الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما ذكر في المزارعة

                                                                                                          1383 حدثنا إسحق بن منصور أخبرنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع قال وفي الباب عن أنس وابن عباس وزيد بن ثابت وجابر قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم لم يروا بالمزارعة بأسا على النصف والثلث والربع واختار بعضهم أن يكون البذر من رب الأرض وهو قول أحمد وإسحق وكره بعض أهل العلم المزارعة بالثلث والربع ولم يروا بمساقاة النخيل بالثلث والربع بأسا وهو قول مالك بن أنس والشافعي ولم ير بعضهم أن يصح شيء من المزارعة إلا أن يستأجر الأرض بالذهب والفضة

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          المزارعة هي أن يعامل إنسانا على أرض ليتعهدها بالسقي والتربية على أن ما رزق الله تعالى من الحبوب يكون بينهما بجزء معين ، كذا في المرقاة ، والمراد بقوله بجزء معين كالنصف والربع والثلث .

                                                                                                          قوله : ( عامل أهل خيبر ) وهم يهود خيبر ، وهو موضع قريب من المدينة غير منصرف ( بشطر ما يخرج ) أي : بنصفه فالشطر هنا بمعنى النصف ، وقد يأتي بمعنى النحو كقوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام أي : نحوه ( منها ) أي : من خيبر يعني : من نخلها وزرعها ، والحديث دليل على جواز المزارعة بالجزء المعلوم من نصف ، أو ربع ، أو ثمن ، وهو الحق . قوله : ( وفي الباب عن أنس ) [ ص: 530 ] لينظر من أخرجه ( وابن عباس ) أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف . أخرجه أحمد ، وابن ماجه . ( وزيد بن ثابت ) أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه وسيأتي لفظه في الباب الذي بعده ( وجابر ) لينظر من أخرجه . قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) أخرجه الجماعة قوله : ( ولم يروا بالمزارعة بأسا على النصف والثلث والربع إلخ ) وهو قول الجمهور ، قال الشيخ عبد الحق الدهلوي : المساقاة أن يدفع الرجل أشجاره إلى غيره ليعمل فيه ويصلحها بالسقي والتربية على سهم معين كنصف ، أو ثلث ، والمزارعة عقد على الأرض ببعض الخارج كذلك ، والمساقاة تكون في الأشجار والمزارعة في الأراضي ، وحكمها واحد ، وهما فاسدان عند أبي حنيفة ، وعند صاحبيه والآخرين من الأئمة جائز ، وقيل لا نرى أحدا من أهل العلم منع عنهما إلا أبو حنيفة ، وقيل زفر معه ، وقال في الهداية : الفتوى على قولهما والدليل للأئمة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر ، أو زرع .

                                                                                                          ولأبي حنيفة ما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة ، وهي المزارعة . انتهى كلامه . قلت : أحاديث النهي عن المخابرة محمولة على التنزيه ، أو على ما إذا اشترط صاحب الأرض ناحية منها معينة كما يدل عليه أحاديث ذكرها صاحب المنتقى ، وقال بعد ذكرها ، وما ورد من النهي المطلق عن المخابرة والمزارعة يحمل على ما فيه مفسدة كما بينته هذه الأحاديث ، أو يحمل على اجتنابها ندبا واستحبابا ، فقد جاء ما يدل على ذلك ، ثم ذكر أحاديث تدل على أن النهي عن المخابرة والمزارعة ليس للتحريم ، بل هو للتنزيه ، قال الشوكاني في النيل : كلام المصنف يعني : صاحب المنتقى هذا كلام حسن ، ولا بد من المصير إليه للجمع بين الأحاديث المختلفة ، وهو الذي رجحناه فيما سلف . انتهى . قلت : الأمر كما قال الشوكاني ، وقال الحافظ في الفتح هذا الحديث يعني : حديث الباب هو عمدة من أجاز المزارعة والمخابرة لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ، واستمراره على عهد أبي بكر إلى أن أجلاهم عمر ، واستدل به على جواز المساقاة في النخل والكرم وجميع الشجر الذي من شأنه أن يثمر بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمرة ، وبه قال الجمهور وخصه الشافعي في الجديد بالنخل والكرم وألحق المقل بالنخل لشبهه به ، وخصه أبو داود بالنخل ، وقال أبو حنيفة وزفر : لا يجوز بحال ؛ لأنها إجارة بثمرة معدومة ، أو مجهولة ، وأجاب من جوزه بأنه عقد على عمل في المال ببعض نمائه فهو كالمضاربة ؛ لأن المضارب يعمل في المال بجزء من نمائه ، وهو معدوم ومجهول : وقد صح عقد الإجارة مع أن المنافع معدومة .

                                                                                                          فكذلك هنا وأيضا فالقياس في إبطال نص أو إجماع مردود ، وأجاب بعضهم عن قصة خيبر بأنها فتحت صلحا وأقروا على أن الأرض ملكهم بشرط أن يعطوا نصف الثمرة . فكان ذلك يؤخذ بحق الجزية فلا يدل على [ ص: 531 ] جواز المساقاة وتعقب بأن معظم خيبر فتح عنوة وبأن كثيرا منها قسم بين الغانمين وبأن عمر أجلاهم منها فلو كانت الأرض ملكهم ما أجلاهم عنها ، واستدل من أجازه في جميع الثمر بأن في بعض طرق حديث الباب بشطر ما يخرج منها من نخل وشجر ، وفي رواية عند البيهقي على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشجر . انتهى . ( واختار بعضهم أن يكون البذر من رب الأرض ) أي : مالكها ، قال الحافظ في الفتح : واستدل به يعني : بحديث الباب على جواز البذر من العامل ، أو المالك لعدم تقييده في الحديث بشيء من ذلك ، واحتج من منع بأن العامل حينئذ كأنه باع البذر من صاحب الأرض بمجهول من الطعام نسيئة ، وهو لا يجوز ، وأجاب من أجازه بأنه مستثنى من النهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة جمعا بين الحديثين ، وهو أولى من إلغاء أحدهما . انتهى . ( وهو قول مالك بن أنس ، والشافعي ) الراجح أن المزارعة بالثلث والربع ، والمساقاة بالثلث والربع كلاهما جائز غير مكروه كما عرفت . ( ولم ير بعضهم أن يصح شيء من المزارعة إلخ ) قال الحافظ في الفتح : وبالغ ربيعة فقال لا يجوز كراؤها إلا بالذهب ، أو الفضة ، وقال طاوس وطائفة قليلة : لا يجوز كراء الأرض مطلقا وذهب إليه ابن حزم وقواه ، واحتج له بالأحاديث المطلقة في ذلك . انتهى .




                                                                                                          الخدمات العلمية