الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 326 ] سورة القلم

                                                                                                                                                                                                                                      وهي مكية كلها بإجماعهم

                                                                                                                                                                                                                                      إلا ما حكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها من المدني قوله تعالى: إنا بلوناهم إلى قوله تعالى: لو كانوا يعلمون .

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: "ن" قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص: "ن والقلم" النون في آخر الهجاء من نون ظاهرة عند الواو، وهذا اختيار الفراء . وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان لا يبين النون من "نون" . وبها قرأ الكسائي، وخلف، ويعقوب، وهو اختيار الزجاج . وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وقتادة، والأعمش: "نون والقلم" بكسر النون . وقرأ الحسن، وأبو عمران، وأبو نهيك: "ن والقلم" برفع النون .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي معنى نون سبعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنها الدواة . روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ ص: 327 ] "أول ما خلق الله القلم، ثم خلق النون، وهي الدواة" وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير، وبه قال الحسن وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه آخر حروف الرحمن، رواه عكرمة عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه الحوت الذي على ظهر الأرض، وهذا المعنى في رواية أبي ظبيان عن ابن عباس، وهو مذهب مجاهد، والسدي، وابن السائب، ومقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنه لوح من نور، قاله معاوية بن قرة .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس: أنه افتتاح اسمه "نصير"، و"ناصر"، قاله عطاء .

                                                                                                                                                                                                                                      والسادس: أنه قسم بنصرة الله للمؤمنين، قاله القرظي .

                                                                                                                                                                                                                                      والسابع: أنه نهر في الجنة، قاله جعفر الصادق .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 328 ] وفي "القلم" قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه الذي كتب به في اللوح المحفوظ .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه الذي يكتب به الناس . وإنما أقسم به، لأن كتبه إنما تكتب() و"يسطرون" بمعنى: يكتبون . وفي المشار إليهم قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنهم الملائكة . وفيما أرادوا بما يكتبونه قولان . أحدهما: أنه الذكر، قاله مجاهد، والسدي . والثاني: أعمال بني آدم، قاله مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الثاني: أنهم جميع الكتبة، حكاه الثعلبي "ما أنت بنعمة ربك بمجنون" أي: ما أنت بإنعام ربك عليك بالإيمان والنبوة بمجنون . قال الزجاج: هذا جواب قولهم: إنك لمجنون . وتأويله: فارقك الجنون بنعمة الله .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وإن لك بصبرك على افترائهم عليك، ونسبتهم إياك إلى الجنون "لأجرا غير ممنون" أي: غير مقطوع ولا منقوص، "وإنك لعلى خلق عظيم" فيه ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: دين الإسلام، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أدب القرآن، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: الطبع الكريم . وحقيقة "الخلق" ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب، فسمي خلقا، لأنه يصير كالخلقة في صاحبه . فأما ما طبع عليه فيسمى: "الخيم" فيكون الخيم: الطبع الغريزي، والخلق: الطبع المتكلف . هذا قول الماوردي . وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ ص: 329 ] فقالت: كان خلقه القرآن . تعني: كان على ما أمره الله به في القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فستبصر ويبصرون يعني: أهل مكة . وهذا وعيد لهم بالعذاب . والمعنى: سترى ويرون إذا نزل بهم العذاب ببدر "بأيكم المفتون" وفيه أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: الضال، قاله الحسن . والثاني: الشيطان، قاله مجاهد . والثالث: المجنون، قاله الضحاك . والمعنى: الذي قد فتن بالجنون . والرابع: المعذب، حكاه الماوردي .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الباء قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنها زائدة، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة . وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 330 ] والثاني: أنها أصلية، وهذا قول الفراء، والزجاج . قال الزجاج: ليس كونها لغوا بجائز في العربية في قول أحد من أهلها .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الكلام قولان للنحويين .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن المفتون ها هنا: الفتون . والمصادر تجيء على المفعول . تقول العرب ليس: هذا معقود رأي، أي: عقد رأي، وتقول: دعه إلى ميسوره، أي: يسره . والمعنى: بأيكم الجنون .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: بأيكم المفتون بالفرقة التي أنت فيها، أم بفرقة الكفار؟ فيكون المعنى: في أي الفرقتين المجنون . وقد ذكر الفراء نحو ما شرحه الزجاج . وقد قرأ أبي بن كعب ، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: "في أي المفتون" . ثم أخبر أنه عالم بالفريقين بما بعد هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية