الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في تأخير الظهر في شدة الحر

                                                                                                          157 حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم قال وفي الباب عن أبي سعيد وأبي ذر وابن عمر والمغيرة والقاسم بن صفوان عن أبيه وأبي موسى وابن عباس وأنس قال وروي عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ولا يصح قال أبو عيسى حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح وقد اختار قوم من أهل العلم تأخير صلاة الظهر في شدة الحر وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحق قال الشافعي إنما الإبراد بصلاة الظهر إذا كان مسجدا ينتاب أهله من البعد فأما المصلي وحده والذي يصلي في مسجد قومه فالذي أحب له أن لا يؤخر الصلاة في شدة الحر قال أبو عيسى ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحر هو أولى وأشبه بالاتباع وأما ما ذهب إليه الشافعي أن الرخصة لمن ينتاب من البعد والمشقة على الناس فإن في حديث أبي ذر ما يدل على خلاف ما قال الشافعي قال أبو ذر كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأذن بلال بصلاة الظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا بلال أبرد ثم أبرد فلو كان الأمر على ما ذهب إليه الشافعي لم يكن للإبراد في ذلك الوقت معنى لاجتماعهم في السفر وكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا من البعد [ ص: 414 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 414 ] قوله : ( إذا اشتد الحر فأبردوا ) من الإبراد ، أي أخروا إلى أن يبرد الوقت ، يقال أبرد إذا دخل في البرد كأظهر إذا دخل في الظهيرة ، ومثله في المكان أنجد إذا دخل في النجد ، وأتهم إذا دخل في التهامة .

                                                                                                          ( عن الصلاة ) في رواية البخاري بالصلاة ، قال الحافظ في الفتح : كذا للأكثر والباء للتعدية ، وقيل زائدة ، ومعنى أبردوا أخروا على سبيل التضمين ، أي أخروا الصلاة ، وفي رواية الكشميهني " عن الصلاة " فقيل زائدة أيضا أو عن بمعنى الباء أو هي للمجاوزة ، أي تجاوزوا وقتها المعتاد إلى أن تنكسر شدة الحر ، والمراد بالصلاة الظهر لأنها الصلاة التي يشتد الحر غالبا في أول وقتها وقد جاء صريحا في حديث أبى سعيد ، انتهى . قلت حديث أبي سعيد هذا أخرجه البخاري بلفظ : " أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم " .

                                                                                                          ( فإن شدة الحر من فيح جهنم ) أي من سعة انتشارها وتنفسها ، ومنه مكان أفيح ، أي متسع ، وهذا كناية عن شدة استعارها ، وظاهره أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة ، وقيل هو من مجاز التشبيه ، أي كأنه نار جهنم في الحر ، والأول أولى ويؤيده حديث أبي هريرة " اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف " .

                                                                                                          قال صاحب العرف الشذي ما لفظه : هاهنا سؤال عقلي ، وهو أن التجربة أن شدة الحر وضعفها بقرب الشمس وبعدها ، فكيف إن شدة الحر من فيح جهنم؟ قال : فنجيب بما يفيد في مواضع عديدة ، وهو للأشياء أسباب ظاهرة وباطنة ، والباطنة تذكرها الشريعة ، والظاهرة لا تنفيها الشريعة ، فكذلك يقال في الرعد والبرق والمطر ونهر جيحان وسيحان ، انتهى .

                                                                                                          قلت : هذا الجواب إنما يتمشى فيما لا يخالف بين الأسباب الباطنة التي بينتها الشريعة وبين الأسباب الظاهرة التي أثبتها أرباب الفلسفة القديمة أو الجديدة ، وأما إذا كان بينهما التخالف فلا ، تفكر .

                                                                                                          [ ص: 415 ] قوله : ( وفي الباب عن أبي سعيد وأبي ذر وابن عمر والمغيرة والقاسم بن صفوان عن أبيه وأبي موسى وابن عباس وأنس ) أما حديث أبي سعيد فأخرجه البخاري وتقدم لفظه .

                                                                                                          وأما حديث أبي ذر فأخرجه الشيخان عنه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أبرد . ثم أراد أن يؤذن فقال له : أبرد . حتى رأينا فيء التلول فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن شدة الحر من فيح جهنم ، فإذا اشتد فأبردوا بالصلاة .

                                                                                                          وأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري وابن ماجه .

                                                                                                          وأما حديث المغيرة فأخرجه أحمد وابن ماجه .

                                                                                                          وأما حديث القاسم بن صفوان عن أبيه فأخرجه أحمد والطبراني في الكبير مرفوعا بلفظ أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم قال في مجمع الزوائد : والقاسم بن صفوان وثقه ابن حبان وقال أبو حاتم : القاسم بن صفوان لا يعرف إلا في هذا الحديث ، انتهى .

                                                                                                          وأما حديث أبي موسى فأخرجه النسائي .

                                                                                                          وأما حديث ابن عباس فأخرجه البزار وفيه عمرو بن صهبان ، وهو ضعيف .

                                                                                                          وأما حديث أنس فأخرجه النسائي عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة ، وإذا كان البرد عجل ، وللبخاري نحوه ، كذا في المنتقى .

                                                                                                          قوله : ( وروي عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ولا يصح ) رواه أبو يعلى والبزار بلفظ : قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أبردوا بالصلاة إذا اشتد الحر فإن شدة الحر من فيح جهنم الحديث ، وفيه محمد بن الحسن بن زبالة نسب إلى وضع الحديث ، كذا في مجمع الزوائد .

                                                                                                          قوله : ( حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح ) أخرجه الجماعة .

                                                                                                          قوله : ( قد اختار قوم من أهل العلم تأخير صلاة الظهر في شدة الحر ، وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق ) وهو قول أبي حنيفة ، قال محمد في موطئه بعد ذكر حديث أبي هريرة المذكور في الباب : بهذا نأخذ نبرد بصلاة الظهر في الصيف ونصلي في الشتاء حين تزول الشمس ، وهو قول أبي [ ص: 416 ] حنيفة ، انتهى .

                                                                                                          ( وقال الشافعي إنما الإبراد بصلاة الظهر إذا كان مسجدا ينتاب أهله من البعد ) من الانتياب ، أي يحضرون وأصل الانتياب الحضور نوبا ، لكن المراد هاهنا مطلق الحضور .

                                                                                                          ( فأما المصلي وحده ) أي الذي يصلي منفردا ( والذي يصلي في مسجد قومه ) ولا ينتاب من البعد ( فالذي أحب له ) أي لكل من المصلي وحده والذي يصلي في مسجد قومه .

                                                                                                          ( أن لا يؤخر الصلاة في شدة الحر ) لعدم المشقة عليه لعدم تأذيه بالحر في الطريق .

                                                                                                          ( ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحر هو أولى وأشبه بالاتباع ) أي من ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحر لكل من المصلي مطلقا ، سواء كان مصليا وحده أو في مسجد قومه أو ينتاب من البعد فمذهبه أولى ، واستدل له الترمذي بحديث أبي ذر إذ فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالإبراد في السفر ، وكان الصحابة رضي الله عنهم يجتمعون معه صلى الله عليه وسلم في السفر ولا يحتاجون أن ينتابوا من البعد وفيه ما ستقف عليه .

                                                                                                          ( وأما ما ذهب إليه الشافعي ) مبتدأ وخبره فإن في حديث أبي ذر إلخ ، قال الحافظ في الفتح : قال جمهور أهل العلم يستحب تأخير الظهر في شدة الحر إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج ، وخصه بعضهم بالجماعة ، فأما المنفرد فالتعجيل في حقه أفضل ، وهذا قول أكثر المالكية والشافعي أيضا ، لكنه خصه بالبلد الحار وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون مسجدا من بعد ، فلو كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في كن فالأفضل في [ ص: 417 ] حقهم التعجيل ، والمشهور عن أحمد التسوية من غير تخصيص ولا قيد ، وهو قول إسحاق والكوفيين وابن المنذر ، واستدل له الترمذي بحديث أبي ذر قال : فلو كان الأمر على ما ذهب إليه الشافعي لم يأمر بالإبراد لاجتماعهم في السفر وكانوا لا يحتاجون إلى أن ينتابوا من البعد .

                                                                                                          وتعقبه الكرماني بأن العادة في العسكر الكثير تفرقتهم في أطراف المنزل للتخفيف وطلب الرعي فلا نسلم اجتماعهم في تلك الحالة . انتهى ، وأيضا فلم تجر عادتهم باتخاذ خباء كبير يجمعهم ، بل كانوا يتفرقون في ظلال الشجر وليس هناك كن يمشون فيه فليس في سياق الحديث ما يخالف ما قاله الشافعي ، وغايته أنه استنبط من النص العام ، وهو الأمر بالإبراد معنى يخصصه وذلك جائز على الأصح في الأصول ، لكنه مبني على أن العلة في ذلك تأذيهم بالحر في طريقهم ، وللمتمسك بعمومه أن يقول : العلة فيه تأذيهم بحر الرمضاء في جباههم حالة السجود ، ويؤيده حديث أنس : " كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر " رواه أبو عوانة في صحيحه بهذا اللفظ ، وأصله في مسلم ، وفي حديث أيضا في الصحيحين نحوه .

                                                                                                          والجواب عن ذلك : أن العلة الأولى أظهر فإن الإبراد لا يزيل الحر عن الأرض . انتهى كلام الحافظ .

                                                                                                          قلت : الظاهر عندي هو ما ذهب إليه الجمهور لإطلاق الحديث ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                          تنبيه : قال صاحب العرف الشذي : هذا الموضع الذي اعترض فيه الترمذي على الشافعي مع كونه مقلدا للشافعي ، انتهى .

                                                                                                          قلت : قد بينا في المقدمة أن الإمام الترمذي لم يكن مقلدا للشافعي ولا لغيره واعتراضه هذا أيضا يدل على أنه لم يكن مقلدا له فإنه ليس من شأن المقلد الاعتراض على إمامه المقلد ، وأيضا لو كان الترمذي مقلدا للشافعي لقوى دلائله ومسالكه في جميع مواقع بيان المذاهب أو غالبها وضعف دلائل غيره ومسالكه كما هو دأب المقلد ، ألا ترى أن صاحب الهداية كيف قوى دلائل إمامه الإمام أبي حنيفة وزيف دلائل غيره من ابتداء الهداية إلى آخرها ، فتفكر . وقد اعترف صاحب تتمة مسك الذكي هاهنا بأن الترمذي لم يكن شافعيا .




                                                                                                          الخدمات العلمية