الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن اشتبه عليه ماءان ومعه ماء ثالث يتيقن طهارته ففيه وجهان ( أحدهما ) : لا يتحرى لأنه يقدر على إسقاط الفرض بيقين فلا يؤدى بالاجتهاد كالمكي في القبلة ( والثاني ) : أنه يتحرى لأنه يجوز إسقاط الفرض بالطاهر في الظاهر مع القدرة على الطاهر بيقين ألا ترى أنه يجوز أن يترك ماء نزل من السماء ويتيقن طهارته ويتوضأ بماء يجوز نجاسته ؟ ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : هذان الوجهان مشهوران ، قال صاحب الحاوي : وحكاهما أبو إسحاق المروزي في شرحه أصحهما عند جمهور أصحابنا في الطريقتين [ ص: 245 ] جواز التحري وهو قول ابن سريج وجمهور أصحابنا المتقدمين أصحاب الوجوه ، والوجه الآخر اختيار أبي إسحاق المروزي ورجحه صاحب المستظهري . قال : وهو اختيار صاحب الشامل ولم يرجح في الشامل واحدا من الوجهين فلعله سمعه منه أو رآه في مصنف آخر له ، والصحيح ما صححه الجمهور وهو جواز التحري ، واتفقوا على أنه إذا جوزنا التحري استحب تركه واستعمال الطاهر بيقين احتياطا وأجاب الأصحاب عن تمسك من منع الاجتهاد بالقياس على القبلة بأجوبة أحسنها : أن القبلة في جهة واحدة ، فإذا قدر عليها كان طلبه لها في غيرها عبثا بخلاف الماء الطهور فإنه في جهات كثيرة ( الثاني ) أن اليقين في القبلة حاصل في محل الاجتهاد بخلاف الماء ( الثالث ) أن المنع من الاجتهاد في القبلة في المسألة المفروضة لا يؤدي إلى مشقة بخلاف الماء والثياب ( الرابع ) ذكره الشيخ أبو محمد في الفروق عن بعض الأصحاب أن الماء مال متمول وفي الإعراض عنه تفويت ماليته مع إمكانها فلا تفوت منفعة مال لوجود مال آخر بخلاف القبلة . واستدل الأصحاب في ترجيح المذهب مع ما سبق بأن الصحابة رضي الله عنهم كان يسمع أحدهم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من صحابي آخر فيعمل به ولا يفيده إلا الظن ولا يلزمه أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسمعه منه . فيحصل له العلم قطعا واستدل من منع الاجتهاد من نص الشافعي بقوله في المختصر : ولو كان في السفر معه إناءان يستيقن أن أحدهما طاهر ، والآخر نجس ، قالوا : فجعل السفر شرطا للاجتهاد لكونه ليس معه ماء آخر ، وأجاب الجمهور بأن السفر شرط لوجوب الاجتهاد لا لجوازه والله أعلم .

                                      وأما قول المصنف : ( لأنه يقدر على إسقاط الفرض بيقين فلا يؤدى بالاجتهاد كالمكي في القبلة ) فمراده بالمكي من كان بمكة وليس بينه وبين الكعبة حائل لا أصلي ولا طارئ ، فأما من هو بمكة وبينه وبين الكعبة حائل أصلي كالجبل فإنه يجتهد بلا خلاف ، وكذا من بينه وبينها حائل طارئ كالبناء على الصحيح ، كذا صرح به المصنف في باب استقبال القبلة والأصحاب [ ص: 246 ] وقوله : ( ألا ترى أنه يجوز أن يترك ماء نزل من السماء ) إلى آخره معناه أنه إذا كان بحضرته ماء السماء الذي شاهد نزوله من السماء ولم يقع على نجاسة فهو يقطع بطهارته . ومع هذا يجوز أن يتركه ويتوضأ من إناء فيه ماء قليل قد غاب عنه واحتمل ولوغ كلب فيه أو نجاسة أخرى ، وكذا لو كان بحضرة نهر وشبهه من المياه الكثيرة جاز الوضوء من الإناء الممكن نجاسته ، وهذا لا خلاف فيه والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا يتخرج على هذين الوجهين مسائل ، والعبارة الجامعة لها أنه هل يجوز الاجتهاد مع القدرة على اليقين منها لو اشتبه ماءان مستعمل ومطلق وهي المسألة التي ذكرها المصنف بعد هذا فإن قلنا : يلزم الأخذ باليقين توضأه بهما وإلا اجتهد ( الثانية ) اشتبه ثوبان ومعه ثالث طاهر بيقين أو معه ماء يمكنه غسل أحدهما به ، فإن أوجبنا اليقين لم يجتهد بل يصلي في الثالث أو يغسل وإن لم توجب اليقين اجتهد ( الثالثة ) معه مزادتان في كل واحدة قلة وإحداهما نجسة واشتبهت فإن أوجبنا اليقين وجب خلطهما وإلا اجتهد ( الرابعة ) اشتبه لبن طاهر ، ولبن متنجس ومعه لبن ثالث من ذلك الجنس يتيقن طهارته ، قال الشيخ أبو حامد والمحاملي في المجموع وأبو علي البندنيجي في جواز التحري : هذان الوجهان ، قال المتولي : لعل الشيخ أبا حامد أراد إذا كان مضطرا يريد شرب اللبن حتى يجب عليه طلب الطاهر كما عليه في مسألة الماء طلب الطاهر للطهارة . قال : فأما في غير حال الاضطرار فلا يمنع من الاجتهاد بلا خلاف لأنه ليس عليه فرض حتى يمنعه على أحد الوجهين من الاجتهاد للقدرة على اليقين ، وإنما الغرض الآن المالية ، هذا كلام المتولي وذكر صاحب الشامل نحوه ، وأنكر على الشيخ أبي حامد فالصحيح جواز الاجتهاد فيهما مطلقا من غير خلاف ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية