الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ياأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون .

                          [ ص: 14 ] بعد أن ذكرنا الله - تعالى - بالرسل وما كان من أقوامهم بعدهم من الاختلاف والاقتتال ، عاد إلى أمرنا بالإنفاق بأسلوب آخر كما تقدم التنبيه في تفسير الآية السابقة . هنالك يقول : من ذا الذي يقرض الله [ 2 : 245 ] وقد نبهنا على ما في هذا الخطاب من اللطف والبلاغة ، وأزيد هنا أن هذا اللطف إنما يفعل فعله ويبلغ نهاية تأثيره فيمن بلغ في الإيمان إلى عين اليقين ، وعرج في الكمال إلى منازل الصديقين ، ولطف وجدانه وشعوره ، وتألق ضياؤه ونوره ، وما كل المؤمنين يدرجون في هذه المدارج ، أو يرتقون على هذه المعارج ؛ ، فالأكثرون منهم يفعل في نفوسهم الترهيب ما لا يفعل الترغيب ، فهم لا يتفقون في سبيل الله إلا خوفا من عقابه أو طمعا في ثوابه ، وقد يعرض للضعفاء من هؤلاء الغرور بشفاعة تغني هنالك عن العمل ، أو فدية تقي صاحبها عاقبة ما كان عليه من الزلل ، فأمثال هؤلاء يعالجون بقوله - تعالى - : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة قرأ أبو عمرو وابن كثير ويعقوب : " لا بيع " وما عطف عليه بالفتح والباقون بالرفع .

                          قالوا: إن المراد بالإنفاق هنا الإنفاق الواجب ; لأن الكلام يتضمن الوعيد على الترك ، وهو لا يكون إلا على ترك الواجب . وقال بعضهم : بل يشتمل المندوب ، ومن الواجب على أغنياء المسلمين إذا وقع الفساد في الأمة وتوقفت إزالته على المال أن يبذلوه لدفع المفاسد الفاشية والغوائل الغاشية ، وحفظ المصالح العامة .

                          أقول : وفي قوله - تعالى - : مما رزقناكم إشعار بأنه لا يطلب منهم إلا بعض ما جعلهم مستخلفين فيه من رزقه ونعمه عليهم ، فأين هذا من الطلب بصيغة الإقراض ؟

                          كأنه يقول : إننا ما رزقناكم الرزق الحسن واستخلفناكم فيه إلا وقد نقلناه من أيدي قوم أساءوا التصرف فحبسوا المال وأمسكوه عن المصالح والمنافع التي يرتقي بها شأن البشر بالتعاون على البر والخير ، فلا تكونوا مثلهم فإنهم ظلموا أنفسهم وقومهم ببخلهم ، فكانوا كافرين بنعم الله - تعالى - عليهم ، إذ لم يضعوها في مواضعها ; ولذلك ختم الآية بقوله : والكافرون هم الظالمون وسيأتي بيانه .

                          أما البيع والخلة والشفاعة فللمفسرين في بيان المراد بنفيها طريقان : أحدهما أن المراد بالبيع الكسب بأي نوع من أنواع المبادلة والمعارضة . والمراد بالخلة - وهي الصداقة والمحبة للقرابة وغيرها - لازمها ، وهو ما يكون وراءها من الكسب كالصلة والهدية والوصية والإرث . وبالشفاعة - وهي معروفة - لازمها في الكسب وهو ما يكون من إقطاعات الملوك والأمراء لبعض الناس ، وإنما يكون غالبا بالتوسل إليهم والشفاعة عندهم ، فهذه الثلاث من طرائق جمع المال وسعة الرزق في الدنيا ، فهو يقول - ما معناه - : يا أيها الذين آمنوا بادروا إلى الإنفاق في سبيل الله مما تناله أيديكم وأنتم متمكنون منه ابتغاء مرضاة الله قبل أن يأتي [ ص: 15 ] يوم الجزاء الذي لا تجدون فيه ما تتقربون به إليه مما يكسب ببيع وتجارة ، ولا مما ينال بخلة أو شفاعة ، فإنه هو اليوم الذي يظهر فيه فقر العباد وكون الملك لله الواحد القهار .

                          وأما الطريق الثاني : فقد فسروا فيه البيع بالافتداء وجعلوا فيه الخلة والشفاعة على ظاهرهما ، أي أنفقوا فإن الإنفاق في سبيل الخير والبر - وهي سبيل الله - هو الذي ينجيكم في ذلك اليوم الذي لا ينجي الأشحة الباخلين فيه من عذاب الله - تعالى - فداء فيفتدوا منه أنفسهم ، ولا خلة يحمل فيها خليل شيئا من أوزار خليله ، أو يهبه شيئا من حسناته ، ولا شفاعة يؤثر بها الشفيع في إرادة الله - تعالى - ، فيحولها عن مجازاة الكافر بالنعمة الباخل بالصدقة المستحق للمقت والعقوبة بتدنيس نفسه وتدسيتها في الدنيا ، وهذا هو الوجه الذي اختاره الأستاذ الإمام ، فالآية بمعنى قوله - تعالى - في هذه السورة : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون [ 2 : 48 ] فقوله : لا تجزي نفس عن نفس شيئا بمعنى نفي الخلة هنا ، والعدل : هو الفداء بالعوض ، وهو بمعنى البيع المنفي هنا ، ومثلها آية ( 123 ) ، والخطاب في تينك الآيتين لبني إسرائيل الذين كانوا في عصر التنزيل يقيسون أمور الدنيا على أمور الآخرة كما هو شأن الوثنيين ، فيظنون أن الإنسان يمكن أن ينجو في الآخرة بفداء يفتدي به أو شفاعة تناله من سلفه النبيين والربانيين ، كدأب الأمراء ، والسلاطين ، وإن كان في هذه الحياة فاسقا ظالما فاسد الأخلاق مناعا للخير معتديا أثيما . وقصارى هذا الاعتقاد أن سعادة الآخرة هي كالمعروف للعامة من سعادة الدنيا ليست جزاء للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والعقائد الصحيحة ، أي ليست أثرا لشيء في نفس الإنسان ، إنما الغالب فيها أن تكون بإسعاد غيره له ، وخير ضروب هذا الإسعاد وأعلاها ما يكون بالشفاعة عند الأمراء والسلاطين الذين يجعلون المرء من أعظم أرباب المال والجاه بكلمة يحملهم عليها الشافع ، فمن كان يطلب في الآخرة منتهى السعادة فعليه أن يعتمد على أحد المقربين عند الله ليشفع له هناك ولا يكلفن نفسه عناء التهذيب وأعمال البر ، وقد بين الله - تعالى - لبني إسرائيل خطأهم في هذا الاعتقاد بما فيه عبرة لهذه الأمة ، ثم خاطب المؤمنين بذلك وأنذرهم ما أنذر به بني إسرائيل ، وما تغني الآيات والنذر عن قوم يحرفون الكلام عن مواضعه ، كما فعل بعض المفسرين الذين زعموا أن قوله - تعالى - : والكافرون هم الظالمون يدل على أن الكافرين بأصل الدين هم الذين لا ينفعهم يوم القيامة بيع ولا خلة ولا شفاعة ; أي هذا النفي العام المستغرق لمنفعة الفداء ، والخلة والشفاعة خاص بمن لا يسمي نفسه مسلما ، وأما من قبل هذا الاسم فإن الآية لا تتناولهم ، وإن كان الخطاب فيها للذين آمنوا ، وستعلم أن لفظ الكافرين لا يراد به هنا منكرو الألوهية والنبوة أو رافضو لقب الإسلام ; لأن هذا اصطلاح لم يلتزمه القرآن .

                          [ ص: 16 ] سبق القول في الشفاعة والجزاء والفداء في تفسير آية واتقوا يوما [ 2 : 48 ] التي استشهدنا بها آنفا فلا نعيده ، ولكن بدا لي أن أكتب جملة وجيزة في مسألة قياس عالم الغيب على عالم الشهادة في التماس السعادة بالإسعاد والشفاعة ، فأقول : تقدم أن القياس باطل على تقدير صدق ظنهم في سعادة الدنيا ; لأن الشفاعة المعروفة عند الملوك والحكام - وهي أكبر الشهادات في هذا المقام - مما يستحيل على الله - عز وجل - ; لأن الشفيع هنا يحدث في ذهن المشفوع عنده من الرأي والعلم بالمصلحة وفي قلبه من الميل والأثر ما لم يكن فيهما ، فيعفو ويصفح أو يهب ويمنح ، إما بهذه العاطفة وإما بتلك المعرفة ; لأن عمل الإنسان في الدنيا يصدر عن أحد هذين المصدرين في النفس أو عن كليهما ، وأما أفعال الله - تعالى - فهي تابعة لعلمه وحكمته وسائر صفاته القديمة التي يستحيل أن يطرأ عليها تغيير ما ، وهذه هي الشفاعة التي يتعلق بها السفهاء المغرورون وقد نفاها الله - تعالى - في هذه الآية وغيرها من الآيات ، وبين فيها وفي آيات أخرى كثيرة جدا أن سعادة الآخرة إنما تنال بالأعمال الصالحة مع الإيمان الصحيح المؤثر في الوجدان ، المصرف للإرادة في الأعمال .

                          وإنما الذي أريد : أن قوله هنا : هو أن السعادة الدنيوية الحقيقية التي يعرفها الشرع ويؤيده الاختبار والعقل ، هي في الأنفس لا في الآفاق ; أعني أنها لا تنال بإسعاد الأخلاء ، ولا بشفاعة الشفعاء ، إنما العمدة فيها على اعتدال النفس في أخلاقها وأعمالها ، وصحة عقائدها ومعارفها ، ويتبع هذا في الغالب صحة الجسم ، وسهولة طرق الرزق ، والسلامة من الخرافات والأوهام التي تفتك بالعقول والأجسام ، ويظهر صدق هذا القول ظهورا بينا تقل فيه الشبهات في البلاد التي تساس بالعدل ويكون الحكام فيها مقيدين بأحكام الشريعة التي تكلفها الأمة ، وإنما تعرض الشبهات على صدقه في البلاد التي يحكم فيها السلاطين بإرادتهم وأهوائهم فيعطون من مال الأمة ما أرادوا لمن أرادوا ، ويسلبون من أموال الرعية ما أحبوا فينفقونه على من أحبوا ، ويحكمون من شايعهم - على ظلمهم - في أنفس الخاضعين لحكمهم ، ولا يشايعهم إلا من كان فاسد الأخلاق سيئ الأعمال يؤثر هواهم على رضوان الله - إن كان يكفر في رضوان الله أو يؤمن به - وعلى مصلحة الأمة ، فما يتمتع به أعوان الظالمين من المال والجاه بالباطل وما يناله أشياعهم من منافع شفاعتهم كل ذلك في حكم الله وشرعه من الشقاء لا من السعادة ، أفعلى حكم هؤلاء الظالمين نقيس حكم رب العزة في يوم الدين ، أين نحن إذا من قوله ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 : 47 ] إذا خفي شقاء هؤلاء الملوك وأشياعهم على الجاهل في طور الإملاء والاستدراج ، فإنه لا يخفى على أهل العلم بسنن الله في الخلق ويعرف ذلك كل أحد يوم يأخذهم الله بظلمهم ، ويسلط عليهم من يسلب ملكهم ، وتشقى [ ص: 17 ] بهم الأمة التي رضيت بأحكامهم . فهل يشبه الله - تعالى - بهؤلاء الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ! سبحان ربك رب العزة عما يصفون [ 37 : 180

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية