الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 146 ]

                          القول في الحذف

                          142- هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر، أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن .

                          حذف المبتدأ

                          143- وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر، وتدفعها حتى تنظر، وأنا أكتب لك بديئا أمثلة مما عرض فيه الحذف، ثم أنبهك على صحة ما أشرت إليه، وأقيم الحجة من ذلك عليه . أنشد صاحب الكتاب :


                          اعتاد قلبك من ليلى عوائده وهاج أهواءك المكنونة الطلل     ربع قواء أذاع المعصرات به
                          وكل حيران سار ماؤه خضل



                          قال : أراد، " ذاك ربع قواء أو هو ربع " . قال : ومثله قول الآخر :


                          هل تعرف اليوم رسم الدار والطللا     كما عرفت بجفن الصيقل الخللا


                          دار لمروة إذ أهلي وأهلهم     بالكانسية نرعى اللهو والغزلا



                          [ ص: 147 ]

                          كأنه قال : تلك دار . قال شيخنا رحمه الله : ولم يحمل البيت الأول على أن الربع بدل من الطلل ؛ لأن الربع أكثر من الطلل، والشيء يبدل مما هو مثله أو أكثر منه ، فأما الشيء من أقل منه ففاسد لا يتصور . وهذه طريقة مستمرة لهم إذا ذكروا الديار والمنازل.

                          حذف الفعل وإضماره

                          144- وكما يضمرون المبتدأ فيرفعون، فقد يضمرون الفعل فينصبون، كبيت الكتاب أيضا :


                          ديار مية إذ مي تساعفنا     ولا يرى مثلها عجم ولا عرب



                          أنشده بنصب " ديار " على إضمار فعل، كأنه قال : اذكر ديار مية .

                          المواضع التي يطرد فيها حذف المبتدأ وأمثلته

                          145- ومن المواضع التي يطرد فيها حذف المبتدأ " القطع والاستئناف " يبدأون بذكر الرجل، ويقدمون بعض أمره، ثم يدعون الكلام الأول، ويستأنفون كلاما آخر . وإذا فعلوا ذلك أتوا في أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ مثال ذلك قوله :

                          [ ص: 148 ]


                          وعلمت أني يوم ذاك     منازل كعبا ونهدا
                          قوم إذا لبسوا الحديد     تنمروا حلقا وقدا



                          وقوله :


                          هم حلوا من الشرف المعلى     ومن حسب العشيرة حيث شاءوا
                          بناة مكارم وأساة كلم     دماؤهم من الكلب الشفاء



                          وقوله :


                          رآني على ما بي عميلة فاشتكى     إلى ماله حالي أسر كما جهر



                          ثم قال بعد :


                          غلام رماه الله بالخير مقبلا     له سيمياء لا تشق على البصر



                          وقوله :


                          إذا ذكر ابنا العنبرية لم تضق     ذراعي وألقى باسته من أفاخر


                          [ ص: 149 ]

                          هلالان حمالان في كل شتوة     من الثقل ما لا تستطيع الأباعر



                          " حمالان " : خبر ثان، وليس بصفة، كما يكون لو قلت مثلا : " رجلان حمالان " .

                          146- ومما اعتيد فيه أن يجيء خبرا قد بني على مبتدأ محذوف، قولهم بعد أن يذكروا الرجل : " فتى من صفته كذا " و " أغر من صفته كيت وكيت " . كقوله :


                          ألا لا فتى بعد ابن ناشرة الفتى     ولا عرف إلا قد تولى وأدبرا


                          فتى حنظلي ما تزال ركابه     تجود بمعروف وتنكر منكرا



                          وقوله :


                          سأشكر عمرا إن تراخت منيتي     أيادي لم تمنن وإن هي جلت
                          فتى غير محجوب الغنى عن صديقه     ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت



                          ومن ذلك قول جميل :

                          [ ص: 150 ]


                          وهل بثينة يا للناس قاضيتي     ديني؟ وفاعلة خيرا فأجزيها


                          ترنو بعيني مهاة أقصدت بهما     قلبي عشية ترميني وأرميها


                          هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة     ريا العظام بلا عيب يرى فيها


                          من الأوانس مكسال مبتلة     خود غذاها بلين العيش غاذيها



                          وقوله أيضا :


                          إني عشية رحت وهي حزينة     تشكو إلي صبابة لصبور


                          وتقول : بت عندي فديتك ليلة     أشكو إليك، فإن ذاك يسير


                          غراء مبسام، كأن حديثها     در تحدر نظمه منثور


                          محطوطة المتنين مضمرة الحشا     ريا الروادف، خلقها ممكور



                          وقول الأقيشر في ابن عم له موسر، سأله فمنعه وقال : كم أعطيك مالي وأنت تنفقه فيما لا يغنيك؟ والله لا أعطيتك . فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم وهو فيهم، فشكاه إلى القوم وذمه، فوثب إليه ابن عمه فلطمه، فأنشأ يقول :


                          سريع إلى ابن العم يلطم وجهه     وليس إلى داعي الندى بسريع
                          حريص على الدنيا مضيع لدينه     وليس لما في بيته بمضيع



                          [ ص: 151 ]

                          147- فتأمل الآن هذه الأبيات كلها، واستقرها واحدا واحدا وانظر إلى موقعها في نفسك وإلى ما تجده من اللطف والظرف إذا أنت مررت بموضع الحذف منها، ثم فليت النفس عما تجد، وألطفت النظر فيما تحس به . ثم تكلف أن ترد ما حذف الشاعر، وأن تخرجه إلى لفظك وتوقعه في سمعك فإنك تعلم أن الذي قلت كما قلت، وأن رب حذف هو قلادة الجيد وقاعدة التجويد . وإن أردت ما هو أصدق في ذلك شهادة، وأدل دلالة، فانظر إلى قول عبد الله بن الزبير يذكر غريما له قد ألح عليه :


                          عرضت على زيد ليأخذ بعض ما     يحاوله قبل اعتراض الشواغل
                          فدب دبيب البغل يألم ظهره     وقال : تعلم إنني غير فاعل
                          تثاءب حتى قلت : داسع نفسه     وأخرج أنيابا له كالمعاول



                          الأصل حتى قلت : هو داسع نفسه . أي حسبته من شدة التثاؤب ومما به من الجهد يقذف نفسه من جوفه، ويخرجها من صدره ، كما يدسع البعير جرته . ثم إنك ترى نصبة الكلام وهيئته تروم منك أن تنسى هذا المبتدأ وتباعده عن وهمك وتجتهد أن لا يدور في خلدك ولا يعرض لخاطرك . وتراك كأنك تتوقاه توقي الشيء تكره مكانه، والثقيل تخشى هجومه .

                          أمثلة من لطيف حذف المبتدأ

                          ومن لطيف الحذف قول بكر بن النطاح :

                          [ ص: 152 ]


                          العين تبدي الحب والبغضا     وتظهر الإبرام والنقضا


                          درة ما أنصفتني في الهوى     ولا رحمت الجسد المنضى


                          غضبى ولا والله يا أهلها     لا أطعم البارد أو ترضى



                          يقوله في جارية كان يحبها، وسعي به إلى أهلها فمنعوها منه ، والمقصود قوله : " غضبى " وذلك أن التقدير " هي غضبى " أو " غضبى هي " لا محالة ألا ترى أنك ترى النفس كيف تتفادى من إظهار هذا المحذوف، وكيف تأنس إلى إضماره؟ وترى الملاحة كيف تذهب إن أنت رمت التكلم به؟

                          149- ومن جيد الأمثلة في هذا الباب قول الآخر، يخاطب امرأته وقد لامته على الجود :


                          قالت سمية : قد غويت بأن رأت     حقا تناوب مالنا ووفود


                          غي لعمرك لا أزال أعوده     ما دام مال عندنا موجود



                          المعنى : " ذاك غي لا أزال أعود إليه فدعي عنك لومي " .

                          خلاصة في شأن ما يحذف

                          150- وإذ عرفت هذه الجملة من حال الحذف في المبتدأ، فاعلم أن ذلك سبيله في كل شيء، فما من اسم أو فعل تجده قد حذف ثم أصيب به [ ص: 153 ] موضعه وحذف في الحال ينبغي أن يحذف فيها، إلا وأنت تجد حذفه هناك أحسن من ذكره، وترى إضماره في النفس أولى وآنس من النطق به .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية