الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 428 - 429 ] كتاب العتاق الإعتاق تصرف مندوب إليه ، قال صلى الله عليه وسلم { أيما مسلم أعتق مؤمنا أعتق الله تعالى بكل عضو منه عضوا منه من النار } ولهذا استحبوا أن يعتق الرجل العبد والمرأة الأمة ليتحقق مقابلة الأعضاء بالأعضاء . قال ( العتق يصح من الحر البالغ العاقل في ملكه ) شرط الحرية لأن العتق لا يصح إلا في الملك ولا ملك للمملوك والبلوغ [ ص: 430 - 431 ] لأن الصبي ليس من أهله لكونه ضررا ظاهرا ، ولهذا لا يملكه الولي عليه ، والعقل لأن المجنون ليس بأهل للتصرف ولهذا لو قال البالغ : أعتقت وأنا صبي فالقول قوله ، وكذا إذا قال المعتق أعتقت وأنا مجنون وجنونه كان ظاهرا [ ص: 432 ] لوجود الإسناد إلى حالة منافية ، وكذا لو قال الصبي كل مملوك أملكه فهو حر إذا احتلمت لا يصح لأنه ليس بأهل لقول ملزم ، ولا بد أن يكون العبد في ملكه حتى لو أعتق عبد غيره لا ينفذ عتقه لقوله صلى الله عليه وسلم { لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم } .

[ ص: 429 ]

التالي السابق


[ ص: 429 ] كتاب العتاق . اشترك كل من الطلاق والإعتاق في أنه إسقاط إلا أنه إسقاط ملك الرقبة والطلاق إسقاط ملك منافع البضع ، وأما إسقاط ملك ما في الذمة فيسمى إبراء وإسقاط ملك القصاص يسمى عفوا فقد ميزت أنواع الإسقاطات بأسماء لينسب إليها مع اختصار ، وتسري إضافة للبعض إلى الكل ، وهذا على ظاهر قولهما وعلى قوله بتأويل الأول إلى الكل ويلزم حتى لا يقبل الفسخ ، إلا أنه قدم الطلاق وإن كان غير مندوب إليه على العتق المندوب إليه وصلا له بمقابله وهو النكاح ولأنه يقع على محله بشرط وجوده فكان متصلا به أو هو من بيان أحكام النكاح لأن النكاح يوجب ملك [ ص: 430 ] الطلاق ، وبيان متعلق الحكم يبين نفس الحكم المتعلق لأنه في بيان أنه يملكه على أي وجه من الحل والحرمة والندب والسريان وغير ذلك ، ولا يخفى ما في الإعتاق من المحاسن فإن الرق أثر الكفر ، فالعتق إزالة أثر الكفر وهو إحياء حكمي لأثر حكمي لموت حكمي . فإن الكافر ميت معنى .

فإنه لم ينتفع بحياته ولم يذق حلاوتها العليا فصار كأنه لم يكن له روح ، قال تعالى { أومن كان ميتا فأحييناه } أي كافرا فهديناه ، ثم أثر ذلك الكفر الرق الذي هو سلب أهليته لما تأهل له العقلاء من ثبوت الولايات على الغير من إنكاح البنات والتصرف في المال والشهادات وعلى نفسه حتى لا يصح نكاحه ولا بيعه ولا شراؤه ، وامتنع أيضا بسبب ذلك عن كثير من العبادات كصلاة الجمعة والحج والجهاد وصلاة الجنائز ، وفي هذا كله من الضرر ما لا يخفى ، فإنه صار بذلك ملحقا بالأموات في كثير من الصفات ، فكان العتق إحياء له معنى ، ولذا والله أعلم كان جزاؤه عند الله تعالى إذا كان العتق خالصا لوجهه الكريم الإعتاق من نار الجحيم التي هي الهلاك الأكبر . قوبل إحياؤه معنى بإحيائه معنى أعظم إحياء كما وردت به الأخبار عن سيد الأخيار ، منها الحديث الذي ذكره المصنف .

رواه الستة في كتبهم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار } وفي لفظ { من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار حتى الفرج بالفرج } أخرجه الترمذي في الأيمان والنذور .

ورواه ابن ماجه في الأحكام والباقون في العتق ، وأخرج أبو داود وابن ماجه عن كعب بن مرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما كان فكاكه من النار ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار } وزاد أبو داود { وأيما رجل أعتق امرأتين مسلمتين إلا كانتا فكاكه من النار يجزي مكان عظمين منهما عظما من عظامه } وهذا يستقل بما ذكره المصنف من استحباب عتق الرجل الرجل والمرأة المرأة لأنه ظهر أن عتقه بعتق المرأتين بخلاف عتقه رجلا .

والعتق والعتاق لغة عبارتان عن القوة ، ومنه عتاق الطير لجوارحها . وعتق الفرخ إذا قوي على الطيران ، وفرس عتيق إذا كان سابقا وذلك عن قوته ، والبيت العتيق لاختصاصه بالقوة الدافعة عنه ملك أحد في عصر من الأعصار ، وقيل للقديم عتيق لقوة سبقه ، وللخمر إذا تقادمت لزيادة قوتها لقوة تأثيرها ، وباعتبار القدم والسبق جاء بيت أوس بن حجر حيث قال :

علي ألية عتقت قديما وليس لها وإن طلبت مرام

يعني قدمت وأنها لا ترام بحل ، وبعده :

بأن الغدر قد علمت معد علي وجارتي مني حرام

المعنى أنه حلف من قديم أنه لا يغدر ولا يزني بجارته ، وكذا تقول عتقت إذا سبقت وذلك لفضل القوة ، والعتق أيضا يقال للجمال ، ومنه سمي الصديق عتيقا لجماله ، وقيل لقدمه في الخير .

وقيل لعتقه من النار ، وقيل لشرفه فإنه قوة في الحسب وهو معنى ما ذكر أنه يقال للكريم : يعني الحسيب . وقيل قالت أمه لما وضعته هذا عتيق من الموت وكان لا يعيش لها ولد ، وكل هذه المفهومات ترجع إلى زيادة قوة في معانيها ، وقيل هو اسمه العلم فيمكن أن يكون سبب وضعه له الجمال أو تفاؤلا له بالحسب المنيف أو بعدم الموت ، وإذا كان العتق لغة القوة فالإعتاق إثبات القوة كما قاله في المبسوط .

والعتق في الشرع : خلوص حكمي يظهر في الآدمي عما قدمناه ثابتا بالرق ، ولا يخفى ثبوت القوة الشرعية به لقدرته على ما لم يكن يقدر عليه فعن هذا يقال : إنه القوة الشرعية . ويمكن أن يكون [ ص: 431 ] هذا المعنى من أفراد المعنى اللغوي ، وعن هذا قال في الصحاح : العتق الحرية بناء على أن القوة المفسر هو بها لغة أعم من كونها في البدن أو ما يرجع إلى معنى آخر ، ولذا أطلقوه في المواضع التي عددناها باعتبار قوة ترجع إلى معان مختلفة ، إلا أنه مقيد بالحرية الطارئة على الرق ، وبه صرح في المغرب حيث قال : العتق الخروج عن المملوكية ، فالإعتاق شرعا إثبات القوة الشرعية وهو والتحرير إثبات الحرية وهي الخلوص ، يقال طين حر للخالص عما يشوبه ، ومنه يقال أرض حرة لا خراج عليها ، والكل يرجع إلى معنى القوة .

والرق في اللغة الضعف ، ومنه ثوب رقيق وصوت رقيق ، وقد يقال العتق بمعنى الإعتاق في الاستعمال الفقهي تجوز باسم المسبب عن السبب كقول محمد : أنت طالق مع عتق مولاك إياك .

وسببه الباعث في الواجب تفريغ ذمته وفي غيره قصد التقرب إلى الله تعالى

وأما سببه المثبت له فقد يكون دعوى النسب ، وقد يكون نفس الملك في القريب ، وقد يكون الإقرار بحرية عبد إنسان حتى لو ملكه عتق ، وقد يكون بالدخول في دار الحرب ، فإن الحربي لو اشترى عبدا مسلما فدخل به إلى دار الحرب ولم يشعر به عتق عند أبي حنيفة ، وكذا زوال يده عنه بأن هرب من مولاه الحربي إلى دار الإسلام ، وقد يكون اللفظ المذكور كما سنذكره ، وهو نفسه ركن الإعتاق اللفظي الإنشائي ، وشرطه أن يكون العتق حرا بالغا عاقلا وحكمه زوال الرق عنه والملك وصفته في الاختياري أنه مندوب إليه غالبا ولا يلزم في تحققه شرعا وقوعه عبادة فإنه يوجد بلا اختيار ومن الكافر ، بل قد يكون معصية كالعتق للشيطان والصنم وكذا إذا غلب على ظنه أنه لو أعتقه يذهب إلى دار الحرب أو يرتد أو يخاف منه السرقة وقطع الطريق ، وينفذ عتقه مع تحريمه خلافا للظاهرية ، وقد يكون واجبا كالكفارة ، وقد يكون مباحا كالعتق لزيد .

والقربة ما يكون خالصا لله عز وجل . فتحصل أن العتق يوصف بالأحكام من الوجوب والندب والإباحة والتحريم . هذا وفي عتق العبد الذمي ما لم يخف ما ذكرنا أجر لتمكينه من النظر في الآيات والاشتغال بما يزيل الشبهة عنه ، وأما ما عن مالك أنه إذا كان أغلى ثمنا من العبد المسلم يكون عتقه أفضل من عتق المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم { أفضلها أغلاها } بالمهملة والمعجمة فبعيد عن الصواب .

ويجب تقييده بالأعلى من المسلمين لأنه تمكين المسلم من مقاصده وتفريغه . وأما ما يقال في عتق الكافر ما ذكرنا فهو احتمال يقابله ظاهر ، فإن الظاهر رسوخ الاعتقادات وإلفها فلا يرجع عنها ، ولذا نشاهد الأحرار بالأصالة منهم لا يزدادون إلا ارتباطا بعقائدهم فضلا عمن عرضت حريته ، نعم الوجه الظاهر في استحباب عتقه تحصيل الجزية منه للمسلمين ، وأما تفريغه للتأمل فيسلم فهو احتمال ، والله أعلم .

( قوله ولا ملك للمملوك ) عن هذا قلنا إن مال العبد لمولاه بعد العتق وهو مذهب الجمهور ، وعند [ ص: 432 ] الظاهرية للعبد وبه قال الحسن وعطاء والنخعي والشعبي ومالك لما عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال { من أعتق عبدا وله مال فالمال للعبد } رواه أحمد . وكان عمر إذا أعتق عبدا لم يتعرض لماله ، قيل : الحديث خطأ وفعل عمر من باب الفضل ، وللجمهور ما عن ابن مسعود أنه قال لعبده : يا عمير إني أريد أن أعتقك عتقا هنيا فأخبرني بمالك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { أيما رجل أعتق عبده أو غلامه فلم يخبره بماله فهو لسيده } رواه الأثرم .

( قوله وكذا إذا قال الصبي إلخ ) وكذا إذا قال المجنون إذا أفقت فهو حر لا ينعقد كلامهما سببا عند الشرط لعدم الأهلية حال التكلم الملزم فلم يقع تعليقا معتبرا .

( قوله لقوله صلى الله عليه وسلم إلخ ) روى أبو داود والترمذي في الطلاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال صلى الله عليه وسلم { لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ، ولا عتق له فيما لا يملك . ولا طلاق له فيما لا يملك } قال الترمذي حديث حسن صحيح وهو أحسن شيء روي في هذا الباب . وقوله حتى لو أعتق عبد غيره لا ينفذ مقيد بعدم الوكالة .




الخدمات العلمية