الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ) .

                          [ ص: 373 ] تمهيد في نسبة قصص القرآن إلى التاريخ ، والفرق بينهما ، وبيان حال الأمم قبل القرآن وبعده .

                          بدأ الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى تفسير هذه الآية بمقدمة في قصص القرآن جعلها كالتمهيد لتفسيرها ، فقال ما مثاله مع إيضاح : تقدم في تفسير ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ) ( 2 : 243 ) الآية . أن القرآن لم يعين أولئك القوم ولا الزمان ولا المكان اللذين كانوا فيهما ( يعني على القول بأنها قصة واقعة لا ضرب مثل كما قال عطاء ) ثم ذكر هاهنا قصة أخرى عن بني إسرائيل ، فعين القوم وذكر أنه كان لهم نبي ولم يذكر اسمه ولا الزمان ولا المكان اللذين حدثت فيهما القصة ، ولكنه ذكر بعد ذلك اسم طالوت وجالوت وداود .

                          يظن كثير من الناس الآن - كما ظن كثير ممن قبلهم - أن القصص التي جاءت في القرآن يجب أن تتفق مع ما جاء في كتب بني إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق أو كتب التاريخ القديمة ، وليس القرآن تاريخا ولا قصصا وإنما هو هداية وموعظة ، فلا يذكر قصة لبيان تاريخ حدوثها ، ولا لأجل التفكه بها أو الإحاطة بتفصيلها ، وإنما يذكر ما يذكره لأجل العبرة كما قال : ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) ( 12 : 111 ) وبيان سنن الاجتماع كما قال : ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) ( 3 : 137 ) وقال : ( سنة الله التي قد خلت في عباده ) ( 40 : 85 ) وغير ذلك من الآيات .

                          والحوادث المتقدمة منها ما هو معروف ، والله تعالى يذكر من هذا وذاك ما شاء أن يذكر لأجل العبرة والموعظة ، فيكتفي من القصة بموضع العبرة ومحل الفائدة ، ولا يأتي بها مفصلة بجزئياتها التي لا تزيد في العبرة بل ربما تشغل عنها ، فلا غرو أن يكون في هذه القصص التي يعظنا الله بها ويعلمنا سننه ما لا يعرفه الناس; لأنه لم يرو ولم يدون بالكتاب . وقد اهتدى بعض المؤرخين الراقين في هذه الأزمنة إلى الاقتداء بهذا ، فصار أهل المنزلة العالية منهم يذكرون من وقائع التاريخ ما يستنبطون منه الأحكام الاجتماعية وهو الأمور الكلية ، ولا يحفلون بالجزئيات لما يقع فيها من الخلاف الذي يذهب بالثقة ، ولما في قراءتها من الإسراف في الزمن والإضاعة للعمر بغير فائدة توازيه ، وبهذه الطريقة يمكن إيداع ما عرف من تاريخ العالم في مجلد واحد يوثق به ويستفاد منه ، فلا يكون عرضة للتكذيب والطعن ، كما هو الشأن في المصنفات التي تستقصي الوقائع الجزئية مفصلة تفصيلا .

                          إن محاولة جعل قصص القرآن ككتب التاريخ بإدخال ما يروون فيها على أنه بيان لها هي مخالفة لسنته ، وصرف للقلوب عن موعظته ، وإضاعة لمقصده وحكمته ، فالواجب أن نفهم [ ص: 374 ] ما فيه ، ونعمل أفكارنا في استخراج العبر منه ، ونزع نفوسنا عما ذمه وقبحه ، ونحملها على التحلي بما استحسنه ومدحه ، وإذا ورد في كتب أهل الملل أو المؤرخين ما يخالف بعض هذه القصص ، فعلينا أن نجزم بأن ما أوحاه الله إلى نبيه ونقل إلينا بالتواتر الصحيح هو الحق وخبره هو الصادق ، وما خالفه هو الباطل ، وناقله مخطئ أو كاذب ، فلا نعده شبهة على القرآن ، ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه ، فإن حال التاريخ قبل الإسلام كانت مشتبهة الأعلام حالكة الظلام ، فلا رواية يوثق بها للمعرفة التامة بسيرة رجال سندها ، ولا تواتر يعتد به بالأولى ، وإنما انتقل العالم بعد نزول القرآن من حال إلى حال ، فكان بداية تاريخ جديد للبشر ، كان يجب عليهم - لو أنصفوا - أن يؤرخوا به أجمعين اهـ .

                          أقول : إن الذي يسبق إلى الذهن من هذا القول هو أن ما كان من شئون الأمم وسير العالم بعد الإسلام لم ينطمس ولم تذهب الثقة به ، ولم ينقطع سند رواته كما كان قبله . وبيان ذلك بالإجمال : أن القرآن قد جاء البشر بهداية جديدة كاملة ، كانوا قد استعدوا للاهتداء بها بالتدريج الذي هو سنة الله تعالى فيهم ، فكان من عمل المسلمين في حفظ العلم والتاريخ العناية التامة بالرواية ما يقبل منها وما لا يقبل; ولذلك ألفوا الكتب في تاريخ الرواة لتعرف سيرتهم ، ويتبين الصادق والكاذب منهم ، وتعرف الرواية المتصلة والمنقطعة ، وبحثوا في الكتب المؤلفة متى يوثق بنسبتها إلى مؤلفيها ، وبينوا حقيقة التواتر الذي يفيد اليقين ، والفرق بينه وبين ما يشتهر من روايات الآحاد ، فبهذه العناية لم ينقطع سند لنوع من أنواع العلم التي وجدت في المسلمين ، على أن العناية بعلوم الدين أصولها وفروعها كانت أتم ، ثم كان شأن من قفى على آثارهم في العلوم والمعارف بعد ضعف حضارتهم على نحو من شأنهم في التصنيف ، وإن كان دونهم في ضبط الرواية ونقدها والأمانة فيها ، فلم يضع شيء من العلوم والفنون ولا من الحوادث والوقائع التي جرت في العالم بعد الإسلام ، وما اختلف الرواة والمصنفون في جزئياته من تاريخ الإسلام وغيره يسهل تصفيته في جملته ، وأخذ المصفى منه; لأجل الاعتبار به ، وعرفان سنن الاجتماع منه جريا على هدي القرآن فيه .

                          لقد وصل الراقون في مدارج العمران اليوم إلى درجة يسهل عليهم فيها من ضبط جزئيات الوقائع ما لم يكن يسهل على من قبلهم ، كاستخدام الكهرباء في نقل الأخبار لمن يدونها في الصحف، وتصوير الوقائع والمعاهد بما يسمونه التصوير الشمسي ( فوتغرافيا ) وسهولة الانتقال - على الكاتبين - من مكان إلى مكان ، وتأمين الحكام لهم من المخاوف وغير ذلك ، وقد اجتمع من هذه الوسائل في الحرب التي كانت في هذين العامين بين دولتي اليابان وروسيا ما لم يجتمع لمدوني التاريخ في غيرها من الحروب ولا غير الحروب من حوادث الزمان . قد كان لأشهر الجرائد الغربية مكاتبون في مواقع الحرب يتبارون في السبق إلى الوقوف على جزئيات الحوادث [ ص: 375 ] وإيصالها إلى جرائدهم ، كما تفعل شركات البرقيات ( التلغرافات ) في إنباء المشتركين فيها ، وكنا نرى وسائل الفريقين من الخلاف والتناقض ما يتعذر معه العلم بالحقيقة ، وكم من رسالة للشركات البرقية ولمكاتبي الجرائد كانت من المسائل المتفق عليها فتبين بعد ذلك كذبها .

                          فهذه آية بينة على أنه لا سبيل إلى الثقة بجزئيات الوقائع التي تحدث في عصرنا ويعنى المؤرخون أشد العناية بضبطها ، إلا ما يبلغ رواته المتفقون عليه مبلغ التواتر الصحيح وقليل ما هو ، فما بالك بما كان في الأمم الخالية ؟

                          وجملة القول أن طريقة القرآن في قصص الذين خلوا هي منتهى الحكمة ، وما كان لمحمد الأمي الناشئ في تلك الجاهلية الأمية أن يرتقي إليها بفكره وقد جهلها الحكماء في عصره وقبل عصره ، ولكنها هداية الله تعالى لعباده أوحاها إلى صفوته منهم - صلى الله عليه وسلم - ( وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) ( 7 : 43 ) فعلينا وقد ظهرت الآية ووضحت السبيل ألا نلتفت إلى روايات الغابرين في تلك القصص ، ولا نعد مخالفتها للقرآن شبهة نبالي بكشفها كما قال الأستاذ الإمام روح الله روحه في مقام الرضوان .

                          ( فإن قيل ) : إن قصص العهدين العتيق والجديد التي يسمى مجموعها ( الكتاب المقدس ) هي وحي من الله شهد لها القرآن وهي تعارض بعض قصصه .

                          ( قلنا ) أولا : إن تلك الكتب ليس لها أسانيد متصلة متواترة . ثانيا : إن القرآن إنما أثبت أن الله تعالى أعطى موسى عليه السلام التوراة وهي الشريعة ، وأن أتباعه قد حفظوا منها نصيبا ونسوا نصيبا ، وأنهم حرفوا النصيب الذي أوتوه ، وأنه أعطى عيسى عليه السلام الإنجيل - وهو مواعظ وبشارة - وقال في أتباعه مثل ما قال في اليهود : ( فنسوا حظا مما ذكروا به ) ( 5 : 14 ) .

                          ويجد القارئ تفصيل هذه الحقائق في تفسير سورة آل عمران والمائدة والأعراف بالنقول من تاريخ الفريقين .

                          بعد هذا نقول : إن وجه الاتصال بين آيات هذه القصة وما قبلها هو أن الآيات التي قبلها نزلت في شرع القتال لحماية الحقيقة وإعلاء شأن الحق ، وبذل المال في هذه السبيل ، سبيل الله [ ص: 376 ] لعزة الأمم ومنعتها وحياتها الطيبة التي يقع من ينحرف عنها من الأقوام في الهلاك والموت ، كما علم من قصة الذين خرجوا من ديارهم فارين من عدوهم على كثرتهم .

                          وهذه القصة - قصة قوم من بني إسرائيل - تؤيد ما قبلها من حاجة الأمم إلى دفع الهلاك عنها ، فهي تمثل لنا حال قوم لهم نبي يرجعون إليه ، وعندهم شريعة تهديهم إذا استهدوا ، وقد أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر - كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن - فعلموا أن القتال ضرورة لا بد من ارتكابها ما دام العدوان في البشر ، وبعد هذا كله جبنوا وضعفوا عن القتال فاستحقوا الخزي والنكال ، فهذه القصة المفصلة فيها بيان لما في تلك القصة المجملة : فر أولئك من ديارهم فماتوا بذهاب استقلالهم واستيلاء العدو على ديارهم .

                          فالآية هناك صريحة في أن موتهم هذا سبب عن خروجهم فارين بجبنهم ، ولم تصرح بسبب إحيائهم الذي تراخت مدته ، ولكن ما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال الذي يضاعفه الله تعالى أضعافا كثيرة قد هدانا إلى سنته في حياة الأمم .

                          وجاءت هذه القصة الإسرائيلية تمثل العبرة فيه ، وتفصل كيفية احتياج الناس إليه; إذ بينت أن هؤلاء الناس احتاجوا إلى مدافعة العادين عليهم واسترجاع ديارهم وأبنائهم من أيديهم ، واشتد الشعور بالحاجة حتى طلبوا من نبيهم الزعيم الذي يقودهم في ميدان الجلاد ، وقاموا بما قاموا به من الاستعداد ، ولكن الضعف كان قد بلغ من نفوسهم مبلغا لم تنفع معه تلك العدة ، فتولوا وأعرضوا للأسباب التي أشير إليها ، وألهم القليل منهم رشدهم واعتبروا فانتصروا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية