الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      باب صلاة المريض قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( إذا عجز عن القيام صلى قاعدا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمران بن الحصين : { صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب } وكيف يقعد ؟ فيه قولان ( أحدهما ) : يقعد متربعا لأنه بدل عن القيام والقيام يخالف قعود الصلاة فيجب أن يكون بدله مخالفا له ( والثاني ) يقعد مفترشا لأن التربيع قعود العادة ; والافتراش قعود العبادة ، فكان الافتراش أولى ، فإن لم يمكنه أن يركع ويسجد أومأ إليها وقرب وجهه إلى الأرض على قدر طاقته فإن سجد على مخدة أجزأه لأن أم سلمة رضي الله عنها سجدت على مخدة لرمد بها ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عمران رواه البخاري في صحيحه .

                                      وفعل أم سلمة رواه البيهقي بإسناده : وقوله : أومأ هو بالهمزة والمخدة - بكسر الميم - سميت به لأنها توضع تحت الخد ، وأم سلمة سبق بيانها كنيت بابنها سلمة وهو صحابي .

                                      ( وأما الأحكام ) أجمعت الأمة على أن من عجز عن القيام في الفريضة صلاها قاعدا ولا إعادة عليه ، قال أصحابنا : ولا ينقص ثوابه عن ثوابه في حال القيام ، لأنه معذور ، وقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما } .

                                      قال أصحابنا : ولا يشترط في العجز أن لا يتأتى القيام ولا يكفي أدنى مشقة بل المعتبر المشقة الظاهرة ، فإذا خاف مشقة شديدة أو زيادة مرض أو [ ص: 202 ] نحو ذلك أو خاف راكب السفينة الغرق أو دوران الرأس صلى قاعدا ولا إعادة ، وقال إمام الحرمين في باب التيمم : الذي أراه في ضبط العجز أن يلحقه بالقيام مشقة تذهب خشوعه لأن الخشوع مقصود الصلاة والمذهب الأول ولو جلس للغزاة رقيب يرقب العدو فحضرت الصلاة - ولو قام لرآه العدو ، أو جلس الغزاة في مكمن ، ولو قاموا لرآهم العدو وفسد التدبير - فلهم الصلاة قعودا ، والمذهب وجوب الإعادة لندوره .

                                      وحكى المتولي قولا أن صلاة الكمين قاعدا لا تنعقد ، والمذهب الانعقاد .

                                      ولو خافوا أن يقصدهم العدو فصلوا قعودا ، قال المتولي : أجزأتهم بلا إعادة على الصحيح من الوجهين .

                                      قال أصحابنا : وإذا صلى قاعدا لعجزه في الفريضة أو مع القدرة في النافلة لم تتعين لقعوده هيئة مشترطة بل كيف قعد أجزأه لكن يكره الإقعاء ، وقد سبق بيانه في باب صفة الصلاة ، ويكره أن يقعد مادا رجليه ، وأما الأفضل من الهيئات ففي غير حال القيام يقعد على الهيئة المستحبة للمصلي قائما فيتورك في آخر الصلاة ويفترش في سائر الجلسات .

                                      وأما القعود الذي هو بدل القيام وفي موضعه ففي الأفضل منه قولان ووجهان : ( أصح القولين ) وهو أصح الجميع يقعد مفترشا ، وهو رواية المزني وغيره ، وبه قال أبو حنيفة وزفر ( والثاني ) متربعا ، وهو رواية البويطي وغيره ، وبه قال مالك والثوري والليث وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد ، وذكر المصنف دليلهما ، وأحد الوجهين متوركا ، حكاه إمام الحرمين والغزالي في البسيط وغيرهما لأنه أعون للمصلي .

                                      ( والثاني ) : يقعد ناصبا ركبته اليمنى جالسا على رجله اليسرى وهو مشهور عند الخراسانيين وأختاره القاضي حسين لأنه أبلغ في الأدب ، وأما ركوع القاعد فأقله أن ينحني قدر ما يحاذي جبهته ما وراء ركبتيه من الأرض ، وأكمله أن ينحني بحيث يحاذي جبهته موضع سجوده ، وأما سجوده فكسجود القائم ، فإن عجز عن الركوع والسجود على ما ذكرنا أتى بالممكن وقرب جبهته قدر طاقته ، فإن عجز عن خفضها أومأ لقوله صلى الله عليه وسلم [ ص: 203 ] { وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم } رواه البخاري ومسلم ، وسبق بيانه في صفة الصلاة .

                                      ولو قدر القاعد على ركوع القاعد وعجز عن وضع الجبهة على الأرض نظر إن قدر على أقل ركوع القاعد أو أكمله بلا زيادة فعل الممكن مرة عن الركوع ومرة عن السجود ولا يضر استواؤهما .

                                      وإن قدر على زيادة على كمال الركوع وجب الاقتصار في الانحناء للركوع على قدر الكمال ليتميز عن السجود ، ويجب أن يقرب جبهته من الأرض للسجود أكثر ما يقدر عليه قال الرافعي : حتى قال أصحابنا : لو قدر أن يسجد على صدغه أو عظم رأسه الذي فوق جبهته وعلم أنه إذا فعل ذلك كانت جبهته أقرب إلى الأرض لزمه ذلك .

                                      وهذا الذي نقله الرافعي حكاه الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي وقطع به هو والأصحاب ، قال القاضي أبو الطيب : قال أصحابنا : لم يقصد الشافعي بذلك أن الصدغ محل السجود ، بل قصد أنه إذا سجد عليه كان أقرب إلى الأرض بجبهته من الإيماء ، ولو سجد على مخدة ونحوها وحصلت صفة السجود بأن نكس ورفع أعاليه إذا شرطنا ذلك أو كان عاجزا عن الزيادة على ذلك أجزأه ، وعليه يحمل فعل أم سلمة رضي الله عنها نص عليه الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا لم يمكنه القيام على قدميه لقطعهما أو لغيره ، وأمكنه النهوض على ركبتيه فهل يلزمه النهوض ؟ قال إمام الحرمين : تردد فيه شيخي ، ونقل الغزالي في تدريسه فيه وجهين : ( أحدهما ) : يجوز له القعود لأن هذا لا يسمى قياما ، ولأنه ليس معهودا ( والثاني ) يلزمه قال : وهو اختيار إمامي لأنه أقرب إلى القيام .




                                      الخدمات العلمية