الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 161 ] ( الفرق السادس والعشرون بين قاعدة خطاب التكليف وقاعدة خطاب الوضع ) وهذا الفرق أيضا عظيم القدر جليل الخطر وبتحقيقه تنفرج أمور عظيمة من الإشكالات وترد إشكالات عظيمة أيضا في بعض الفروع وسأبين لك ذلك في هذا الفرق إن شاء الله تعالى وتحرير القاعدتين أن خطاب التكليف في اصطلاح العلماء هو الأحكام الخمسة الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة مع أن أصل هذه اللفظة أن لا تطلق إلا على التحريم والوجوب لأنها مشتقة من الكلفة ، والكلفة لم توجد إلا فيهما لأجل الحمل على الفعل أو الترك خوف العقاب وأما ما عداهما فالمكلف في سعة لعدم المؤاخذة فلا كلفة حينئذ غير أن جماعة يتوسعون في إطلاق اللفظ على الجميع تغليبا للبعض على البعض فهذا خطاب التكليف وأما خطاب الوضع فهو خطاب بنصب الأسباب كالزوال ورؤية الهلاك ونصب الشروط كالحول في الزكاة والطهارة في الصلاة ونصب الموانع كالحيض مانع من الصلاة والقتل مانع من الميراث ونصب التقادير الشرعية وهي إعطاء الموجود حكم المعدوم ، أو المعدوم حكم الموجود كما نقدر رفع الإباحة بالرد بالعيب بعد ثبوتها قبل الرد . ونقول : ارتفع العقد من أصله لا من حينه على أحد القولين للعلماء ونقدر النجاسة في حكم العدم في صور الضرورات كدم البراغيث وموضع الحدث في المخرجين ونقدر وجود الملك لمن قال لغيره أعتق عبدك عني لتثبت له الكفارة والولاء مع أنه لا ملك له ونقدر الملك في دية المقتول خطأ قبل موته حتى يصح فيه الإرث فهاتان من باب إعطاء المعدوم حكم الموجود والأوليان من باب إعطاء الموجود حكم المعدوم وهو كثير في الشريعة ولا يكاد باب من أبواب الفقه ينفك عن التقدير وقد بسطت ذلك في كتاب الأمنية في إدراك النية حيث تكلمت فيها على رفض النية ورفعها بعد وقوعها مع أن رفع الواقع محال عقلا والشرع لا يرد بخلاف العقل وحررت التقادير في هذه المباحث هنالك

فهذا هو تصوير خطاب التكليف وخطاب الوضع .

واعلم أنه يشترط في خطاب التكليف علم المكلف وقدرته على ذلك الفعل وكونه من كسبه بخلاف خطاب الوضع لا يشترط ذلك فيه فلذلك نورث بالإنساب من لا يعلم نسبه ويدخل العبد الموروث في ملكه ويعتق عليه إن كان ممن يعتق عليه مع غفلته عن ذلك وعجزه عن دفعه ويطلق بالإضرار [ ص: 162 ] والإعسار اللذين هما معجوز عنهما ويضمن بالإتلاف المغفول عنه من الصبيان والمجانين فإن معنى خطاب الوضع قول صاحب الشرع اعلموا أنه متى وجد كذا فقد وجب كذا أو حرم كذا أو ندب أو غير ذلك هذا في السبب أو يقول عدم كذا في وجود المانع أو عند عدم الشرط .

واستثنى صاحب الشرع من عدم اشتراط العلم والقدرة في خطاب الوضع قاعدتين

القاعدة الأولى الأسباب التي هي أسباب للعقوبات وهي جنايات كالقتل الموجب للقصاص يشترط فيه القدرة والعلم والقصد فلذلك لا قصاص في قتل الخطأ والزاني أيضا ولذلك لا يجب الحد على المكره ولا على من لا يعلم أن الموطوءة أجنبية بل إذا اعتقد أنها امرأته سقط الحد لعدم العلم وكذلك من شرب خمرا يعتقدها خلا لا حد عليه لعدم العلم وكذلك جميع الأسباب التي هي جنايات وأسباب للعقوبات يشترط فيها العلم والقصد والقدرة والسر في استثناء هذه القاعدة من خطاب الوضع أن رحمة صاحب الشرع تأبى عقوبة من لم يقصد الفساد ولا يسعى فيه بإرادته وقدرته بل قلبه مشتمل على العفة والطاعة والإنابة فمثل هذا لا يعاقبه صاحب الشرع رحمة ولطفا .

القاعدة الثانية التي استثنيت من خطاب الوضع فاشترط فيها العلم والقدرة قاعدة أسباب انتقال الأملاك كالبيع والهبة والوصية والصدقة والوقف والإجارة والقراض والمساقاة والمغارسة والجعالة وغير ذلك مما هو سبب انتقال الأملاك فمن باع وهو لا يعلم أن هذا اللفظ أو هذا [ ص: 163 ] التصرف يوجب انتقال الملك لكونه عجميا أو طارئا على بلاد الإسلام لا يلزمه بيع وكذلك جميع ما ذكر معه وكذلك من أكره على البيع فباع بغير اختياره وقدرته الناشئة عن داعيته الطبيعية لا يلزمه البيع وكذلك جميع ما ذكر معه وسر استثناء هذه القاعدة من قاعدة خطاب الوضع قوله عليه السلام { لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه } ولا يحصل الرضا إلا مع الشعور والإرادة والمكنة من التصرف فلذلك اشترط في هذه القاعدة العلم والإرادة والقدرة . إذا تقرر هذا تقرر شرط خطاب التكليف دون خطاب الوضع وظهر الفرق فأزيده بيانا بذكر ثلاث مسائل ( المسألة الأولى )

اعلم أن خطاب الوضع قد يجتمع مع خطاب التكليف وقد ينفرد كل واحد منهما بنفسه أما اجتماعهما فكالزنى فإنه حرام ومن هذا الوجه هو خطاب تكليف وسبب للحد ومن هذا الوجه هو خطاب وضع والسرقة من جهة أنها محرمة خطاب تكليف ومن جهة أنها سبب القطع خطاب وضع وكذلك بقية الجنايات محرمة وهي أسباب العقوبات والبيع مباح أو مندوب أو واجب أو حرام على قدر ما يعرض له في صوره على ما هو مبسوط في كتب الفقه فمن هذا الوجه هو خطاب تكليف ومن جهة أنه سبب انتقال الملك في البيع الجائز أو التقدير في الممنوع هو خطاب وضع وبقية العقود تتخرج على هذا المنوال وأما انفراد خطاب الوضع فكالزوال ورؤية الهلال ودوران الحول ونحوها فإنها من خطاب الوضع وليس فيها أمر ولا نهي ولا إذن من حيث هي كذلك بل إنما وجد الأمر في أثنائها وترتبها فقط وأما خطاب التكليف بدون خطاب الوضع فكأداء الواجبات واجتناب المحرمات كإيقاع الصلوات وترك المنكرات فهذه من [ ص: 164 ] خطاب التكليف ولم يجعلها صاحب الشرع سببا لفعل آخر نؤمر به أو ننهى عنه بل وقف الحال عند أدائها وترتبها على أسبابها وإن كان صاحب الشرع قد جعلها سببا لبراءة الذمة وترتيب الثواب ودرء العقاب غير أن هذه ليست أفعالا للمكلف ونحن لا نعني بكون الشيء سببا إلا كونه وضع سببا لفعل من قبل المكلف فهذا وجه اجتماعهما وافتراقهما . ( المسألة الثانية ) الصبي إذا أفسد مالا لغيره وجب على وليه إخراج الجابر من مال الصبي فالإتلاف سبب للضمان وهو من خطاب الوضع فإذا بلغ الصبي ولم تكن القيمة أخذت من ماله وجب عليه إخراجها من ماله بعد بلوغه فقد تقدم السبب في زمن الصغر وتأخر أثره إلى بعد البلوغ ومقتضى هذا أن ينعقد بيعه ونكاحه وطلاقه فإنها أسباب من باب خطاب الوضع الذي لا يشترط فيه التكليف ولا العلم ولا الإرادة فينعقد من الصبيان العالمين الراضين بانتقال أملاكهم وتتأخر الأحكام إلى بعد البلوغ فيقضى حينئذ بالتحريم في الزوجة في الطلاق كما تأخر الضمان عليه ووجوب دفع القيمة إلى بعد البلوغ وكذلك يتأخر لزوم تسليم المبيع إلى بعد البلوغ وبقية الآثار كذلك قياسا على الضمان ولم أر أحد قال به

( والجواب ) بذكر الفرق بين الضمان وبين هذه الأمور من وجهين

( الوجه الأول ) أن هذه الأمور يشترط فيها الرضا لأنها وإن كانت من باب خطاب الوضع غير أنه قد تقدم استثناء قاعدة انتقال الأملاك من قاعدة خطاب الوضع وأنه يشترط فيها الرضا والطلاق فيه إسقاط عصمة فهو من باب ترك الأملاك وكذلك العتق أيضا هو إسقاط ملك فاشترط فيه الرضا ولما كان الصبي غير عالم بالمصالح لنقصان عقله وعدم معرفته بها جعل الشرع رضاه كعدمه والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا فهو غير راض وغير الراضي لا يلزمه طلاق ولا بيع فكذلك الصبي بخلاف قاعدة الإتلافات لا أثر للرضى فيها ألبتة فاعتبرت منه

( الوجه الثاني ) أن أثر الطلاق التحريم وهو ليس أهلا له وأثر البيع إلزام تسليم المبيع والصبي ليس أهلا للتكليف بالتحريم والإلزام فإن قيل فلم لا تتأخر هذه الأحكام إلى بعد البلوغ كما تأخر إلزام دفع القيمة قلت الفرق أن تأخر المسببات عن أسبابها على خلاف الأصل وإنما خالفنا هذا الأصل في الإتلاف لضرورة حق الآدمي في جبر ماله لئلا يذهب مجانا فتضيع الظلامة وهذه ضرورة عظيمة ولا ضرورة تدعونا لتقديم الطلاق وتأخير التحريم بل إذا أسقطنا الطلاق واستصحبنا العصمة لم يلزم فساد ولا تفوت ضرورة وكذلك إذا أبقينا [ ص: 165 ] الملك في المبيع للصبي كنا موافقين للأصل ولا يلزم محذور ألبتة أما لو أسقطنا إتلافه ولم نعتبره لضاع مال المجني عليه وتلف وتعين ضرره وهذا فرق كبير فتأمله . ( المسألة الثالثة ) الطهارة والستارة واستقبال الكعبة في الصلاة فتاوى علمائنا متظافرة على أنها من الواجبات مع أن المكلف لو توضأ قبل الوقت واستتر واستقبل القبلة ثم جاء الوقت وهو على تلك الصورة وصلى من غير أن يجدد فعلا ألبتة في هذه الثلاثة أجزأته صلاته إجماعا وفعله قبل الوقت لا يوصف بالوجوب فإن الوجوب في هذه الأمور إنما يقع تبعا لطرءان السبب الذي هو الزوال ونحوه من أوقات الصلوات فقبل سبب الوجوب لا وجوب وإذا عدم الواجب في هذه الأفعال اتجه الإشكال من قاعدة أخرى وهي أن غير الواجب لا يجزئ عن الواجب وإن علم الواجب لا يخرج عن عهدته إلا بفعل يفعل لا بغير فعل ألبتة فهذا مخالف لقواعد الشرع [ ص: 166 ]

وعند توجه هذه الإشكالات اضطربت أجوبة الفقهاء واختلفت أفكارهم فقال القاضي أبو بكر بن العربي أقول الوضوء واجب وجوبا موسعا قبل الوقت وفي الوقت والواجب الموسع يجوز تقديمه وتأخيره ويقع على التقديرين واجبا فما أجزأ عن الواجب إلا واجب وهذا أحسن الأجوبة التي رأيتها وهو لا يصح بسبب أن الواجب الموسع في الشريعة إنما عهد بعد طرءان سبب الوجوب أما وجوب قبل سببه فلا يعقل في الشريعة لا مضيقا ولا موسعا وأوقات الصلوات نصبها صاحب الشرع أسبابا لوجوبها فلا تجب قبلها ولا تجب شرائطها ووسائلها قبل وجوبها فإن القاعدة الشرعية أن وجوب الوسائل تبع لوجوب المقاصد ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بعد وجوب الواجب الأصلي أما قبل وجوبه فهو غير معقول هذا ما على هذا الجواب وقال غيره هذه الأمور تقع غير واجبة وتجزئ عن الواجب بالإجماع فهي مستثناة بالإجماع فاندفع السؤال وهذا ليس بجيد فإن الاستثناء على خلاف الأصل ولا نسلم أن الإجماع [ ص: 167 ] منعقد على أنها مستثناة بل على أنها مجزئة .

أما الاستثناء فلا نسلمه وقال ثالث الموجود من الفعل بعد دخول الوقت في هذه الأمور هو الواجب وهو لا بد أن يستصحب ثوبه واستقباله وطهارته وملازمة الشيء واستصحابه فعل من المكلف فهذا هو الذي أجزأ عن الواجب وهذا أيضا غير جيد بسبب أنا نضيق الفرض في الثوب والقبلة ونفرضه قبل الوقت على تلك الهيئة بحيث لا يجدد شيئا بعد دخول الوقت حتى يحرم ولا نسلم أن دوام الثوب عليه فعل له ولا دوام الطهارة بدليل أنه لو غفل عن كونه متطهرا ومستقبلا ولابسا وصلى صحت صلاته ومع الغفلة يمتنع الفعل لأن من شرط الفعل الشعور ولا شعور فلا فعل وهذا التضييق يحسم مادة هذا الجواب فإن قلت فلم حنثته بدوام لبس الثوب إذا حلف لا يلبس ثوبا وهو لابسه أو لا يدخل دارا وهو فيها على أحد القولين مع أنه ليس معه إلا الاستصحاب فدل ذلك على أنه فعل وإذا كان فعلا هناك كان فعلا هنا قلت الإيمان يكفي فيها شهادة العرف كان فيها فعل أم لا فقد نحنثه بغير فعله بل بفعل غيره كقوله إن قدم زيد أو طار الغراب أو بغير ذلك من الأفعال أو بغير فعل ألبتة كقوله إن كان المستحيل مستحيلا فامرأته طالق طلقت عليه امرأته مع أن المستحيل لا فعل له فيه ألبتة بخلاف ما نحن فيه فإنه باب تكليف وإيجاب والتكليف لا بد فيه [ ص: 168 ] من الفعل فاندفع السؤال والجواب الصحيح عندي أن هذه الأمور الثلاثة الطهارة والستارة والاستقبال شروط فهي من باب خطاب الوضع وخطاب الوضع لا يشترط فيه فعل المكلف ولا علمه ولا إرادته .

فإن دخل الوقت وهو غير متطهر ولا لابس ولا مستقبل توجه التكليف عليه بهذه الأمور وتحصيلها فاجتمع فيها حينئذ خطاب الوضع وخطاب التكليف وإن دخل الوقت وهو متطهر لابس مستقبل اندفع خطاب التكليف وبقي خطاب الوضع خاصة فأجزأته الصلاة لوجود شروطها وليس من شرط خطاب الوضع أن يجتمع معه خطاب التكليف ولا يحتاج إلى شيء من تلك التعسفات بل نخرجه على قاعدة خطاب الوضع ولا يلزم منه مخالفة قاعدة ألبتة [ ص: 169 ] غايته أن يلزم منه أن يجب الوضوء في حالة دون حالة وهذا لا منكر فيه فإن شأن الشريعة تخصيص الوجوب ببعض الحالات وبعض الأزمنة وبعض الأشخاص وهذا هو الأصل لا إنه مخالف للأصل وإنما صعب على طالب العلم هذا من جهة أنه يسمع طول عمره أن الطهارة واجبة في الصلاة مطلقا ولم يسمع في ذلك تفصيلا فصعب عليه التفصيل وكم من تفصيل قد سكت عنه الدهر الطويل وأجراه الله تعالى على قلب من شاء من عباده في جميع العلوم العقليات والنقليات ومن اشتغل بالعلوم وكثر تحصيله لها اطلع على شيء كثير من ذلك فهذا هو تحرير هذا الموضع عندي وهو من المشكلات التي يقبل تحريرها والجواب عنها من الفضلاء .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 161 ] قال ( الفرق السادس والعشرون بين قاعدة خطاب التكليف وقاعدة خطاب الوضع إلى قوله فهذا هو تصوير خطاب التكليف وخطاب الوضع ) قلت ما قاله في ذلك صحيح غير قوله ونقدر وجود الملك لمن قال لغيره أعتق عبدك عني لتثبت له الكفارة والولاء مع أنه لا ملك له ونقدر الملك في دية المقتول خطأ قبل موته حتى يصح فيها الإرث فإنه ليس بصحيح وقد سبق التنبيه على ذلك قبل هذا . قال ( واعلم أنه يشترط في خطاب التكليف علم المكلف وقدرته إلى قوله [ ص: 162 ] في وجود المانع أو عند عدم الشرط ) قلت ما قاله في ذلك صحيح . قال ( واستثنى صاحب الشرع من عدم اشتراط العلم والقدرة في خطاب الوضع قاعدتين في الشريعة القاعدة الأولى الأسباب التي هي أسباب للعقوبات وهي جناية كالقتل للقصاص يشترط فيه القدرة والعلم والقصد فلذلك لا قصاص في قتل الخطأ والزنى أيضا ولذلك لا يجب الحد على المكره ولا على من لا يعلم أن الموطوءة أجنبية بل إذا اعتقد أنها امرأته سقط الحد لعدم العلم وكذلك من شرب خمرا يعتقدها خلا لا حد عليه لعدم العلم وكذلك جميع الأسباب التي هي جنايات وأسباب للعقوبات يشترط فيها العلم والقصد والقدرة والسر في استثناء هذه القاعدة من خطاب الوضع أن رحمة صاحب الشرع تأبى عقوبة من لم يقصد الفساد ولا يسعى بإرادته وقدرته بل قلبه مشتمل على العفة والطاعة والإنابة فمثل هذا لا يعاقبه صاحب الشرع رحمة ولطفا ) .

قلت ليس ذلك باستثناء من خطاب الوضع ولكنه ازدوج في هذه الأمور خطاب التكليف والوضع فلحقها اشتراط العقل وما معه من جهة خطاب التكليف لا من جهة خطاب الوضع فإنه يرتفع التكليف مع عدم تلك الأوصاف فيرتفع خطاب الوضع المرتب عليه والله أعلم .

قال ( القاعدة الثانية التي استثنيت من خطاب الوضع فاشترط فيها العلم والقدرة قاعدة أسباب انتقال الأملاك إلى آخر القاعدة ) قلت وهذه القاعدة أيضا ليست بمستثناة من خطاب الوضع ولكن ازدوج فيها الخطابان أما خطاب الوضع فظاهر وأما [ ص: 163 ] خطاب التكليف فمن جهة إباحة تلك التصرفات لكنها لم تبح تلك التصرفات إلا مع العلم والاختيار والرشد فإذا وقعت عارية غير مصاحبة لتلك الأوصاف المشترطة في إباحة التصرف لم تترتب عليها مسبباتها من وجوه انتقال الأملاك والذي يوضح ذلك أن اشتراط العلم وما معه في خطاب التكليف مناسب ومطرد واشتراط ذلك في خطاب الوضع غير مناسب ولا مطرد أما مناسبة الاشتراط في خطاب التكليف فإنه يتعذر حصول المكلف به من المكلف مع عدم تلك الشروط فلا تقوم عليه الحجة عند ذلك وأما اطراده فمتفق عليه وأما عدم مناسبة الاشتراط في خطاب الوضع فإنه ليس معناه إلا أن الشارع ربط هذا الحكم بهذا الأمر أو بعدمه وذلك لا يستلزم تعذرا من المكلف من حيث إنه ليس بلازم أن يكون من فعله ولا من كسبه وأما عدم اطراده فواضح كما في زوال الشمس مثلا وفي كل سبب ليس من فعل المكلف .

قال ( إذا تقرر هذا تقرر شرط خطاب التكليف دون خطاب الوضع وظهر الفرق فأزيده بيانا بذكر مسائل المسألة الأولى اعلم أن خطاب الوضع قد يجتمع مع خطاب التكليف وقد ينفرد كل واحد منهما بنفسه إلى آخر المسألة ) قلت ما قاله فيها صحيح والله أعلم . [ ص: 164 ] قال ( المسألة الثانية الصبي إذا أفسد مالا لغيره وجب على وليه إخراج الجابر من مال الصبي إلخ ) قلت ما قاله فيها صحيح غير قوله قد تقدم استثناء قاعدة انتقال الأملاك من قاعدة خطاب الوضع فإنه قد سبق التنبيه على ما فيه وإنما لم تصح تلك الأمور من الصبي لأنه يشترط فيها اعتبار المصالح والصبي ليس بأهل لذلك والله أعلم .

[ ص: 165 ] قال ( المسألة الثالثة الطهارة والستارة واستقبال القبلة والفتاوى متظافرة على أنها من الواجبات مع أن المكلف لو توضأ قبل الوقت واستتر واستقبل القبلة ثم جاء الوقت وهو على تلك الصورة صلى من غير أن يجدد فعلا ألبتة في هذه الثلاثة أجزأته صلاته إجماعا وفعله قبل الوقت لا يوصف بالوجوب إلى قوله فهذا مخالف لقواعد الشرع )

قلت قوله وفعله قبل الوقت لا يوصف بالوجوب ممنوع بل يوصف بالوجوب عند من يقول إنه من الواجب الموسع وقوله فلأن الوجوب في هذه الأمور إنما يقلع تبعا لطريان السبب الذي هو الزوال ونحوه من أوقات الصلاة لقائل أن يقول ليس الوجوب في هذه الأمور تبعا لطريان تلك الأسباب بل يقع تبعا لطريان العزم على التهيؤ والاستعداد لإيقاع الصلاة ووقت طريان هذا العزم ما بين أقرب حدث يحدثه المرء وإيقاع الصلاة ودليل صحة ذلك الإجماع على إجزاء الطهارة الموقعة قبل الوقت مع تعذر القول بإجزاء ما ليس بواجب عن الواجب ومع لزوم نية الوجوب ولا يلزم على ذلك أن لا يجب الشرط إلا عند وجوب المشروط وهذا من العاديات بمثابة من يعلم من عادته اضطراره إلى الغذاء في وقت طلوع الشمس ومن شرط الغذاء الذي يتغذى به طبخه فلا بد من تقديم الطبخ الذي هو الشرط على وقت الاغتذاء ثم لا يتعين لذلك الطبخ الزمن المجاور لزمن الاغتذاء بل له تقديم الطبخ والاستعداد به من حين طروء عزمه على الاستعداد وإنما صح ذلك لاستواء حصول المصلحة بالاغتذاء بالقريب الطبخ والبعيد الطبخ وهذا على تقدير استواء ذلك بالنسبة إلى حال هذا الشخص وهذا الغذاء قال ( فقبل سبب الوجوب لا وجوب ) قلت ذلك مسلم لكن ليس سبب وجوب الطهارة المعينة هو بعينه سبب وجوب الصلاة المعينة بل العزم على استباحتها بتلك الطهارة ولا استحالة في مغايرة سبب المشروط سبب الشرط فإن هذه الأمور وضعية تقع بحسب قصد واضعها والله أعلم قال ( وإذا عدم الوجوب في هذه الأفعال اتجه الإشكال من قاعدة أخرى وهي أن غير الواجب لا يجزئ عن الواجب وأن الواجب لا يخرج عن عهدته إلا بفعل يفعل لا بغير فعل ألبتة فهذا مخالف لقواعد الشرع ) قلت [ ص: 166 ] كل ما قاله في ذلك لازم على تقدير لزوم اتحاد سبب وجوب الشرط والمشروط أما على تقدير عدم لزوم ذلك فلا قال ( وعند توجه هذه الإشكالات اضطربت أجوبة الفقهاء واختلفت أفكارهم فقال القاضي أبو بكر بن العربي أقول الوضوء واجب وجوبا موسعا قبل الوقت وفي الوقت والواجب الموسع يجوز تقديمه وتأخيره ويقع على التقديرين واجبا فما أجزأ عن الواجب إلا واجب ) قلت ما قاله الإمام أبو بكر صحيح والله أعلم قال شهاب الدين

( وهذا أحسن الأجوبة التي رأيتها وهو لا يصح بسبب أن الواجب الموسع في الشريعة إنما عهد بعد طريان سبب الوجوب ، أما وجوب قبل سببه فلا يعقل في الشريعة لا مضيقا ولا موسعا ) قلت ما قاله مسلم قال ( وأوقات الصلوات نصبها صاحب الشرع أسبابا لوجوبها فلا تجب قبلها ولا تجب شرائطها ووسائلها قبل وجوبها ) قلت قوله إن الصلوات لا تجب قبل أسبابها مسلم وقوله إن شرائطها ووسائلها لا تجب قبل وجوبها ممنوع وقد سبق تقريره قال ( فإن القاعدة الشرعية أن وجوب الوسائل تبع لوجوب المقاصد ) قلت إن أراد أنه تبع بمعنى أنه لا يسبق وجوب الشرائط وجوب المشروطات فهو محل النزاع وهو ممنوع وإن أراد أنه تبع بمعنى أنه لولا وجوب المشروطات ما وجبت الشروط فمسلم ولا يلزم عنه مقصوده .

قال ( ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بعد وجوب الواجب الأصلي أما قبل وجوبه فهو غير معقول هذا ما على هذا الجواب ) قلت قوله ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بعد وجوب الواجب الأصلي ممنوع وقوله أما قبل وجوبه فهو غير معقول قد سبق أنه معقول وذلك عند استواء تقديم الشرط على وقت وجوب المشروط وتأخيره عنه في المصلحة المقصودة من ذلك الشرط قال ( وقال غيره هذه الأمور تقع غير واجبة وتجزئ عن الواجب بالإجماع إلى قوله [ ص: 167 ] أما الاستثناء فلا نسلمه ) .

قلت ما قاله في رد ذلك القول صحيح والله أعلم قال ( وقال ثالث الموجود من الفعل بعد دخول الوقت في هذه الأمور هو الواجب وهو لا بد أن يستصحب ثوبه واستقباله وطهارته وملازمة الشيء واستصحابه فعل من المكلف فهذا هو الذي أجزأ عن الواجب وهذا أيضا غير جيد بسبب أنا نضيق الفرض في الثوب والقبلة ونفرضه قبل الوقت على تلك الهيئة بحيث لا يجدد شيئا بعد دخول الوقت حتى يحرم ولا نسلم أن دوام الثوب عليه فعل له ولا دوام الطهارة بدليل أنه لو غفل عن كونه متطهرا ومستقبلا ولابسا وصلى صحت صلاته ومع الغفلة يمتنع الفعل لأن من شرط الفعل الشعور به ولا شعور فلا فعل وهذا التضييق يحسم مادة هذا الجواب ) قلت على تسليم أن استدامة اللبس والطهارة والاستقبال ليس بفعل حسا لكنه في معنى الفعل حكما واستدلاله بالغفلة لا دليل له فيه فإن الغفلة إنما تناقض الفعل الحسي الحقيقي لا الحكمي بدليل صحة الصلاة في حالة الغفلة .

قال ( فإن قلت فلم حنثته بدوام لبس الثوب إذا حلف لا يلبس ثوبا وهو لابسه أو لا يدخل دارا وهو فيها على أحد القولين مع أنه ليس معه إلا الاستصحاب فدل ذلك على أنه فعل وإذا كان فعلا هناك كان فعلا هنا قلت الإيمان يكفي فيه شهادة العرف كان فيها فعل أو لا فقد نحنثه بغير فعله بل بفعل غيره كقوله إن قدم زيد أو طار الغراب أو بغير ذلك من الأفعال أو بغير فعل ألبتة كقوله إن كان المستحيل مستحيلا فامرأته طالق طلقت عليه امرأته مع أن المستحيل لا فعل له فيه ألبتة بخلاف ما نحن فيه فإنه باب تكليف وإيجاب والتكليف لا بد فيه [ ص: 168 ] من الفعل فاندفع السؤال ) قلت لا يندفع ذلك السؤال بما دفعه به من جهة أن قوله فقد نحنثه بغير فعله وإن كان صحيحا فإنما كان ذلك لأن الحالف علق يمينه بفعل الغير أو بالمستحيل كما مثل أما إذا حلف وعلق يمينه بفعل نفسه فلا يخلو أن يقع معه ابتداء ذلك الفعل أو يكون ملابسا له من قبل فإن وقع منه ابتداء بعد اليمين حنث باتفاق وإن كان ملابسا له في حين اليمين حنث على خلاف ووجه القول بالحنث أن الاستمرار على الفعل في حكم الفعل ابتداء .

ووجه القول الآخر أنه ليس كالفعل ابتداء والقول الأول أصح والله تعالى أعلم من جهة أن الحالف متمكن من ترك استمرار اللبس قال ( والجواب الصحيح عندي أن هذه الأمور الثلاثة شروط فهي من باب خطاب الوضع وخطاب الوضع لا يشترط فيه فعل المكلف ولا علمه ولا إرادته إلى قوله فاجتمع فيها حينئذ خطاب الوضع وخطاب التكليف ) قلت فإذا اجتمع فيها خطاب الوضع مع خطاب التكليف لزم اشتراط فعل المكلف وعلمه وإرادته قال ( وإن دخل الوقت وهو متطهر لابس مستقبل اندفع خطاب التكليف وبقي خطاب الوضع خاصة فأجزأته الصلاة لوجود شروطها وليس من شرط خطاب الوضع أن يجتمع معه خطاب التكليف ) قلت مسلم أنه ليس من شرط خطاب الوضع اجتماعه مع خطاب التكليف ولكن الكلام إنما وقع في أمور اجتمع فيها الخطابان معا وقوله إنه إذا دخل الوقت وهو مستصحب لتلك الأمور ليس الكلام المفروض في دخول الوقت وهو على تلك الحال وإنما الكلام فيما إذا توضأ قبل الوقت هل أوقع واجبا أم لا وهل تلزمه نية الوجوب أم لا وفي ذلك الوقت لا يرتفع خطاب التكليف فلا بد من شروط خطاب التكليف .

قال ( ولا يحتاج إلى شيء من تلك التعسفات بل نخرجه على قاعدة خطاب الوضع ولا يلزم منه مخالفة قاعدة ألبتة ) قلت قد تبين أنه لا يصح تخريجه على قاعدة خطاب الوضع لاجتماع الخطابين في [ ص: 169 ] تلك الأمور قال ( غايته أن يلزم منه أن يجب الوضوء في حالة دون حالة وهذا لا منكر فيه فإن شأن الشريعة تخصيص الوجوب ببعض الحالات وبعض الأزمنة وبعض الأشخاص وهذا هو الأصل لا أنه مخالف للأصل ) قلت ما قاله مسلم لكن يلزم منه أن الوضوء ليس بواجب إلا في الوقت أو فيما قبل الوقت عند فعله خاصة فلم ينتج كلامه مقصوده بوجه

قال ( وإنما صعب على طالب العلم هذا من جهة أنه يسمع طول عمره أن الطهارة واجبة في الصلاة مطلقا ولم يسمع في ذلك تفصيلا فصعب عليه التفصيل وكم من تفصيل قد سكت عنه الدهر الطويل وأجراه الله تعالى على قلب من شاء من عباده في جميع العلوم العقليات والنقليات ومن اشتغل بالعلوم وكثر تحصيله لها اطلع على شيء كثير من ذلك فهذا هو تحرير هذا الموضع عندي وهو من المشكلات التي يقل تحريرها والجواب عنها من الفضلاء ) قلت ما قاله في ذلك كله صحيح غير أنه لا ينتج له مقصوده أو لا يلزم أن يكون التفصيل على الوجه الذي ذكره من تلك التفصيلات والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق السادس والعشرون بين قاعدة خطاب التكليف وقاعدة خطاب الوضع ) اعلم أن الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة ضربان أحدهما خارج عن مقدور المكلف وهذا قد يكون سببا كالاضطرار في إباحة الميتة وخوف العنت في إباحة نكاح الإماء والسلس في إسقاط وجوب [ ص: 176 ] الوضوء لكل صلاة مع وجود الخارج وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر في إيجاب تلك الصلوات وما أشبه ذلك وقد يكون شرطا كالحول في إيجاب الزكاة والبلوغ في التكليف مطلقا والقدرة على التسليم في صحة البيع والرشد في دفع مال اليتيم إليه وإرسال الرسل في الثواب والعقاب وما أشبه ذلك وقد يكون مانعا كالحيض من الوطء والطلاق والطواف بالبيت ووجوب الصلوات وأداء الصيام والجنون من القيام بالعبادات وإطلاق التصرفات وما أشبه ذلك الضرب الثاني ما لا يكون خارجا عن مقدور المكلف وله نظر إن نظر من جهة دخوله تحت خطاب التكليف مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه لاقتضائه للمصالح أو المفاسد جلبا أو دفعا كالبيع والشراء للانتفاع والنكاح للنسل والانقياد للطاعة لحصول الفوز وما أشبه ذلك وهو بين ونظر من جهة دخوله تحت خطاب الوضع إما لكونه سببا كالنكاح سببا في حصول التوارث بين الزوجين وتحريم المصاهرة وحلية الاستمتاع والذكاة سببا لحلية الانتفاع بالأكل والسفر سببا في إباحة القصر والفطر والقتل والجرح سببا للقصاص والزنا وشرب الخمر والسرقة والقذف أسبابا لحصول تلك العقوبات

وما أشبه ذلك وإما لكونه شرطا كالنكاح شرطا في وقوع الطلاق أو في حل مراجعة المطلقة ثلاثا والإحصان شرطا في رجم الزاني والطهارة شرطا في صحة الصلاة والنية شرطا في صحة العبادات وما أشبه ذلك وإما لكونه مانعا كنكاح الأخت مانعا من نكاح الأخرى ونكاح المرأة مانعا من نكاح عمتها وخالتها والإيمان مانعا من القصاص للكافر والكفر مانعا من قبول الطاعات وما أشبه ذلك وهذه الثلاثة وإن اجتمعت في نحو النكاح لكن لا لحكم واحد بل إنما هو سبب لحكم وشرط لآخر ومانع لآخر كما علمت إذ لا يصح اجتماعها ولا اثنين منها على الحكم الواحد كما لا يصح ذلك في أحكام خطاب التكليف لما في ذلك من التدافع ا هـ ملخصا من الموافقات للشاطبي

ويضبط خطاب التكليف بأمور ثلاثة أحدها أنه في اصطلاح العلماء هو الأحكام الخمسة الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة قيل والأصل في لفظه التكليف لكونها مشتقة من الكلفة أن لا تطلق إلا على التحريم والوجوب إذ لا توجد الكلفة إلا فيهما لأجل الحمل على الفعل أو الترك خوف العقاب والمكلف بالنسبة لما عداهما في سعة لعدم المؤاخذة فلا كلفة إلا أنهم توسعوا في إطلاق اللفظ على الجميع تغليبا أو لكونها لا تتعلق إلا بفعل المكلف [ ص: 177 ] وفي حاشية الأمير على عبد السلام ما حاصله أن التكليف إما أن يفسر بإلزام ما فيه كلفة فلا يشمل الندب والكراهة وإما أن يفسر بالطلب فيشملهما وعلى الأول يظهر ما رجحه المالكية من تعلق الندب والكراهة بالصبي كأمره بالصلاة لسبع من الشارع بناء على أن الأمر بالأمر أمر وأما الإباحة فليست تكليفا عليهما وعدها في أحكام التكليف إما أنه تغليب أو أن معناه أنها لا تتعلق إلا بالمكلف لما صرح به في أصول الفقه من أن أفعال الصبي ونحوه كالبهائم مهملة ولا يقال أنها مباحة وتقريبه أن معنى مباحة لا إثم في فعلها ولا في تركها ولا ينفى الشيء إلا حيث يصح ثبوته قال ولا يعول على ظاهر ما نقل عن أبي منصور الماتريدي والحنفية من أن الصبي مكلف بالإيمان بالله وأنهم حملوا رفع القلم عنه على غير الإيمان من الشرعيات وذلك لأن جمهور أهل العلم على نجاة الصبيان مطلقا وهم في الجنة ولو أولاد الكفار نعم إن أرادوا ما قاله أصحابنا المالكية ردة الصبي وإيمانه معتبران بمعنى إجراء الأحكام الدنيوية التي تتسبب عنهما كبطلان ذبحه ونكاحه وصحتهما رجع لخطاب الوضع من حيث السبب والمانع وهو لا يتقيد بالمكلف إلا أنه لا يعاقب في الآخرة ولا يقتل قبل البلوغ ا هـ وقد قدمنا تبعا لابن الشاط أن التكليف بعينه مشقة لأنه منع الإنسان من الاسترسال مع دواعي نفسه وهو أمر نسبي وبهذا الاعتبار سمي تكليفا وهذا المعنى موجود في جميع أحكامه حتى الإباحة ويوضح هذا ما قاله الشاطبي في الموافقات من أن القاعدة المقررة أن الشرائع إنما جيء بها لمصالح العباد

فالأمر والنهي والتخيير جميعا راجعة إلى حظ المكلف ومصالحه لأن الله تعالى غني عن الحظوظ منزه عن الأغراض غير أن الحظ على ضربين أحدهما داخل تحت الطلب فللعبد أخذه من جهة الطلب فلا يكون ساعيا في حظه وهو مع ذلك لا يفوته حظه لكنه أخذ له من جهة الطلب لا من حيث باعث نفسه وهذا معنى كونه بريئا من الحظ وقد يأخذه من حيث الحظ إلا أنه لما كان داخلا تحت الطلب فطلبه من ذلك الوجه صار حظه تابعا للطلب فلحق بما قبله في التجرد عن الحظ وسمي باسمه والثاني غير داخل تحت الطلب فلا يكون آخذا له إلا من جهة إرادته واختياره لأن الطلب مرفوع عنه بالغرض فهو وقد أخذه إذا من جهة حظه فلهذا يقال في المباح إنه العمل المأذون فيه المقصود به مجرد الحظ الدنيوي خاصة ا هـ أي إلا أنه لما لم يتم فيه الحظ المذكور بواسطة الحجر عن الاسترسال فيه وفي غيره إلا بمقتضى الإذن لم يخل عن كلفة ومشقة [ ص: 178 ] فافهم وثاني الأمور أن متعلقه الفعل لا الكون كذا وثالثها أنه يشترط في خطاب التكليف علم المكلف بالتكليف وقدرته على ذلك الفعل وكونه من كسبه لقول الشيخ تاج الدين السبكي في جمع الجوامع والصواب امتناع تكليف الغافل والملجأ ا هـ .

أما الأول وهو من لا يدري كالنائم والساهي فلأنه لو صح تكليفه لكان مستدعي حصول الفعل منه على قصد الطاعة والامتثال وهو لا يفهم وأنه محال إذ لا يتصور ممن لا شعور له بالأمر قصد الفعل امتثالا للأمر واستحالة اللازم يلزمها استحالة الملزوم وأما الثاني وهو من يدري ولا مندوحة له كما ألجئ إليه كالملقى من شاهق على شخص يقتله لا مندوحة له عن الوقوع عليه القاتل له فامتناع تكليفه بالملجأ إليه أو بنقيضه لعدم قدرته على ذلك لأن الملجأ إليه واجب الوقوع عادة ونقيضه ممتنع الوقوع كذلك ولا قدرة له على واحد من الواجب والممتنع ، وتكليف الغافل ليس من قبيل التكليف بالمحال بل من قبيل التكليف المحال والفرق بينهما هو أن الخلل في الأول راجع إلى المأمور به وفي الثاني راجع إلى المأمور فلا يلزم من تجويز التكليف بالمحال جواز تكليف الغافل الذي هو من قبيل التكليف المحال على أن في التكليف بالمحال فائدة مفقودة في تكليف الغافل وهو اختيار الشخص هل يمتثل بالأخذ في الأسباب أو لا نعم تكليف الملجأ من قبيل التكليف بالمحال إذ لا فرق بينه وبين تكليف الزمن بالمشي والإنسان بالطيران الذي عده في جمع الجوامع من قبيل التكليف بالمحال وجوزه قال سم إلا أن يفرق بمجرد أن الملجأ ساقط الاختيار رأسا بخلاف غيره ولا يخفى ما فيه فتأمل ا هـ .

ملخصا من المحلي والعطار والشربيني قال الشربيني والحق أن كلام المتقدمين في مسألة الملجأ إنما هو من جهة عدم جواز تكليف من أزيل رضاه واختياره وصار بحيث لا قدرة له أصلا بالإلجاء كما أن كلامهم في مسألة الغافل إنما هو من جهة امتناع تكليفه من حيث غفلته وفي مسألة التكليف بالمحال أي ما لا يطاق عادة إنما هو من جهة جواز تكليف من لا تصلح قدرته للمكلف به مع علمه بالتكليف وعدم إكراهه وإلجائه فكلامهم في كل من حيث خصوصه لا من حيث عموم غيره له أو عمومه لغيره لأنهم رحمهم الله تعالى اكتفوا في التفرقة بين المسائل المتشابهة بالقيود المأخوذة من عنوانها وإلا لم تكن هي محل الكلام فيها فسقط ما لسم وغيره من المتأخرين هنا فافهم ويضبط خطاب الوضع بأمور ثلاثة أيضا

أحدها أنه ينحصر في الأسباب والشروط والموانع والصحة والبطلان والعزائم والرخص فهذه خمسة أنواع بعد الصحة والبطلان واحدا والعزائم والرخص واحدا كما في الموافقات للشاطبي ولم يعد في جمع الجوامع وشروحه وحواشيه العزائم والرخص بل اعتبروا الصحة والفساد نوعين لا نوعا واحدا بل قال العطار الحق ما للناصر من أن المأخوذ من كلام ابن الحاجب والعضد من أن الصحة والفساد من الأحكام العقلية بعرض العبادة مثلا على الأوامر فكون الفعل موافقا للأوامر أو مخالفا لا يحتاج إلى توقيف من الشارع بل يعرف بمجرد العقل ككونه مؤديا للصلاة أو تاركا لها فلا يكون حكما شرعيا بل عقليا وعلى هذا فالأحكام الوضعية ثلاثة ا هـ

وثانيها أن متعلقه [ ص: 179 ] الكون كذا لا الفعل فهو عبارة عن الخطاب بنصب الأسباب الوقتية كالدلوك لوجوب الصلاة والمعنوية كالإسكار للتحريم والخطاب بنصب الشروط للحكم كالقدرة على التسليم للمبيع أو لسبب كالطهارة في الصلاة وسببها أي الصلاة تعظيم الله تعالى والخطاب بنصب الموانع إما للحكم كالأبوة في القصاص أو للسبب كالدين في الزكاة والخطاب بنصب الصحة والبطلان للعبادات والعادات وكل من لفظي الصحة والبطلان يطلق باعتبار ترتب آثار العمل عليه في الدنيا وعدم ترتبه عليه وباعتبار ترتب آثار العمل في الآخرة وعدم ترتبه والخطاب بنصب العزيمة والرخصة والعزيمة ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء والرخصة ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه انظر الموافقات وسيأتي بيان بعضه في الفرق الحادي والثمانين فترقب

وثالثها أن خطاب الوضع لا يشترط فيه علم المكلف وقدرته وكونه من كسبه فلذلك نورث بالأنساب من لا يعلم نسبه ويدخل العبد الموروث في ملكه ويعتق عليه إن كان ممن يعتق عليه مع غفلته عن ذلك وعجزه عن دفعه ويطلق بالإضرار والإعسار اللذين هما مجوز عنهما ويضمن بالإتلاف المغفول عنه من الصبيان والمجانين فإن معنى خطاب الوضع قول صاحب الشرع في السبب اعلموا أنه متى وجد كذا فقد وجب كذا أو حرم كذا أو ندب أو غير ذلك وفي المانع متى وجد كذا فقد عدم كذا وفي الشرط متى عدم كذا فقد عدم كذا وقس الباقي وأما اشتراط القدرة والعلم والقصد في أسباب العقوبات التي هي جنايات كالقتل الموجب للقصاص والزنا وشرب الخمر الموجبين للحد فلذلك لا قصاص في قتل الخطأ ولا يجب حد الزنا على المكره ولا على من لا يعلم أن الموطوءة أجنبية بل إذا اعتقد أنها امرأته سقط الحد لعدم العلم واشتراط ذلك أيضا في أسباب انتقال الأملاك كالبيع والهبة والوصية والصدقة والوقف والإجارة والقراض والمساقاة والمغارسة والجعالة وغير ذلك مما هو سبب انتقال الأملاك فمن باع وهو لا يعلم أن هذا اللفظ أو هذا التصرف يوجب انتقال الملك لكونه عجميا أو طارئا على بلاد الإسلام لا يلزمه بيع ولا نحوه من جميع ما ذكر معه ومن أكره على البيع أو نحوه مما ذكر معه لا يلزمه ذلك فلأنه لما ازدوج في هذه الأمور خطاب التكليف والوضع لحقها اشتراط ذلك من جهة خطاب التكليف لا من جهة خطاب الوضع حتى يقال باستثنائها من خطاب الوضع نعم لما ارتفع خطاب التكليف مع عدم تلك الأوصاف ارتفع خطاب الوضع المرتب عليه والله أعلم وسيأتي آخر الفرق السابع والتسعين الفرق بين المانع اعتبر فيه أن يكون وجوديا وبين السبب لم يعتبر فيه ذلك والفرق بين مانع الحكم وعدم السبب فترقب

( وصل ) في ثبوت العفو وعدم ثبوته قولان استدل من قال بثبوته بثلاثة أوجه أحدها ما تقدم من أن الأحكام الخمسة إنما تتعلق بأفعال المكلفين مع القصد إلى الفعل وأما دون ذلك فلا وإذا لم يتعلق بها حكم منها مع وجدانه أي الحكم ممن شرط الحكم وبين مانع السبب وعدم شرط شأنه أن تتعلق به فهو معنى العفو المتكلم فيه أي لا مؤاخذة به

والثاني ما جاء من النص على هذه المرتبة على الخصوص فقد روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال { إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها [ ص: 180 ] ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها } وقال ابن عباس ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله تعالى عليه وسلم كلها في القرآن { يسألونك عن المحيض } { يسألونك عن اليتامى } { يسألونك عن الشهر الحرام } ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم يعني أن هذا كان الغالب عليهم وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال ما لم يذكر في القرآن فهو مما عفا الله عنه وكان يسأل عن الشيء لم يحرم فيقول عفو وقيل له ما تقول في أموال أهل الذمة فقال العفو يعني لا تؤخذ منهم زكاة وقال عبيد بن عمير أحل الله حلالا وحرم حراما فما حل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

والثالث ما يدل على هذا المعنى في الجملة كقوله تعالى { عفا الله عنك لم أذنت لهم } الآية فإنه موضع اجتهاد في الإذن عند عدم النص وقد ثبت في الشريعة العفو عن الخطأ في الاجتهاد حسبما بسطه الأصوليون ومنه قوله تعالى { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } { وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يكره كثرة السؤال فيما لم ينزل فيه حكم } بناء على حكم البراءة الأصلية إذ هي راجعة إلى هذا المعنى ومعناها أن الأفعال معها معفو عنها وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم { إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته } انظر الموافقات للشاطبي واستدل القائل بعدمه بثلاثة أوجه أيضا

أحدها أن أفعال المكلفين من حيث هم مكلفون إما أن تكون بجملتها داخلة تحت خطاب التكليف فهو الاقتضاء أو التخيير أو لا تكون بجملتها داخلة فإن كان بجملتها داخلة فلا زائد على الأحكام الخمسة وهو المطلوب وإن لم تكن داخلة بجملتها لزم أن يكون بعض المكلفين خارجا عن حكم خطاب التكليف ولو في وقت أو حالة ما لكن ذلك باطل لأنا فرضناه مكلفا فلا يصح خروجه فلا زائد على الأحكام الخمسة

والثاني أن هذا زائد إما أن يكون حكما شرعيا أو لا فإن لم يكن حكما شرعيا فلا اعتبار به وإن كان حكما شرعيا فإما من خطاب التكليف وأنواعه محصورة في الخمسة وإما من خطاب الوضع وأنواعه أيضا محصورة في الخمسة التي ذكرها الأصوليون وهذا ليس من هذه ولا من هذه فكان لغوا ويدل على أنه ليس حكما شرعيا أو لا أنه مسمى بالعفو والعفو إنما يتوجه حيث يتوقع للمكلف حكم المخالفة لأمر أو نهي وذلك يستلزم كون المكلف به قد سبق حكمه فلا يصح أن يتوارد عليه حكم آخر لتضاد الأحكام وثانيا أن العفو إنما هو حكم أخروي لا دنيوي وكلامنا في الأحكام المتوجهة في الدنيا والثالث أن هذا الزائد أي مرتبة العفو إن كانت راجعة إلى المسألة الأصولية وهي أن يقال هل يصح أن يخلو بعض الوقائع عن حكم الله أم لا فالمسألة مختلف فيها فليس إثباتها أولى من نفيها إلا بدليل والأدلة فيها متعارضة فلا يصح إثباتها إلا بالدليل السالم عن المعارض ودعواه وأيضا إن كانت اجتهادية فالظاهر نفيها بالأدلة المذكورة في كتب الأصول وإن لم تكن راجعة إلى تلك المسألة فليست بمفهومة وما تقدم من الأدلة على إثبات تلك المرتبة لا دليل فيه فالأدلة النقلية غير مقتضية للخروج عن الأحكام [ ص: 181 ] الخمسة لإمكان الجمع بينهما ولأن العفو أخروي وأيضا فإن سلم للعفو ثبوت ففي زمانه عليه الصلاة والسلام لا في غيره ولإمكان تأويل تلك الظواهر وما سيذكر من أنواع العفو فداخلة أيضا تحت الخمسة فإن العفو فيها راجع إلى رفع حكم الخطأ والنسيان والإكراه والحرج وذلك يقتضي إما الجواز بمعنى الإباحة وإما رفع ما يترتب على المخالفة من الذم وتسبيب العقاب وذلك يقتضي إثبات الأمر والنهي مع رفع آثارهما لمعارض فارتفع الحكم بمرتبة الحكم وأن يكون أمرا زائدا على الخمسة وفي هذا المجال أبحاث أخر وعلى القول بثبوت العفو فهل هو حكم أم لا احتمالات وعلى الاحتمال الأول فهل يرجع إلى خطاب التكليف أم إلى خطاب الوضع احتمالات جزم الأصل بالثاني وقال الشاطبي والنظر في هذه الاحتمالات لما لم يكن مما ينبني عليه حكم عملي لم يتأكد البيان فيه فكان الأولى تركه أفاد جميع ذلك في الموافقات ولمواقع العفو على ثبوته إعمالا لأدلته ضابطان

الضابط الأول للأصل أنه التقادير الشرعية التي هي إعطاء الموجود حكم المعدوم كتقدير النجاسة في حكم العدم في صور الضرورات كدم البراغيث وموضع الحدث في المخرجين أو المعدوم حكم الموجود كتقدير الكفر المعدوم عند قتل المسلم لظنه كافرا في حكم الموجود فيسقط القصاص والضابط الثاني للشاطبي في الموافقات أنه ينحصر في ثلاثة أنواع أحدها الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض قصد نحوه وقد قوي معارضه كالعمل بالعزيمة الراجعة إلى أصل التكليف وإن توجه حكم الرخصة المستمدة من قاعدة رفع الحرج وبالعكس فالرجوع إلى حكم الرخصة وقوف مع ما مثله معتمد لكن لما كان أصل رفع الحرج واردا على أصل التكليف وورد المكمل ترجح جانب أصل العزيمة بوجه ما غير أنه لا يخرم أصل الرجوع لأن بذلك المكمل قيام أصل التكليف وقد اعتبر في مذهب مالك هذا ففيه أن من سافر في رمضان أقل من أربعة برد فظن أن الفطر مباح به فأفطر فلا كفارة عليه ومن أفطر فيه بتأويل وإن كان أصله غير علمي بل هذا جار في كل متأول كشارب المسكر يظنه غير مسكر وقاتل المسلم يظنه كافرا وآكل المال الحرام عليه يظنه حلالا له والمتطهر بماء نجس يظنه طاهرا وأشباه ذلك ومثله المجتهد المخطئ في اجتهاده أخرج أبو داود عن { ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخطب فسمعه يقول اجلسوا فجلس بباب المسجد فرآه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له تعال يا عبد الله بن مسعود وسمع عبد الله بن رواحة وهو بطريق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يقول اجلسوا فجلس في الطريق فمر به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ما شأنك فقال سمعتك تقول اجلسوا فجلست فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم زادك الله طاعة } وقد قال عليه الصلاة والسلام { لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركهم وقت العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي ولم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يعنف واحدة من الطائفتين } ويدخل ههنا كل قضاء قضى به القاضي من مسائل الاجتهاد ثم يتبين له خطؤه ما لم يكن قد أخطأ نصا أو إجماعا أو بعض القواطع وكذلك الترجيح بين الدليلين فإنه وقوف مع أحدهما وإهمال للآخر فإذا [ ص: 182 ] فرض مهملا للراجح فذلك لأجل وقوفه مع المرجوح وهو في الظاهر دليل يعتمد مثله وكذلك العمل بدليل منسوخ أو غير صحيح فإنه وقوف مع ظاهر دليل يعتمد مثله في الجملة فلا يدخل تحت هذا النوع من العفو وقوفه مع مقتضى دليل غير معارض لأنه أمر أو نهي أو تخيير عمل على وفقه فلا عتب يتوهم فيه ومؤاخذة تلزمه بحكم الظاهر فلا موقع للعفو فيه ولا وقوفه مع ما لم يقو معارضه لأنه من النوع الثاني

النوع الثاني خروجه عن مقتضى الدليل عن غير قصد أو عن قصد لكن بالتأويل فمثال مخالفته عن غير قصد أن يعمل الرجل عملا على اعتقاد إباحته لأنه لم يبلغه دليل تحريمه أو كراهيته أو يتركه معتقدا إباحته إذا لم يبلغه دليل وجوبه أو ندبه كقريب العهد بالإسلام لا يعلم أن الخمر محرمة فيشربها أو لا يعلم أن غسل الجنابة واجب فيتركه وكما اتفق في الزمان الأول حين لم تعلم الأنصار طلب الغسل من التقاء الختانين ومثل هذا كثير يتبين للمجتهدين وقد روي عن مالك أنه كان لا يرى تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ويراه من التعمق حتى بلغه أن { النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يخلل } فرجع إلى القول به وكما اتفق لأبي يوسف مع مالك في المد والصاع حتى رجع إلى القول بذلك ومن ذلك العمل على المخالفة خطأ أو نسيانا أو إكراها ففي الحديث { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } فإنه وإن لم يصح إلا أن معناه متفق عليه ومن ذلك العفو عن عثرات ذوي الهيئات فإنه ثبت في الشرع إقالتهم في الزلات وأن لا يعاملوا بسببها معاملة غيرهم ففي الحديث { أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم }

وفي حديث آخر { تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة والصلاح } وروي العمل بذلك عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم فإنه قضى به في رجل من آل عمر بن الخطاب شبح رجلا وضربه فأرسله وقال أنت من ذوي الهيئات وفي خبر آخر عن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال استأذى علي مولى لي جرحته يقال له سلام البربري إلى ابن حزم فأتاني فقال جرحته قلت نعم قال سمعت خالتي عمرة تقول قالت عائشة قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم { أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم } فخلى سبيله ولم يعاقبه وهذا أيضا من شئون رب العزة سبحانه فإنه قال { ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } الآية لكنها أحكام أخروية وكلامنا في الأحكام الدنيوية ويقرب من هذا المعنى درء الحدود بالشبهات فإن الدليل يقوم هنالك مفيدا للظن في إقامة الحد ومع ذلك فإذا عارضه شبهة وإن ضعفت غلب حكمها ودخل صاحبها في حكم العفو وقد يعد هذا المجال مما خولف فيه الدليل بالتأويل وهو من هذا النوع أيضا ومثال مخالفته بالتأويل مع المعرفة بالدليل ما وقع في الحديث في تفسير قوله تعالى { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية عن قدامة بن مظعون حين قال لعمر بن الخطاب إن كنت شربتها فليس لك أن تجلدني قال عمر ولم قال لأن الله يقول { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية . فقال عمر إنك أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله قال القاضي إسماعيل وكأنه أراد أن هذه الحالة تكفر ما كان من شربه لأنه كان ممن اتقى وآمن وعمل الصالحات وأخطأ [ ص: 183 ] في التأويل بخلاف من استحلها كما في حديث علي رضي الله عنه ولم يأت في حديث قدامة أنه حد ومما وقع في المذهب في المستحاضة تترك الصلاة زمانا جاهلة بالعمل أنه لا قضاء عليها فيما تركت قال في مختصر ما ليس في المختصر لو طال بالمستحاضة والنفساء الدم فلم تصل النفساء ثلاثة أشهر ولا المستحاضة شهرا لم تقضيا ما مضى إذا تأولتا في ترك الصلاة دوام ما بهما من الدم وقيل في المستحاضة إذا تركت بعد أيام أقرائها يسيرا أعادته وإن كان كثيرا فليس عليها قضاؤه بالواجب وفي سماع أبي زيد عن مالك أنها إذا تركت الصلاة بعد الاستظهار جاهلة لا تقضي صلاة تلك الأيام واستحب ابن القاسم لها القضاء ومن ذلك أيضا المسافر يقدم قبل الفجر فيظن أن من لم يدخل قبل غروب الشمس فلا صوم له أو تطهر الحائض قبل طلوع الفجر فيظن أنه لا يصح صومها حتى تطهر قبل الغروب فلا كفارة هنا وإن خالف الدليل لأنه متأول وإسقاط الكفارة هو معنى العفو

النوع الثالث العمل بما هو مسكوت عن حكمه إما على القول بصحة الخلو كما هو مقتضى حديث { وما سكت عنه فهو عفو } وأشباهه مما تقدم فظاهر وأما على القول الآخر بعدم صحة الخلو فيمكن أن يصرف السكوت عليه إلى ثلاثة أوجه

الوجه الأول ترك الاستفصال مع وجود فطنته كما في قوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } فإن هذا العموم يتناول بظاهره ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم وإذا نظر إلى المعنى أشكل لأن في ذبائح الأعياد زيادة تنافي أحكام الإسلام فكان للنظر هنا مجال ولكن مكحولا سئل عن المسألة فقال كله قد علم الله ما يقولون وأحل ذبائحهم يريد والله أعلم أن الآية لم يخص عمومها وإن وجد هذا الخاص المنافي وعلم الله مقتضاه ودخوله تحت عموم اللفظ ومع ذلك فأحل ما ليس فيه عارض وما هو فيه لكن بحكم العفو عن وجه المنافاة وإلى نحو هذا يشير قوله عليه الصلاة والسلام { وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها } وحديث الحج أيضا مثل هذا حين قال { أحجنا هذا لعامنا أو للأبد } لأن اعتبار اللفظ يعطي أنه للأبد فكره عليه الصلاة والسلام سؤاله وبين له علة ترك السؤال عن مثله وكذلك حديث { إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما } إلخ يشير إلى هذا المعنى فإن السؤال عما لم يحرم ثم يحرم لأجل المسألة إنما يأتي في الغالب من جهة إبداء وجه فيه يقتضي التحريم مع أن له أصلا يرجع إليه في الحلية وإن اختلفت فروعه في أنفسها أو دخلها معنى يخيل الخروج عن حكم ذلك الأصل ونحوه حديث { ذروني ما تركتكم } وأشباه ذلك

الوجه الثاني السكوت عن مجاري العادات مع استصحابها في الوقائع كما في الأشياء التي كانت في أول الإسلام على حكم الإقرار ثم حرمت بعد ذلك بتدريج كالخمر فإنها كانت معتادة الاستعمال في الجاهلية ثم جاء الإسلام فتركت على حالها قبل الهجرة وزمانا بعد ذلك ولم يتعرض في الشرع للنص على حكمها حتى نزل { يسألونك عن الخمر والميسر } فبين ما فيها من المنافع والمضار وأن الأضرار فيها أكبر من المنافع وترك الحكم الذي اقتضته المصلحة وهو التحريم لأن القاعدة الشرعية أن المفسدة إذا أربت على المصلحة فالحكم للمفسدة والمفاسد ممنوعة فبان وجه المنع في الخمر والميسر غير أنه لما لم ينص على المنع وإن ظهر وجهه تمسكوا بالبقاء مع الأصل الثابت لهم بمجاري العادات [ ص: 184 ] ودخل لهم تحت العفو إلى أن نزل ما في سورة المائدة من قوله تعالى { فاجتنبوه } فحينئذ استقر حكم التحريم وارتفع العفو وقد دل على ذلك قوله تعالى { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية فإنه لما حرمت قالوا كيف بمن مات وهو يشربها فنزلت الآية فرفع الجناح وهو معنى العفو ومثل ذلك الربا المعمول بها في الجاهلية وفي أول الإسلام وكذلك بيوع الغرر الجارية بينهم كبيع المضامين والملاقيح والثمر قبل بدو صلاحه وأشباه ذلك كلها كانت مسكوتا عنها وما سكت عنها فهو في معنى العفو والنسخ بعد ذلك لا يرفع هذا المعنى لوجود جملة منه باقية إلى الآن على حكم إقرار الإسلام كالقراض والحكم في الخنثى بالنسبة إلى الميراث وغيره وما أشبه ذلك مما نبه العلماء عليه

الوجه الثالث السكوت عن أعمال أخذت قبل من شريعة إبراهيم عليه السلام كما في النكاح والطلاق والحج والعمرة وسائر أفعالهما إلا ما غيروا فقد كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام فيفرقون بين النكاح والسفاح ويطلقون ويطوفون بالبيت أسبوعا ويمسحون الحجر الأسود ويسعون بين الصفا والمروة ويلبون ويقفون بعرفات ويأتون مزدلفة ويرمون الجمار ويعظمون الأشهر الحرم ويحرمونها ويغتسلون من الجنابة ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويصلون عليهم ويقطعون السارق ويصلبون قاطع الطريق إلى غير ذلك مما كان فيهم من بقايا ملة أبيهم إبراهيم فكانوا على ذلك إلى أن جاء الإسلام فبقوا على حكمه حتى أحكم الإسلام منه ما أحكم وانتسخ ما خالفه فدخل ما كان قبل ذلك في حكم العفو مما لم يتجدد فيه خطاب زيادة على التلقي من الأعمال المتقدمة وقد نسخ منها ما نسخ وأبقى منها ما أبقى على المعهود الأول انتهى كلام الشاطبي في الموافقات بتصرف ( وصل ) في بيان هذا الفرق بثلاث مسائل ( المسألة الأولى ) يجتمع خطاب الوضع مع خطاب التكليف في أمور منها الزنا فإنه خطاب تكليف من جهة أنه حرام ووضع من جهة أنه سبب للحد ومنها السرقة فهي خطاب تكليف من جهة التحريم ووضع من جهة أنها سبب القطع ومنها بقية الجنايات فإنها محرمة وهي أسباب العقوبات ومنها البيع فإنه خطاب تكليف من جهة أنه مباح أو مندوب أو واجب أو حرام على قدر ما يعرض له في صوره على ما هو مبسوط في كتب الفقه ووضع من جهة أنه سبب انتقال الملك في البيع الجائز أو التقدير في الممنوع ومنها بقية العقود فإنها تتخرج على هذا المنوال وينفرد خطاب الوضع عن خطاب التكليف في أمور منها الزوال ورؤية الهلال ودوران الحول ونحوها فإنها من خطاب الوضع وليس فيها أمر ولا نهي ولا إذن من حيث هي كذلك بل إنما وجد الأمر في أثنائها وترتبها فقط وينفرد خطاب التكليف عن خطاب الوضع في أمور منها أداء الواجبات واجتناب المحرمات كإيقاع الصلوات وترك المنكرات فإن هذه وإن كانت من خطاب التكليف لم يجعلها صاحب الشرع سببا لفعل آخر نؤمر به أو ننهى عنه بل وقف الحال عند أدائها وترتبها على أسبابها وإن كان صاحب الشرع قد جعلها سببا لبراءة الذمة وترتيب الثواب ودرء العقاب غير أن هذه ليست أفعالا للمكلف ونحن لا نعني بكون الشيء [ ص: 185 ] سببا إلا كونه سببا لفعل من قبل المكلف فبينهما العموم والخصوص الوجهي ( المسألة الثانية ) يجب على ولي الصبي إذا أفسد الصبي مالا لغيره إخراج الجابر من مال الصبي فالإتلاف سبب للضمان على الصبي بعد بلوغه إخراج الجابر من ماله إذا لم يخرجه الولي من قبل فقد تقدم السبب في زمن الصغر وتأخر أثره بعد البلوغ وأما بيعه ونكاحه وطلاقه وعتقه فلا تكون أسبابا لآثارها لا قبل ولا بعد والفرق بين اعتبار سببية الإتلاف للضمان قبل وبين عدم اعتبار سببية البيع وما بعده لآثارها قبل من وجهين أحدهما أن هذه الأمور يشترط فيها اعتبار المصالح والصبي ليس بأهل لذلك والثاني أن أثر الطلاق التحريم وأثر البيع إلزام تسليم المبيع والصبي ليس أهلا للتكليف بالتحريم والإلزام والفرق بين اعتبار سببية الإتلاف للضمان بعد وعدم اعتبار سببية البيع وما بعده لآثارها بعد هو أن تأخر المسببات عن أسبابها على خلاف الأصل وإنما خالفنا هذا الأصل في الإتلاف لضرورة حق الآدمي في جبر ماله لئلا يذهب مجانا فتضيع الظلامة وهذه ضرورة عظيمة تحققت في الإتلاف فاقتضت مخالفة الأصل المذكور فيه ولم تتحقق في الطلاق والبيع وما معهما بل إذا أسقطنا الطلاق واستصحبنا العصمة لم يلزم فساد ولا تفوت ضرورة وكذلك أيضا إذا أبقينا الملك في المبيع للصبي كنا موافقين للأصل ولا يلزم محظور ألبتة ( المسألة الثالثة ) فتاوى علمائنا متظافرة على أن الطهارة وستر العورة واستقبال الكعبة في الصلاة من الواجبات والصحيح ما قاله القاضي أبو بكر بن العربي من أن وجوبها موسع قبل الوقت وفي الوقت وأن الوجوب فيها ليس تبعا لطرآن السبب الذي هو الزوال ونحوه من أوقات الصلوات بل يقع الوجوب فيها تبعا لطرآن العزم على التهيؤ والاستعداد لإيقاع الصلاة ووقت طرآن هذا العزم ما بين أقرب حدث يحدثه المرء وإيقاع الصلاة والدليل على صحة ذلك أمور الأول انعقاد الإجماع على أن المكلف لو توضأ قبل الوقت واستتر واستقبل القبلة ثم جاء الوقت وهو على تلك الصورة وصلى من غير أن يجدد فعلا ألبتة في هذه الثلاثة أجزأته صلاته الثاني تعذر القول بإجزاء ما ليس بواجب عن الواجب

الثالث لزوم نية الوجوب الرابع أنه لا يلزم أن لا يجب الشرط إلا عند وجوب المشروط إذ لا استحالة في مغايرة سبب المشروط لسبب الشرط كما هنا فإن هذه الأمور وضعية تقع بحسب قصد واضعها ونظير ما هنا من العاديات من يعلم من عادته اضطراره إلى الغذاء في وقت طلوع الشمس ومن شرط الغذاء الذي يتغذى به طبخه فلا بد من تقديم الطبخ الذي هو الشرط على وقت الاغتذاء ثم لا يتعين لذلك الطبخ الزمن المجاور لزمن الاغتذاء بل له تقديم الطبخ والاستعداد به من حين طروء عزمه على الاستعداد وإنما صح ذلك لاستواء حصول المصلحة بالاغتذاء بالقريب الطبخ وهذا على تقدير استواء ذلك بالنسبة إلى حال هذا الشخص وهذا الغذاء والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية