الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 92 ] [ سورة الأنفال ]

                                                                                                                                                                                                                                            مدنية إلا من آية : 30 إلى غاية 36 فمكية وآياتها 75 نزلت بعد البقرة

                                                                                                                                                                                                                                            بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                            ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين )

                                                                                                                                                                                                                                            بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                            ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن قوله :( يسألونك عن الأنفال ) يقتضي البحث عن خمسة أشياء ، السائل ، والمسؤول ، وحقيقة النفل ، وكون ذلك السؤال عن أي الأحكام كان ، وأن المفسرين بأي شيء فسروا الأنفال .

                                                                                                                                                                                                                                            أما البحث الأول : فهو أن السائلين من كانوا ؟ فنقول : إن قوله :( يسألونك عن الأنفال ) إخبار عمن لم يسبق ذكرهم وحسن ذلك ههنا ، لأن حالة النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوما معينا فانصرف هذا اللفظ إليهم ، ولا شك أنهم كانوا أقواما لهم تعلق بالغنائم والأنفال ، وهم أقوام من الصحابة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما البحث الثاني : وهو أن المسؤول من كان ؟ فلا شك أنه هو النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما البحث الثالث : وهو أن الأنفال ما هي ؟ فنقول : قال الزهري : النفل والنافلة ما كان زيادة على الأصل ، وسميت الغنائم أنفالا لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم ، وصلاة التطوع نافلة لأنها زيادة على الفرض الذي هو الأصل ، وقال تعالى :( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ) [الأنبياء : 72] أي زيادة على ما سأل .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما البحث الرابع : وهو أن السؤال عن أي أحكام الأنفال كان ؟ فنقول : فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : لفظ السؤال وإن كان مبهما إلا أن تعيين الجواب يدل على أن السؤال كان واقعا عن ذلك المعين ، ونظيره [ ص: 93 ] قوله تعالى :( ويسألونك عن المحيض ) [البقرة : 222]( ويسألونك عن اليتامى ) [البقرة : 220] فعلم منه أنه سؤال عن حكم من أحكام المحيض واليتامى ، وذلك الحكم غير معين ، إلا أن الجواب كان معينا لأنه تعالى قال في المحيض :( قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) [البقرة : 222] فدل هذا الجواب على أن ذلك السؤال كان سؤالا عن مخالطة النساء في المحيض .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال في اليتامى :( قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) [البقرة : 220] فدل هذا الجواب المعين على أن ذلك السؤال المعين كان واقعا عن التصرف في مالهم ومخالطتهم في المؤاكلة ، وأيضا قال تعالى :( ويسألونك عن الروح ) [الإسراء : 85] فدل هذا الجواب على أن ذلك السؤال كان عن كون الروح محدثا أو قديما ، فكذا ههنا لما قال في جواب السؤال عن الأنفال :( قل الأنفال لله والرسول ) دل هذا على أنهم سألوه عن الأنفال كيف مصرفها ومن المستحق لها ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن قوله :( يسألونك عن الأنفال ) أي من الأنفال ، والمراد من هذا السؤال : الاستعطاء على ما روي في الخبر أنهم كانوا يقولون يا رسول الله أعطني كذا أعطني كذا ، ولا يبعد إقامة عن مقام من . هذا قول عكرمة ، وقرأ عبد الله ( يسألونك الأنفال ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والبحث الخامس : وهو شرح أقوال المفسرين في المراد بالأنفال ، فنقول : إن الأنفال التي سألوا عنها يقتضي أن يكون قد وقع بينهم التنازع والتنافس فيها ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله :( قل الأنفال لله والرسول ) يدل على أن المقصود من ذكره منع القوم عن المخاصمة والمنازعة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله :( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) يدل على أنهم إنما سألوا عن ذلك بعد أن وقعت الخصومة بينهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن قوله :( وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) يدل على ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : يحتمل أن يكون المراد من هذه الأنفال الغنائم ، وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهرا ؛ ويحتمل أن يكون المراد غيرها .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الأول : ففيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه صلى الله عليه وسلم قسم ما غنموه يوم بدر على من حضر وعلى أقوام لم يحضروا أيضا ، وهم ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار ، فأما المهاجرون فأحدهم عثمان فإنه عليه السلام تركه على ابنته لأنها كانت مريضة ، وطلحة وسعيد بن زيد ، فإنه عليه السلام كان قد بعثهما للتجسس عن خبر العير وخرجا في طريق الشام ، وأما الخمسة من الأنصار فأحدهم أبو لبابة مروان بن عبد المنذر ، خلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ، وعاصم خلفه على العالية ، والحارث بن حاطب : رده من الروحاء إلى عمرو بن عوف لشيء بلغه عنه ، والحارث بن الصمة أصابته علة بالروحاء ، وخوات بن جبير ، فهؤلاء لم يحضروا ، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهم في تلك الغنائم بسهم ، فوقع من غيرهم فيه منازعة ، فنزلت هذه الآية بسببها .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : روي أن يوم بدر الشبان قتلوا وأسروا والأشياخ وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصاف ، فقال الشبان : الغنائم لنا لأنا قتلنا وهزمنا ، وقال الأشياخ : كنا ردءا لكم ولو انهزمتم لانحزتم إلينا ، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا ، فوقعت المخاصمة بهذا السبب ، فنزلت الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قال الزجاج : الأنفال الغنائم ، وإنما سألوا عنها لأنها كانت حراما على من كان قبلهم ، وهذا الوجه ضعيف لأن على هذا التقدير يكون المقصود من هذا السؤال طلب حكم الله تعالى فقط ، وقد بينا بالدليل أن هذا السؤال كان مسبوقا بالمنازعة والمخاصمة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 94 ] وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد من الأنفال شيئا سوى الغنائم ، فعلى هذا التقدير في تفسير الأنفال أيضا وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قال ابن عباس في بعض الروايات : المراد من الأنفال ما شذ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال ، من دابة أو عبد أو متاع ، فهو إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : الأنفال الخمس الذي يجعله الله لأهل الخمس ، وهو قول مجاهد ، قال : فالقوم إنما سألوا عن الخمس ، فنزلت الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الأنفال هي السلب وهو الذي يدفع إلى الغازي زائدا على سهمه من المغنم ، ترغيبا له في القتال ، كما إذا قال الإمام : " من قتل قتيلا فله سلبه " أو قال لسرية ما أصبتم فهو لكم ، أو يقول فلكم نصفه أو ثلثه أو ربعه ، ولا يخمس النفل ، وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال : قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعد بن العاصي وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : إن الله تعالى قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف ، فقال : "ليس هذا لي ولا لك اطرحه في الموضع الذي وضعت فيه الغنائم" فطرحته وبي ما يعلمه الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال فقال : "يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وإنه قد صار لي فخذه" قال القاضي : وكل هذه الوجوه تحتمله الآية ، وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض .

                                                                                                                                                                                                                                            وإن صح في الأخبار ما يدل على التعيين قضي به ، وإلا فالكل محتمل ، وكما أن كل واحد منها جائز ، فكذلك إرادة الجميع جائزة فإنه لا تناقض بينها ، والأقرب أن يكون المراد بذلك ما له عليه السلام أن ينفل غيره من جملة الغنيمة قبل حصولها وبعد حصولها ، لأنه يسوغ له تحريضا على الجهاد وتقوية للنفوس كنحو ما كان ينفل واحدا في ابتداء المحاربة ، ليبالغ في الحرب ، أو عند الرجعة ، أو يعطيه سلب القاتل ، أو يرضخ لبعض الحاضرين وينفله من الخمس الذي كان عليه السلام يختص به ، وعلى هذا التقدير فيكون قوله :( قل الأنفال لله والرسول ) المراد الأمر الزائد على ما كان مستحقا للمجاهدين .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية