الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 138 ] باب

ذكر الواو وموضع الهمزة منها

اعلم أن الهمزة تقع من الواو على ثلاثة أضرب أيضا ، كما تقع من الألف والياء سواء : تقع قبلها ، وفيها نفسها ، وبعدها ، على حسب ما فسر في الألف .

فأما وقوع الهمزة قبل الواو فلا يكون إلا حشوا . ولا تكون الواو إلا ساكنة . وما قبل الهمزة يتحرك بالفتح والكسر والضم ، ويسكن أيضا ، ويكون ألفا وياء . وتختص الهمزة من الحركات بالضم لا غير .

فالمتحرك بالفتح نحو قوله : كما تبرءوا ، و " يدرءون " ، و فادرءوا ، و " لا يئوده " ، و يئوسا ، و تبوءوا الدار ، و مبرءون ، و بدءوكم ، و قال اخسئوا ، و تطئوهم ، و لم تطئوها ، و " لا يطئون " ، و ليئوس ، و رءوف ، [ ص: 139 ] حيث وقع على قراءة من مد . و " مرجئون " على قراءة من همز ، وشبهه .

والمتحرك بالكسر نحو قوله : متكئون ، و " مستهزءون " ، و فمالئون ، و أنبئوني ، و ليطفئوا ، و " قل استهزءوا " ، و " يستنبئونك " ، و الخاطئون ، و " الصابئون " على قراءة من همز ، وشبهه مما الواو فيه للجميع .

والمتحرك بالضم نحو قوله : رءوسهم ، و رءوسكم ، و رءوس الشياطين ، وشبهه .

والساكن نحو قوله : مذءوما ، و مسؤولا ، وشبهه .

والياء نحو قوله : بريئون ، و " النبيئون " على قراءة من همز .

[ ص: 140 ] والألف نحو قوله : " وباءو " ، و " فإن فاءو " ، و " جاءو " ، و إذ جاءوكم ، و " أسائوا السوأى " ، و يراءون وشبهه .

فإذا نقط هذا الضرب جعلت الهمزة نقطة بالصفراء ، وحركتها نقطة بالحمراء أمامها ، قبل الواو في السطر . ولم تصور الهمزة في ذلك واوا ؛ كراهة للجمع بين صورتين متفقتين .

والأخفش النحوي وعامة الكوفيين يجعلون صورة الهمز ، إذا وليتها الكسرة في نحو ما تقدم ، ياء من حيث يقلبونها إليها في حال التسهيل . وذلك في غير المصحف . وسيبويه وعامة البصريين يصورونها واوا ، من حيث قربوها منها في التسهيل ؛ ثم تحذف تخفيفا واختصارا ، ولئلا تجتمع واوان في الرسم . وقيل : إنما حذفت صورة الهمزة في ذلك على لغة من أسقط الهمزة وضم الحرف الذي قبلها في التسهيل . وهي لغة حكاها الكسائي عن العرب ، وبها قرأ أبو جعفر القارئ ، وابن عامر من رواية الوليد بن مسلم ، عن يحيى بن الحارث عنه .

* * *

وأما وقوع الهمزة في الواو نفسها فيكون حشوا وطرفا . وتتحرك في الحشو بالفتح والضم ، وتسكن أيضا . وتتحرك في الطرف بالكسر والضم .

فالمتوسطة المفتوحة نحو قوله : فليؤد ، و يؤده ، و مؤجلا ، [ ص: 141 ] و مؤذن ، و " المؤلفة " ، و لا تؤاخذنا ، و " ما نؤخره " ، و بسؤال ، و الفؤاد ، و " هزؤا " ، و " كفؤا " على قراءة من همزهما ، وحرك ما قبل الهمزة . و حسبتهم لؤلؤا وشبهه .

والمضمومة نحو قوله : تؤزهم ، و يكلؤكم ، و يذرؤكم ، و نقرؤه ، وشبهه . وكذلك : أولياؤه ، و " أحباؤه " ، و جزاؤهم ، و " ءاباؤكم " ، و " أبناؤكم " ، و " التناؤش " على قراءة من همز ، وشبهه . وكذلك : " رؤف " على قراءة من قصر .

[ ص: 142 ] والساكنة نحو قوله : يؤمنون ، و يؤفكون ، و المؤمنون ، و " المؤتفكة " ، و " المؤتفكات " ، و سؤلك ، و تسؤهم ، و الذي اؤتمن ، وشبهه .

والمتطرفة المكسورة نحو قوله : كأمثال اللؤلؤ ، و " من ذهب ولؤلؤ " على قراءة من قرأ بالخفض .

والمضمومة نحو قوله : إن امرؤ هلك ، و لؤلؤ مكنون . وكذلك " الملؤا " ، و " تفتؤا " ، و " يعبؤا " ، و " لا تظمؤا " ، و " يدرؤا " ، و " ينبؤا " ، و " أومن ينشؤا " ، و " نبؤا الخصم " ، [ ص: 143 ] و " نبؤا عظيم " . وكذلك : " جزؤا " ، و " شركؤا " ، و " الضعفؤا " ، و " ما نشؤا " ، و " ما دعؤا " وشبهه مما رسمت الهمزة المتطرفة المضمومة فيه واوا على نحو حركتها ، ومراد الاتصال دون الانفصال .

فإذا نقط هذا الضرب جعلت الهمزة نقطة بالصفراء في الواو نفسها ، وجعلت حركتها نقطة بالحمراء من فوقها إن كانت مفتوحة ، ومن تحتها إن كانت مكسورة ، وأمامها إن كانت مضمومة . وإن كانت ساكنة جعل عليها علامة السكون .

* * *

وأما وقوع الهمزة بعد الواو فيكون حشوا وطرفا . وتتحرك في الحشو بالفتح ، وفي الطرف بالحركات الثلاث .

فالتي في الحشو نحو قوله : سوءا يجز به ، و سوءة أخيه ، و " سوءاتكم " ، و " سوءاتهما " ، و " النبوءة " على قراءة من همز ، وشبهه . سواء انضم ما قبل الواو أو انفتح .

[ ص: 144 ] والتي في الطرف نحو قوله : والسوء على الكافرين ، و بالسوء ، و عن سوء فإن الله ، و من سوء ما بشر به ، و ثلاثة قروء ، و لم يمسسهم سوء ، و سوء أعمالهم ، وشبهه .

فإذا نقط هذا الضرب جعلت الهمزة نقطة بالصفراء بعد الواو في البياض . وجعلت حركتها نقطة بالحمراء من فوقها إن كانت مفتوحة ، ومن تحتها إن كانت مكسورة ، ومن أمامها إن كانت مضمومة . وإن لحقها تنوين في حال النصب جعلت الحركة والتنوين نقطتين على الألف المصورة بعدها ، على ما تقدم . وإن لحقها في حال الرفع والخفض جعلت النقطتان تحتها في الخفض ، وأمامها في الرفع .

ولم تصور الهمزة في هذا الضرب فرارا من الجمع بين صورتين متفقتين . ولأنها إذا سهلت في ذلك ألقي حركتها على ما قبلها ، وسقطت من اللفظ . فلم تصور لذلك . وقد صورها كتاب المصاحف في ثلاث كلم ، وهن قوله : " أن تبوأ " في ( المائدة ) ، و " لتنوأ " في ( القصص ) ، و السوأى في ( الروم ) . فإذا نقطن جعلت الهمزة فيهن في الألف التي هي صورتها ، وحركتها عليها في الفتح ، وأمامها في الرفع .

* * *

[ ص: 145 ] وهذه صورة الألف ، وموقع الهمزة منها :

أ أ أ

وهذه صورة الياء ، وموقع الهمزة منها :

ئ ئ ئ

وهذه صورة الواو ، وموقع الهمزة منها :

و و و * * *

فهذه مواضع الهمزة من الألف والياء والواو على وجه الاستقصاء ، وعلى ما يوجبه قياس العربية ، وتحققه طريق التلاوة ، ومذاهب أئمة القراءة .

* * *

[ ص: 146 ] فأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من النقاط والنحويين من جعلهم للهمزة مع حرف المد أحكاما كثيرة سوى ما ذكرناه ، وإيقاعهم إياها في أماكن شتى منهن ، وتلقيبهم الواو والألف وموضع الهمزة منهما بألقاب جمة كقولهم : هامة الواو ، ويافوخ الواو ، وقمحدوة الواو ، وجبهة الواو ، وخاصرة الواو ، ومضجع الواو ، وقفا الواو ، وذنب الواو ، إلى غير ذلك من الألقاب التي قضوا ، لوقوع الهمزة فيها في الألف والياء والواو ؛ فشيء لا وجه له في قياس ، ولا معنى في نظر ، ولا حقيقة له في تلاوة ، ولا أثر له في نقل . فلا ينبغي الإصغاء إليه ، ولا يجب العمل به ؛ لخروجه عما ذكرناه ، ومباينته لما حددناه ، مما دللنا على صحته وكيفية حقيقته .

ومما يبين ما ذهبنا إليه من أن للهمزة مع الأحرف الثلاثة ثلاثة أحكام لا غير ، ويرفع الإشكال في صحة ذلك ، ويبطل ما عداه مما ذهب إليه من أومأنا إليه من النقاط والنحاة ، إجماع أئمة القراءة وعلماء العربية على أن موضع الهمزة من الكلمة يمتحن بالعين ، فحيثما استقرت العين فهو موضع الهمزة . ونحن إذا امتحنا موضعها بذلك لم تتعد أحد الثلاثة المواضع التي حددناها وشرحناها ، ولم تستقر في غيرها . فدل ذلك دلالة قاطعة على صحة ما قلناه وذهبنا إليه ، وبطول ما خالفه وخرج عنه ، مما ذهب إليه مخالفونا . وبالله التوفيق .

* * *

فإن قال قائل : من أين انعقد إجماع من ذكرته من القراء والنحويين على تخصيص العين دون سائر حروف الحلق وغيرها بالامتحان لموضع الهمزة ؟

[ ص: 147 ] قيل : لمعنى في العين أوجب لها التخصيص ، وهو كونها أكثر حروف المعجم ورودا في المنطق ، وتكررا في اللفظ . فجعلت للامتحان لخفتها وقرب تناولها ، ولتناسب وكيد أيضا بينها وبين الهمزة . وهو اجتماعهما دون غيرهما من حروف الحلق في الجهر الذي هو الإعلان ، والشدة التي هي ارتفاع الصوت بالحرف . وكون العين أول حرف من المخرج الثاني من الحلق . كما أن الهمزة أول حرف من المخرج الأول منه ، وهو الذي يلي الثاني ، ويتصل به . فلذلك خصت بالامتحان ، وانفردت بالدلالة على موضع استقرار الهمزة من الكلمة . ولأجله أيضا جعل جميع النحويين والكتاب في الكتب صورتها صورة عين ، إعلاما بذلك ، ودلالة عليه .

* * *

فإن قال : فمن أين اصطلح السلف على أن جعلوا علامة الهمزة ، وهي حرف من الحروف ، نقطة بالصفراء ، والنقطة علامة لحركات الحروف ؟

قيل : اصطلحوا على ذلك من حيث اجتمعت معهن في أن جعل لها صورة ، كما تجعل لهن . فلما شاركتهن في جعل الصورة شاركتهن في العلامة . ثم خصت الهمزة دونهن بأن جعلت بالصفراء ، وجعلن دونها بالحمراء ؛ لتتميز بذلك منهن ، وتبين به عنهن . إذ كانت حرفا من الحروف ، وكن حركات حروف .

على أن سلف أهل العراق قد خالفوا سلف أهل المدينة في ذلك ، فجعلوها بالحمراء كالحركات . وما جرى عليه استعمال أهل المدينة من جعلها بالصفراء ، فرقا بينها وبين الحركات ، هو الوجه ، وعليه العمل . حدثنا أحمد بن عمر الجيزي ، قال : نا محمد بن الأصبغ الإمام ، قال : نا عبد الله بن عيسى ، قال : نا [ ص: 148 ] قالون قال : في مصاحف أهل المدينة ما كان من الحروف التي بنقط الصفرة فمهموزة .

* * *

فإن قيل : فمن أين خصت حروف المد الثلاثة - الألف والياء والواو - بأن جعلن صورة للهمزة دون غيرهن من الحروف ؟

قيل : وجب تخصيصهن بذلك من حيث شاركتهن في الإعلال والتغيير ، وكانت الهمزة إذا عدل بها عن التحقيق إلى التخفيف قربت منهن في حال التسهيل ، فجعلت المفتوحة بينها وبين الألف ، والمكسورة بينها وبين الياء ، والمضمومة بينها وبين الواو ، وأبدلت حرفا خالصا منهن في حال البدل . فلذلك جعلن صورا لها دون سائر الحروف . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية