الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 163 ] ثم دخلت سنة سبع عشرة وسبعمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها . وفي صفر شرع في عمارة الجامع الذي أنشأه ملك الأمراء سيف الدين تنكز نائب الشام ظاهر باب النصر ، تجاه حكر السماق على نهر بانياس بدمشق ، وتردد القضاة والعلماء في تحرير قبلته ، فاستقر الحال في أمرها على ما قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية في يوم الأحد الخامس والعشرين منه ، وشرعوا في بنائه بأمر السلطان ومساعدته لنائبه في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صفر هذا جاء سيل عظيم بمدينة بعلبك ، أهلك خلقا كثيرا من الناس ، وخرب دورا وعمائر كثيرة ، وذلك في يوم الثلاثاء سابع عشرين صفر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وملخص ذلك أنه جاءهم قبله رعد وبرق عظيم ، معهما مطر وبرد ، فسالت الأودية ، ثم جاءهم بعده سيل هائل خسف من سور البلد من جهة الشمال بشرق مقدار أربعين ذراعا ، مع أن سمك الحائط خمسة أذرع ، وحمل برجا صحيحا ، ومعه من جانبيه بعض بدنيتين ، فحمله كما هو حتى مر فحفر في [ ص: 164 ] الأرض نحو خمسمائة ذراع ، سعة ثلاثين ذراعا ، وحمل السيل ذلك إلى غربي البلد ، لا يمر على شيء إلا أتلفه ، ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها ، فأتلف ما يزيد على ثلثها ، ودخل الجامع فارتفع فيه على قامة ونصف ، ثم قوي على حائطه الغربي فأخربه ، وأتلف جميع ما فيه من الحواصل ، والكتب ، والمصاحف ، وأتلف شيئا كثيرا من رباع الجامع ، وهلك تحت الهدم خلق كثير من الرجال ، والنساء ، والأطفال ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وغرق في الجامع الشيخ علي بن محمد بن الشيخ علي الحريري هو وجماعة معه من الفقراء ، ويقال : جملة من هلك بالغرق في هذه الكائنة من أهل بعلبك مائة وأربعة وأربعون نفسا سوى الغرباء ، وجملة الدور التي خربها والحوانيت التي أتلفها نحو من ستمائة دار وحانوت ، وجملة البساتين التي جرف أشجارها عشرون بستانا ، ومن الطواحين ثمانية سوى الجامع والأمينية ، وأما الأماكن التي دخلها وأتلف ما فيها ولم تخرب فكثير جدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة زاد النيل زيادة عظيمة لم يسمع بمثلها من مدد ، وغرق بلادا كثيرة ، وهلك فيها ناس كثير أيضا ، وغرق منية الشيرج ، فهلك للناس فيها شيء كثير ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 165 ] وفي مستهل ربيع الآخر جلس السلطان بو سعيد بن خربندا على تخت المملكة بالمدينة السلطانية . وفي ربيع الآخر منها أغار جيش حلب على مدينة آمد ، فنهبوا ، وسبوا ، وعادوا سالمين . وفي يوم السبت تاسع عشرين منه قدم قاضي المالكية إلى الشام من مصر ، وهو الإمام فخر الدين أبو العباس أحمد بن سلامة بن أحمد بن سلامة الإسكندري المالكي على قضاء دمشق ، عوضا عن قاضي القضاة جمال الدين الزواوي لضعفه ، واشتداد مرضه ، فالتقاه القضاة والأعيان ، وقرئ تقليده بالجامع ثاني يوم وصوله ، وهو مؤرخ بثاني عشر الشهر ، وقدم نائبه الفقيه نور الدين السخاوي ، ودرس بالجامع في مستهل جمادى الأولى ، وحضر عنده الفقهاء ، والأعيان ، والقضاة ، وشكرت فضائله ، وعلومه ، ونزاهته ، وصرامته ، وديانته ، وبعد ذلك بتسعة أيام توفي الزواوي المعزول ، وقد باشر القضاء بدمشق ثلاثين سنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيه أفرج عن الأمير سيف الدين بهادرآص من سجن الكرك ، وحمل إلى القاهرة ، وأكرمه السلطان ، وكان سجنه بها مطاوعة لإشارة نائب الشام بسبب ما كان وقع بينهما بملطية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخرج المحمل في يوم الخميس تاسع شوال ، وأمير الحج سيف الدين كجكن‏ [ ص: 166 ] المنصوري . وممن حج قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى ، وابن أخيه شرف الدين ، وكمال الدين بن الشيرازي ، والقاضي جلال الدين الحنفي ، والشيخ شرف الدين ابن تيمية ، وخلق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي سادس هذا الشهر درس بالجاروخية القاضي جمال الدين محمد بن الشيخ كمال الدين الشريشي بعد وفاة الشيخ شرف الدين بن سلام ، وحضر عنده الأعيان . وفي التاسع عشر منه درس ابن الزملكاني بالعذراوية عوضا عن ابن سلام . وفيه درس الشيخ شرف الدين ابن تيمية بالحنبلية عن إذن أخيه له في ذلك ، بعد وفاة أخيهما لأمهما بدر الدين قاسم بن محمد بن خالد ، ثم سافر الشيخ شرف الدين إلى الحج ، وحضر الشيخ تقي الدين ابن تيمية الدرس بنفسه ، وحضر عنده خلق كثير من الأعيان وغيرهم ، حتى عاد أخوه وبعد عوده أيضا ، وجاءت الأخبار بأنه قد أبطلت الخمور والفواحش كلها من بلاد السواحل ، وطرابلس ، وغيرها ، ووضعت مكوس كثيرة عن الناس هنالك ، وبنيت بقرى النصيرية في كل قرية مسجد ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي بكرة نهار الثلاثاء الثامن والعشرين من شوال وصل الشيخ الإمام العلامة ، شيخ الكتاب ، شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي على البريد من مصر إلى دمشق متوليا كتابة السر بها ، عوضا عن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله [ ص: 167 ] توفي إلى رحمة الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ذي القعدة يوم الأحد درس بالصمصامية التي جددت للمالكية ، وقد وقف عليها الصاحب شمس الدين غبريال درسا ، ودرس بها فقها ، وعين تدريسها لنائب الحكم الفقيه نور الدين علي بن عبد النصير المالكي ، وحضر عنده القضاة والأعيان ، وممن حضر عنده : الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وكان يعرفه من إسكندرية . وفيه درس بالدخوارية الشيخ جمال الدين محمد بن الشيخ شهاب الدين أحمد الكحال ، ورتب في رياسة الطب عوضا عن أمين الدين سليمان الطبيب ، بمرسوم نائب السلطنة تنكز ، واختاره لذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واتفق أنه في هذا الشهر تجمع جماعة من التجار بماردين ، وانضاف إليهم خلق من الجفال من الغلا قاصدين بلاد الشام ، فساروا حتى إذا كانوا بمرحلتين من رأس العين لحقهم ستون فارسا من التتار ، فمالوا عليهم بالنشاب ، وقتلوهم عن آخرهم ، ولم يبق منهم سوى صبيانهم نحو سبعين صبيا ، فقالوا : من يقتل هؤلاء ؟ فقال واحد منهم : أنا ، بشرط أن تنفلوني بمال من الغنيمة ، فقتلهم كلهم عن آخرهم ، وكان جملة من قتل من التجار ستمائة ، ومن الجفال ثلاثمائة من [ ص: 168 ] المسلمين ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وردموا بموتاهم خمس صهاريج هناك حتى امتلأت بهم ، رحمهم الله ، ولم يسلم من الجميع سوى رجل واحد تركماني هرب ، وجاء إلى رأس العين ، فأخبر الناس بما رأى وشاهد من هذا الأمر الفظيع المؤلم ، فاجتهد متسلم ديار بكر سوتاي في طلب أولئك التتر حتى أهلكهم عن آخرهم ، ولم يبق منهم رجل واحد ، لا جمع الله بهم شملا ، ولا بهم مرحبا ولا أهلا ، آمين يا رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية