الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    13 - ( فصل )

                    ومن الفراسة الصادقة : فراسة خزيمة بن ثابت ، حين قدم وشهد على عقد التبايع بين الأعرابي ورسول الله صلى الله عليه وسلم . ولم يكن حاضرا ، تصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يخبر به .

                    ومنها : فراسة حذيفة بن اليمان ، وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عينا إلى المشركين فجلس بينهم . فقال أبو سفيان : لينظر كل منكم جليسه ، فبادر حذيفة وقال لجليسه : من أنت ؟ فقال : فلان بن فلان .

                    ومنها : فراسة المغيرة بن شعبة ، وقد استعمله عمر على البحرين . فكرهه أهلها فعزله عمر عنهم ، فخافوا أن يرده عليهم . فقال دهقانهم : إن فعلتم ما آمركم به لم يرده علينا . قالوا مرنا بأمرك . قال : تجمعون مائة ألف درهم ، حتى أذهب بها إلى عمر ، وأقول : إن المغيرة اختان هذا ودفعه إلي ، فجمعوا ذلك . فأتى عمر فقال : يا أمير المؤمنين ) إن المغيرة اختان هذا ، فدفعه إلي . فدعا عمر المغيرة ، فقال : ما يقول هذا ؟ قال : كذب ، أصلحك الله ، إنما كانت مائتي ألف ، فقال : ما حملك على ذلك ؟ قال : العيال والحاجة . فقال عمر للدهقان : ما تقول ؟ فقال : لا والله ، لأصدقنك ، والله ما دفع إلي قليلا ولا كثيرا . ولكن كرهناه وخشينا أن ترده علينا ، فقال عمر للمغيرة : ما حملك على هذا ؟ قال : إن الخبيث كذب علي فأردت أن أخزيه .

                    [ ص: 37 ] وخطب المغيرة بن شعبة وفتى من العرب امرأة ، وكان الفتى جميلا ، فأرسلت إليهما المرأة : لا بد أن أراكما ، وأسمع كلامكما ، فاحضرا إن شئتما ، فأجلستهما بحيث تراهما . فعلم المغيرة أنها تؤثر عليه الفتى ، فأقبل عليه ، فقال : لقد أوتيت حسنا وجمالا وبيانا . فهل عندك سوى ذلك ؟ قال : نعم . فعدد عليه محاسنه ، ثم سكت .

                    فقال المغيرة : فكيف حسابك ؟ فقال : لا يسقط علي منه شيء ، وإني لأستدرك منه أقل من الخردلة ، فقال له المغيرة : لكني أضع البدرة في زاوية البيت ، فينفقها أهل بيتي على ما يريدون ، فما أعلم بنفادها حتى يسألوني غيرها ، فقالت المرأة : والله لهذا الشيخ الذي لا يحاسبني أحب إلي من الذي يحصي علي أدنى من الخردلة . فتزوجت المغيرة .

                    ومنها : فراسة عمرو بن العاص لما حاصر غزة ، فبعث إليه صاحبها : أن أرسل إلي رجلا من أصحابك أكلمه . ففكر عمرو بن العاص ، وقال : ما لهذا الرجل غيري فخرج حتى دخل عليه ، فكلمه كلاما لم يسمع مثله قط . فقال له : حدثني ، هل أحد من أصحابك مثلك ؟ فقال : لا تسل ، من هواني عندهم بعثوني إليك ، وعرضوني لما عرضوني . ولا يدرون ما يصنع بي . فأمر له بجارية وكسوة . وبعث إلى البواب : إذا مر بك فاضرب عنقه ، وخذ ما معه . فمر برجل من نصارى غسان فعرفه . فقال يا عمرو قد أحسنت الدخول ، فأحسن الخروج ، فرجع ، فقال له الملك : ما ردك إلينا ؟ قال : نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع من معي من بني عمي ، فأردت الخروج ، فآتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية فيكون معروفك عند عشرة رجال خيرا من أن يكون عند واحد ، قال : صدقت عجل بهم . وبعث إلى البواب : خل سبيله ، فخرج عمرو وهو يلتفت ، حتى إذا أمن قال : لا عدت لمثلها . فلما كان بعد رآه الملك ، فقال : أنت هو ؟ قال : نعم ، على ما كان من غدرك .

                    ومن ذلك : فراسة الحسن بن علي رضي الله عنهما لما جيء إليه بابن ملجم قال له : أريد أسارك بكلمة فأبى الحسن ، وقال : تريد أن تعض أذني ، فقال ابن ملجم : والله لو أمكنتني منها لأخذتها من صماخها .

                    قال أبو الوفاء ابن عقيل : فانظر إلى حسن رأي هذا السيد الذي قد نزل به من المصيبة العاجلة ما يذهل الخلق ، وفطنته إلى هذا الحد ، وإلى ذلك اللعين كيف لم يشغله حاله عن استزادة الجناية .

                    ومن ذلك : فراسة أخيه الحسين رضي الله عنهما أن رجلا ادعى عليه مالا . فقال الحسين : ليحلف على ما ادعاه ويأخذه ، فتهيأ الرجل لليمين ، وقال : والله الذي لا إله إلا هو . فقال الحسين : قل : والله ، والله ، والله ثلاثا إن هذا الذي تدعيه عندي ، وفي قبلي ، ففعل الرجل ذلك . وقام فاختلفت رجلاه وسقط ميتا فقيل للحسين : لم فعلت ذلك ؟ أي عدلت عن قوله : والله الذي لا إله إلا هو إلى قوله : " والله والله والله " فقال : كرهت أن يثني على الله ، فيحلم عنه .

                    [ ص: 38 ] ومن ذلك : فراسة العباس رضي الله عنه - ما ذكره مجاهد قال - { بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ وجد ريحا . فقال : ليقم صاحب هذه الريح فليتوضأ . فاستحيا الرجل ، ثم قال : ليقم صاحب هذه الريح فليتوضأ . فإن الله لا يستحيي من الحق .

                    فقال العباس : ألا نقوم كلنا نتوضأ ؟
                    } . هكذا رواه الفريابي عن الأوزاعي مرسلا ، ووصله عن محمد بن مصعب ، فقال : عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما

                    وقد جرت مثل هذه القضية في مجلس عمر رضي الله عنه قال الشعبي : " كان عمر في بيت ، ومعه جرير بن عبد الله البجلي . فوجد عمر ريحا . فقال : عزمت على صاحب هذه الريح لما قام فتوضأ . فقال جرير : يا أمير المؤمنين ، أو يتوضأ القوم جميعا . فقال عمر : يرحمك الله . نعم السيد كنت في الجاهلية ، ونعم السيد وأنت في الإسلام " .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية