الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( باب ما جاء في شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم )

وفي نسخة صحيحة باب ما جاء في صفة شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الشرب بتثليث أوله مصدر بمعنى التشرب على ما ذكره البيهقي في التاج ، وهو المراد هنا ، وقد قرئ قوله تعالى : فشاربون شرب الهيم بالحركات الثلاث لكن الكسر شاذ ، وهو في معنى النصب أشهر كقوله تعالى : لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فالكسر بمعنى المشروب ، وكذا الفتح والضم بناء على أن المصدر بمعنى المفعول ، وهذا المعنى أيضا يحتمل أن يكون مرادا هنا ، وأما نقل ابن حجر تبعا للحنفي أن الشرب بالفتح جمع شارب ، [ ص: 307 ] كصحب جمع صاحب ، على تقدير صحة وروده ، فلا مناسبة له بالباب ، والله أعلم بالصواب .

( حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا هشيم ) بضم هاء وفتح شين معجمة ، وسكون تحتية مصغر هشام ، ( أنبأنا ) وفي نسخة أخبرنا ( عاصم الأحول ومغيرة ) بضم فكسر ، هو ابن مقسم الضبي مولاهم الكوفي الفقيه الضرير أبو هشام ثقة متقن إلا أنه يدلس ، ولا سيما عن إبراهيم مات سنة ثلاث وثلاثين ومائة ذكره ميرك ( عن الشعبي ) بفتح فسكون تابعي مشهور ( عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب ) قيل : في حجة الوداع ( من زمزم ) وهي بئر معروفة بمكة ، سميت بها لكثرة مائها ، ويقال ماء زمزم وزمزم ، وقيل : هو اسم علم لها كذا في النهاية ( وهو قائم ) وفي رواية الشيخين ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء زمزم ، فشرب وهو قائم ، قال ميرك : وفي رواية ابن ماجه ، قال عاصم : فذكرت ذلك لعكرمة ، فحلف أنه ما كان حينئذ إلا راكبا ، وعند أبي داود من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره ، ثم أناخه بعد فراغه من الطواف ، فصلى ركعتين ، فلعل شربه من زمزم حينئذ قبل أن يعود إلى بعيره ، ويخرج إلى الصفا ، وهذا هو الذي يتعين المصير إليه ; لأن عمدة عكرمة في كونه شرب قائما ، إنما هو ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره ، وسعى كذلك لكن لا بد من تخلل ركعتي الطواف بين ذلك ، وقد ثبت أنه صلاهما على الأرض فما المانع من كونه شرب من زمزم ، وهو قائم كما حفظه الشعبي كذا حققه العسقلاني ، وهو جمع جيد لا غبار عليه ، وما وقع في حديث جابر في سياق حج النبي صلى الله عليه وسلم ، من أنه استسقى بعد طواف الإفاضة عند إتمام المناسك ، لا ينفي هذا التأويل ، ولا يحتاج إلى حمل قول الشعبي : وهو قائم ، على أنه راكب ; لأن الراكب سيره بالقائم من حيث كونه سائرا ، غاية ما في الباب ، أنه يلزم من هذا الوجه الذي ذكره العسقلاني إدعاء كون الشرب من زمزم وقع في الحج مرتين ، ولا بعد في ذلك ، والله العاصم .

ثم اعلم أنه صرح في بعض الأحاديث بأنه شرب قائما ، وفي صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما ، بل في رواية مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يشربن أحدكم قائما ، فمن نسي فليستقئ " ، والتوفيق بينهما أن النهي محمول على التنزيه ، وشربه قائما لبيان الجواز ، وممن رخص في الشرب قائماعلي وسعد بن أبي وقاص ، وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم ، وقال الشيخ محي السنة : وأما النهي فنهي أدب وإرفاق ; ليكون تناوله على سكون وطمأنينة ، فيكون أبعد من الفساد ، وقال الشيخ مجد الدين الفيروزابادي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب غالبا قاعدا ، وقد شرب مرة قائما لبيان الجواز ، وقال بعضهم : النهي ناسخ له ، وقال بعضهم : أنه ناسخ للنهي ، وقال بعضهم : الشرب قائما كان لعذر ; ولذا قال أكثر العلماء : لا ينبغي أن يشرب قائما ، وقال النووي : وأما من زعم النسخ أو الضعف فقد غلط غلطا فاحشا ، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ ، وأنى له بذلك أو إلى القول بالضعف مع صحة الكل ، وأما قوله : فليستقئ ، فمحمول على الاستحباب ، فإن الأمر إذا تعذر حمله على [ ص: 308 ] الوجوب حمل على الاستحباب ، والله أعلم بالصواب .

أقول : ويمكن أن يكون القيام مختصا بماء زمزم ، وبفضل ماء الوضوء على ما وقع في صحيح البخاري عن علي كرم الله وجهه ، أنه شرب قائما ، وقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت ، وسيأتي في الأصل أيضا ونكتة التخصيص في ماء زمزم ، هي الإشارة إلى استحباب التضلع من مائه ، وفي فضل الوضوء هي الإيماء إلى وصول بركته إلى جميع الأعضاء ، ثم رأيت بعضهم صرح بأنه يسن الشرب من زمزم قائما اتباعا له صلى الله عليه وسلم ، قلت : ويؤيده حديث علي المتقدم حيث تبعه صلى الله عليه وسلم في القيام المخصوص ، ولم ينظر إلى عموم نهيه عن الشرب قائما ، ونازعه ابن حجر بما لا طائل تحته .

التالي السابق


الخدمات العلمية