الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( باب الحضانة ) .

                                                                                        بيان لمن يحضن الولد الذي ثبت نسبه وهي بكسر الحاء وفتحها تربية الولد ، والحاضنة المرأة توكل بالصبي فترفعه وتربيه وقد حضنت ولدها حضانة من باب طلب وحضن الطائر بيضه حضنا إذا جثم عليه بكنفه يحضنه كذا في المغرب وفي ضياء الحلوم حضنت المرأة ولدها حضانة وحضنت الحمامة [ ص: 180 ] بيضها حضونا أي : جعلته في حضنها وحضنه عن حاجته أي : حبسه وحضنه عن الأمر إذا نحاه عنه والحضن ما دون الإبط ثم اعلم أن الحضانة حق الصغير لاحتياجه إلى من يمسكه فتارة يحتاج إلى من يقوم بمنفعة بدنه في حضانته وتارة إلى من يقوم بماله حتى لا يلحقه الضرر وجعل كل واحد منهما إلى من أقوم به وأبصر فالولاية في المال جعلت إلى الأب والجد ; لأنهم أبصر وأقوم في التجارة من النساء وحق الحضانة جعل إلى النساء ; لأنهن أبصر وأقوم على حفظ الصبيان من الرجال لزيادة شفقتهن وملازمتهن للبيوت واتفقوا على أن الأب يجبر على نفقته مطلقا ويجب عليه إمساكه وحفظه وصيانته إذا استغنى عن النساء ; لأن ذلك حق للصغير عليه واختلفوا في وجوب حضانته على الأم ونحوها من النساء ، وفي جبرها إذا امتنعت فصرح في الهداية بأنها لا تجبر ; لأنها عست أن تعجز عن الحضانة وصححه في التبيين ، وفي الولوالجية وعليه الفتوى ، وفي الواقعات ، والفتوى على عدم الجبر لوجهين : أحدهما : أنها ربما لا تقدر على الحضانة ، والثاني : أن الحضانة حق الأم والمولى ولا يجبر على استيفاء حقه ا هـ .

                                                                                        وفي الخلاصة وقال مشايخنا ولا تجبر الأم عليها وكذلك الخالة إذا لم يكن لها زوج ; لأنها ربما تعجز عن ذلك ا هـ .

                                                                                        فأفاد أن غير الأم كالأم في عدم الجبر بل هو بالأولى كما في الولوالجية وذكر الفقهاء الثلاثة أبو الليث والهندواني وخواهر زاده أنها تجبر على الحضانة وتمسك لهم في فتح القدير بما في كافي الحاكم الشهيد الذي هو جمع كلام محمد لو اختلعت على أن تترك ولدها عند الزوج فالخلع جائز والشرط باطل ; لأن هذا حق الولد أن يكون عند أمه ما كان إليها محتاجا زاد في المبسوط فليس لها أن تبطله بالشرط فهذا يدل على أن قول الفقهاء الثلاثة هو جواب ظاهر الرواية ، وأما قوله تعالى { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } فليس الكلام في الإرضاع بل في الحضانة قال في التحفة ثم الأم وإن كانت أحق بالحضانة فإنه لا يجب عليها الرضاعة ; لأن ذلك بمنزلة النفقة ونفقة الولد على الوالد إلا أن لا يوجد من ترضعه فتجبر .

                                                                                        فالحاصل أن الترجيح قد اختلف في هذه المسألة والأولى الإفتاء بقول الفقهاء الثلاثة لكن قيده في الظهيرية بأن لا يكون للصغير ذو رحم محرم فحينئذ تجبر الأم كي لا يضيع الولد أما إذا كان له جدة مثلا وامتنعت الأم من إمساكه ورضيت الجدة بإمساكه فإنه يدفع إلى الجدة ; لأن الحضانة كانت حقا لها ، فإذا أسقطت حقها صح الإسقاط منها وعزا هذا التفصيل إلى الفقهاء الثلاثة وعلله في المحيط بأن الأم لما أسقطت حقها بقي حق الولد فصارت الأم بمنزلة الميتة أو المتزوجة فتكون الجدة أولى وظاهر كلامهم أن الأم إذا امتنعت وعرض على من دونها من الحاضنات فامتنعت أجبرت الأم لا من دونها ولذا قيدوا جواب المسألة بأن رضيت الجدة بإمساكه وذكر في السراجية أن الأم تستحق [ ص: 181 ] أجرة على الحضانة إذا لم تكن منكوحة ولا معتدة لأبيه وتلك الأجرة غير أجرة إرضاعه كما سيأتي في النفقات .

                                                                                        ( قوله أحق بالولد أمه قبل الفرقة وبعدها ) أي : في التربية والإمساك لما قدمناه ولما روي { أن امرأة قالت : يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء وزعم أبوه أنه ينزعه مني فقال عليه السلام أنت أحق به } ولأن الأم أشفق وإليه أشار الصديق رضي الله عنه بقوله ريقها خير له من شهد وعسل عندك يا عمر قاله حين وقعت الفرقة بينه وبين امرأته والصحابة رضي الله عنهم حاضرون متوافرون أطلق في الأم وقيدوه بأن تكون أهلا للحضانة فلا حضانة لمرتدة سواء لحقت بدار الحرب أو لا ; لأنها تحبس وتجبر على الإسلام ، فإن تابت فهي أحق به ولا للفاسقة كما في فتح القدير وغيره ، وفي القنية الأم أحق بالصغيرة وإن كانت سيئة السيرة معروفة بالفجور ما لم تعقل ذلك ا هـ .

                                                                                        وينبغي أن يراد بالفسق في كلامهم هنا الزنا المقتضي لاشتغال الأم عن [ ص: 182 ] الولد به بالخروج من المنزل ونحوه لا مطلقه الصادق بترك الصلوات لما يأتي أن الذمية أحق بولدها المسلم ما لم يعقل الأديان فالفاسقة المسلمة بالأولى ولا لمن تخرج كل وقت وتترك البنت ضائعة ولا للأمة وأم الولد والمدبرة والمكاتبة إذا ولدت قبل الكتابة ولا للمتزوجة بغير محرم ، وكذلك لو كان الأب معسرا وأبت الأم أن تربي إلا بأجر وقالت العمة أنا أربي بغير أجر فإنه لا حضانة للأم وتكون العمة أولى في الصحيح كما سيأتي وسنذكر أن الكتابية أحق بولدها المسلم ما لم يعقل الأديان .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( باب الحضانة ) .

                                                                                        ( قوله والحاضنة المرأة إلخ ) قال الرملي ولها شروط أن تكون حرة بالغة عاقلة أمينة قادرة وأن تخلو من زوج أجنبي وإن كان الحاضن ذكرا فشرطه أن يكون كذلك ما عدا الأخير ، وهذا قلته منفردا به أخذا من كلامهم ولم أر أحدا ذكر هذه الشروط على هذه الكيفية على علمي الآن والله تعالى هو الموفق ا هـ .

                                                                                        قلت وينبغي أن يزيد بعد قوله حرة أو مكاتبة لو ولدها مثلها ; لأن المكاتبة إذا ولدت في الكتابة فحضانته لها كما سيأتي وأن يزيد بعد قوله وأن تخلو من زوج أجنبي أو مبغض للولد كما سيأتي عن القنية تأمل وينبغي أن يزيد في الشروط وعدم ردتها إلا أن يقال يغني عنه قوله قادرة ; لأنها تحبس وتضرب [ ص: 180 ] ( قوله ثم اعلم أن الحضانة حق الصغير إلخ ) قال في النهر : وهل هي حق من تثبت لها الحضانة أو حق الولد ؟ خلاف ، قيل بالأول فلا تجبر إن هي امتنعت ورجحه غير واحد ، وفي الواقعات وغيرها وعليه الفتوى ، وفي الخلاصة . قال مشايخنا : لا تجبر الأم عليها وكذلك الخالة إذا لم يكن زوج ; لأنها ربما تعجز عن ذلك وقيل بالثاني فتجبر واختاره أبو الليث وخواهر زاده والهندواني وأيده في الفتح بما في الحاكم لو اختلعت على أن تترك ولدها عند الزوج فالخلع جائز والشرط باطل ; لأنه حق الولد فأفاد أن قول الفقهاء جواب ظاهر الرواية ، ثم قال في الفتح ، فإن لم يوجد غيرها أجبرت بلا خلاف ا هـ .

                                                                                        وعلى هذا فما في الظهيرية قالت الأم لا حاجة لي به وقالت الجدة أنا آخذه دفع إليها ; لأن الحضانة حقها ، فإذا أسقطت حقها صح الإسقاط منها لكن إنما يكون لها ذلك إذا كان للولد ذو رحم محرم كما هنا أما إذا لم يكن أجبرت على الحضانة كي لا يضيع الولد كذا اختاره الفقهاء الثلاثة ا هـ .

                                                                                        ليس بظاهر وقد اغتر به في البحر فقال ما قاله الفقهاء الثلاثة قيده في الظهيرية بما إذا لم يكن للصغير رحم فحينئذ تجبر الأم كي لا يضيع الولد وأنت قد علمت أنه إذا لم يكن له أحد فليس من محل الخلاف في شيء ا هـ .

                                                                                        ( قوله لكن قيده في الظهيرية بأن لا يكون إلخ ) اعترضه في النهر بأن ما في الظهيرية واغتر به غير ظاهر لما في الفتح ، فإن لم يوجد غيرها أجبرت بلا خلاف .

                                                                                        ( قوله وذكر في السراجية ) قال في المنح الظاهر أنه أراد بها فتاوى سراج الدين قارئ الهداية ونصها سئل : هل تستحق المطلقة أجرة بسبب حضانة ولدها خاصة من غير رضاع له فأجاب نعم تستحق أجرة على الحضانة ، وكذا إذا احتاج إلى خادم يلزم به ا هـ .

                                                                                        ويحتمل أنه أراد بها الفتاوى السراجية المشهورة لكني لم أقف على ذلك في بابه بنسختي والعلم أمانة في أعناق العلماء ا هـ .

                                                                                        وأقول : بل مراده فتاوى قارئ الهداية فإنه في النفقات عزاه إليها صريحا ، وفي الشرنبلالية فعلى هذا يجب على الأب ثلاثة : أجرة الرضاع وأجرة الحضانة ونفقة الولد ا هـ .

                                                                                        وقال الرملي ولم يذكر هل أجرة الحضانة على الأب أم في مال الصغير إذا كان له [ ص: 181 ] مال ولم يذكر بعد موت الأب إذا طلبت أجرة الحضانة من مال الولد إذا كان له مال أو ممن تجب نفقته عليه إذا لم يكن له مال هل تجاب إلى ذلك أم لا ولم أره في غير هذا الكتاب صريحا لكن المفهوم من كلامهم أن الأم لا تستحق أجرة الحضانة في مال الصغير عند عدم الأب لوجوب التربية عليها حتى تجبر إذا امتنعت كما أفتى به الفقهاء الثلاثة بخلاف الرضاع حيث لا تجبر وهو الفارق بين المسألتين حتى جاز أن يفرض أجرة الرضاع في مال الصبي لأمه على قول كما سيأتي في النفقات .

                                                                                        ولذا قال في جواهر الفتاوى سئل قاضي القضاة فخر الدين خان عن المبتوتة هل لها أجرة الحضانة بعد الفطام قال : لا لكن صرح قارئ الهداية في فتاواه باستحقاقها ذلك إذا لم تكن منكوحة أو معتدة على الأب والظاهر أن علة الأول الوجوب عليها ديانة وعلة الثاني أنها إذا حضنته فقد حبست نفسها في تربيته فيجب لها على الأب ما يقوم مقام الاتفاق عليها وهو أجرة الحضانة وإن وجبت عليها ديانة ، فإذا لم يكن له أب فهي الأحق بتربيته فلا تطلب أجرة من ماله ولا ممن هو دونها في ذلك فتأمل وراجع وإذا كان للصغير مال لها أن تمتنع من حضانته فيستأجر له حاضنة بماله غيرها ، وكذا لو كان الأب موجودا وللصغير مال فللأب أن يجعل أجرة الحضانة من ماله فيرجع الأمر إلى أن الصغير إذا حضنته أمه في حال النكاح أو في عدة الرجعي أو البائن في قول لا تستحق أجرة لا من مال الصغير ولا على الأب ، والثاني مصرح به والأول تفقه .

                                                                                        ويفرق بينها وبين الرضاع بأنه من باب النفقة وهي على الأب إذا لم يكن للصغير مال وإلا ففي ماله بخلافها فإن الحضانة حقها ولا تستوجب على إقامة حقها أجرة وكذلك الحكم لو لم يكن له أب وله مال فحضنته وطلبت الأجرة من ماله ولم أره أيضا كما ذكرته أولا والذي يظهر وجوبها في ماله وإن ألحقنا الحضانة بالرضاع قلنا باستحقاق ذلك وبجوازه في مال الصغير وإن كان له أب ، وأما إذا لم يكن له مال ولا أب فلا كلام في جبرها حيث لم يكن له من يحضنه غيرها .

                                                                                        هذا وقد رأيت في كتب الشافعية مؤنة الحضانة في مال المحضون إن كان له مال وإلا فعلى من تجب عليه نفقته وعلى ما أجاب به قارئ الهداية من استحقاقها الأجرة إذا لم تكن منكوحة ولا معتدة لا يبعد أن يكون مذهبنا كمذهب الشافعية وتكون كالرضاع هذا هو السابق للأفهام ويتعين القطع به ا هـ . ملخصا .

                                                                                        ( قوله ما لم تفعل ذلك ) أي : ما لم يثبت فعله عنها كذا في النهر ولكن الذي في النسخ ما لم تعقل بالعين والقاف ، وقال الرملي قد تصحف على صاحب النهر قوله : تعقل بالعين والقاف بيفعل بالفاء والعين وهو مما يفسد المعنى فتأمل .

                                                                                        ( قوله وينبغي أن يراد بالفسق في كلامهم هنا الزنا ) قال في النهر في قصره على الزنا قصور ; إذ لو كانت سارقة أو مغنية أو نائحة فالحكم كذلك وعلى هذا فالمراد فسق يضيع الولد به ا هـ .

                                                                                        وهذا بناء على أن قول المؤلف ونحوه بالجر عطفا على الخروج ويمكن أن يكون مرفوعا عطفا على الزنا فيئول إلى ما في النهر فتأمل . ثم رأيته في حاشية الرملي قال كيف القصر وقد قال ونحوه بعد قوله المقتضي لاشتغال الأم عن الولد ا هـ .

                                                                                        وفي منح الغفار واعلم أن الذي وقع في كلام المحقق الكمال في شرح الهداية وغيره قوله ولا للفاسقة وهو بإطلاقه ينتظم جميع أنواع الفسق الصادق بترك الصلاة لكن حمله شيخنا في بحره على الفسق بالزنا لاشتغال الأم عن الولد بالخروج من المنزل مستظهرا عليه بأن الذمية أحق بولدها المسلم ما لم يعقل الأديان فالفاسقة المسلمة بالأولى ا هـ .

                                                                                        فتبعته لكن عندي في الاستدلال عليه بما ذكر نظر ; لأن الذمية إنما تفعل ما تفعل مما يوجب الفسق عندنا على جهة اعتقاده دينا لها فكيف يلحق بها الفاسقة المسلمة فالذي يظهر إجراء كلام الكمال على إطلاقه كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن الفاسقة ، ولو بترك الصلاة لا حضانة لها ا هـ . كلام المنح

                                                                                        قال بعض الفضلاء : وبعدما علمت أن المناط هو الضياع حققت أن بحث صاحب المنح لا حاصل له [ ص: 182 ] ( قوله كما سيأتي ) أي في الباب الآتي في شرح قول المصنف وهي أحق بعدها ما لم تطلب زيادة




                                                                                        الخدمات العلمية