسول الله ، قال : وما أهلكك ؟ قال وقعت على امرأتي في رمضان ، قال : هل تجد ما تعتق به رقبة ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا ، قال : فهل تجد ما تطعم به ستين مسكينا ؟ قال : لا ، ثم جلس فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر فقال : تصدق بهذا ، فقال : أعلى أفقر مني ؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا ، قال : فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه ثم قال : اذهب فأطعمه أهلك " .

واختلفوا من ذلك في مواضع :

منها : هل الإفطار متعمدا بالأكل والشرب حكمه حكم الإفطار بالجماع في القضاء والكفارة أم لا ؟

ومنها : إذا جامع ساهيا ماذا عليه ؟

ومنها : ماذا على المرأة إذا لم تكن مكرهة ؟

ومنها : هل الكفارة واجبة فيه مترتبة أو على التخيير ؟

ومنها : كم المقدار الذي يجب أن يعطى كل مسكين إذا كفر بالإطعام ؟

ومنها : هل الكفارة متكررة بتكرر الجماع أم لا ؟

ومنها : إذا لزمه الإطعام وكان معسرا هل يلزمه الإطعام إذا أثرى أم لا ؟

وشذ قوم فلم يوجبوا على المفطر عمدا بالجماع إلا القضاء فقط ، إما لأنه لم يبلغهم هذا الحديث ، وإما أنه لم يكن الأمر عزمة في هذا الحديث ، لأنه لو كان عزمة لوجب إذا لم يستطع الإعتاق أو الإطعام أن يصوم ، ولا بد إذا كان صحيحا على ظاهر الحديث ، وأيضا لو كان عزمة لأعلمه - عليه الصلاة والسلام - أنه إذا صح أنه يجب عليه الصيام أن لو كان مريضا .

وكذلك شذ قوم أيضا فقالوا : ليس عليه إلا الكفارة فقط ؛ إذ ليس في الحديث ذكر القضاء ، والقضاء الواجب بالكتاب إنما هو لمن أفطر ممن يجوز له الفطر ، أو ممن لا يجوز له الصوم على الاختلاف الذي قررناه قبل في ذلك ، فأما من أفطر متعمدا فليس في إيجاب القضاء عليه نص ، فيلحق في قضاء المتعمد الخلاف الذي لحق في قضاء تارك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها ، إلا أن الخلاف في هاتين المسألتين شاذ .

وأما الخلاف المشهور فهو في المسائل التي عددناها قبل .

[ ص: 253 ] [ المسألة الأولى ]

[ هل تجب الكفارة بالإفطار بالأكل والشرب ]

وأما المسألة الأولى : وهي هل تجب الكفارة بالإفطار بالأكل والشرب متعمدا ؟ فإن مالكا وأصحابه وأبا حنيفة وأصحابه والثوري وجماعة ذهبوا إلى أن من أفطر متعمدا بأكل أو شرب أن عليه القضاء والكفارة المذكورة في هذا الحديث . وذهب الشافعي وأحمد وأهل الظاهر إلى أن الكفارة إنما تلزم في الإفطار من الجماع فقط .

والسبب في اختلافهم : اختلافهم في جواز قياس المفطر بالأكل والشرب على المفطر بالجماع .

فمن رأى أن شبههما فيه واحد وهو انتهاك حرمة الصوم جعل حكمهما واحدا .

ومن رأى أنه وإن كانت الكفارة عقابا لانتهاك الحرمة فإنها أشد مناسبة للجماع منها لغيره ، وذلك أن العقاب المقصود به الردع ، والعقاب الأكبر قد يوضع لما إليه النفس أميل ، وهو لها أغلب من الجنايات ، وإن كانت الجناية متقاربة; إذ كان المقصود من ذلك التزام الناس بالشرائع ، وأن يكونوا أخيارا عدولا كما قال - تعالى - : ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) قال : هذه الكفارة المغلظة خاصة بالجماع ، وهذا إذا كان ممن يرى القياس .

وأما من لا يرى القياس فأمره بين أنه ليس يعدى حكم الجماع إلى الأكل والشرب . وأما ما روى مالك في الموطإ أن رجلا أفطر في رمضان فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفارة المذكورة فليس بحجة ; لأن قول الراوي فأفطر هو مجمل ، والمجمل ليس له عموم فيؤخذ به ، لكن هذا قول على أن الراوي كان يرى أن الكفارة لموضع الإفطار ، ولولا ذلك لما عبر بهذا اللفظ ، ولذكر النوع من الفطر الذي أفطر به .

التالي السابق


الخدمات العلمية