الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    10 - ( فصل )

                    ومن فراسة الحاكم : ما ذكره حماد بن سلمة عن حميد الطويل : أن إياس بن معاوية اختصم إليه رجلان ، استودع أحدهما صاحبه وديعة ; فقال : صاحب الوديعة : استحلفه بالله ما لي عنده وديعة فقال إياس : بل أستحلفه بالله مالك عنده وديعة ولا غيرها .

                    وهذا من أحسن الفراسة ; فإنه إذا قال : " ما له عندي وديعة " احتمل النفي ; واحتمل الإقرار فينصب " ماله " بفعل محذوف مقدر ; أي دفع ماله إلي ، أو أعطاني ماله ; أو يجعل " ما " موصولة والجار والمجرور صلتها ووديعة خبر عن " ما " فإذا قال : " ولا غيرها " تعين النفي .

                    وقال حماد بن سلمة : شهدت إياس بن معاوية يقول في رجل ارتهن رهنا ; فقال المرتهن : رهنته بعشرة وقال الراهن : رهنته بخمسة ; فقال : إن كان للراهن بينة أنه دفع إليه الرهن فالقول ، ما قال الراهن ، وإن لم يكن له بينة بدفع الرهن إليه ; والرهن بيد المرتهن . فالقول ما قال المرتهن ; لأنه لو شاء لجحده الرهن .

                    قلت : وهذا قول ثالث في المسألة ; وهو من أحسن الأقوال ، فإن إقراره بالرهن - وهو في يده ولا بينة للراهن - دليل على صدقه ; وأنه محق ، ولو كان مبطلا لجحده الرهن رأسا . ومالك وشيخنا رحمهما الله ، يجعلان القول قول المرتهن ، ما لم يزد على قيمة الرهن والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأحمد رحمهم الله ، يجعلون القول قول الراهن مطلقا .

                    وقال إياس أيضا : من أقر بشيء ، وليس عليه بينة ، فالقول ما قال .

                    وهذا أيضا من أحسن القضاء ، لأن إقراره علم على صدقه ، فإذا ادعى عليه ألفا ، ولا بينة له ، فقال : صدق ، إلا أني قضيته إياها ، فالقول له ، وكذلك إذا أقر بأنه قبض من مورثه وديعة ، ولا بينة له ، وادعى ردها إليه .

                    وقال إبراهيم بن مرزوق البصري : جاء رجلان إلى إياس بن معاوية ; يختصمان في قطيفتين : إحداهما حمراء ; والأخرى خضراء ; فقال أحدهما : دخلت الحوض لأغتسل ، ووضعت قطيفتي ، ثم جاء هذا ، فوضع قطيفته تحت قطيفتي ، ثم دخل فاغتسل ، فخرج قبلي ، وأخذ قطيفتي فمضى بها ; ثم خرجت فتبعته ، فزعم أنها قطيفته ; فقال : ألك بينة ؟ قال : لا . قال : ائتوني بمشط ; فأتي بمشط ، فسرح رأس هذا ، ورأس هذا . فخرج من رأس أحدهما صوف أحمر ، ومن رأس الآخر صوف [ ص: 31 ] أخضر ; فقضى بالحمراء للذي خرج من رأسه الصوف الأحمر ، وبالخضراء للذي خرج من رأسه الصوف الأخضر .

                    وقال معتمر بن سليمان ، عن زيد أبي علاء : شهدت إياس بن معاوية اختصم إليه رجلان ، فقال أحدهما : إنه باعني جارية رعناء ; فقال إياس : وما عسى أن تكون هذه الرعونة ؟ قال : شبه الجنون . فقال إياس : يا جارية ، أتذكرين متى ولدت ؟ قالت : نعم ، قال : فأي رجليك أطول ؟ قالت : هذه ; فقال إياس : ردها ; فإنها مجنونة .

                    وقال أبو الحسن المدائني ، عن عبد الله بن مصعب : أن معاوية بن قرة شهد عند ابنه إياس بن معاوية - مع رجال عدلهم - على رجل بأربعة آلاف درهم ، فقال المشهود عليه : يا أبا وائلة ، تثبت في أمري ، فوالله ما أشهدتهم إلا على ألفين . فسأل إياس أباه والشهود : أكان في الصحيفة التي شهدوا عليها فضل ؟ قالوا : نعم ، كان الكتاب في أولها والطية في وسطها ، وباقي الصحيفة أبيض . قال : أفكان المشهود له يلقاكم أحيانا ، فيذكركم شهادتكم بأربعة آلاف درهم ؟ قالوا : نعم ، كان لا يزال يلقانا ، فيقول : اذكروا شهادتكم على فلان بأربعة آلاف درهم ، فصرفهم ، ودعا المشهود له . فقال : يا عدو الله ، تغفلت قوما صالحين مغفلين ، فأشهدتهم على صحيفة جعلت طيتها في وسطها ، وتركت فيها بياضا في أسفلها ، فلما ختموا الطية قطعت الكتاب الذي فيه حقك ألفا درهم ، وكتبت في البياض أربعة آلاف فصارت الطية في آخر الكتاب ، ثم كنت تلقاهم فتلقنهم ، وتذكرهم أنها أربعة آلاف ، فأقر بذلك ، وسأله الستر عليه ، فحكم له بألفين وستر عليه .

                    وقال نعيم بن حماد عن إبراهيم بن مرزوق البصري : كنا عند إياس بن معاوية ، قبل أن يستقضى ، وكنا نكتب عنه الفراسة ، كما نكتب عن المحدث الحديث ، إذ جاء رجل ، فجلس على دكان مرتفع بالمربد . فجعل يترصد الطريق . فبينما هو كذلك إذ نزل فاستقبل رجلا ، فنظر في وجهه ، ثم رجع إلى موضعه ، فقال إياس : قولوا في هذا الرجل ، قالوا : ما نقول ؟ رجل طالب حاجة . فقال : هو معلم صبيان ، قد أبق له غلام أعور ، فقام إليه بعضنا فسأله عن حاجته ؟ فقال : هو غلام لي آبق . قالوا : وما صفته ؟ قال : كذا وكذا ، وإحدى عينيه ذاهبة ، قلنا : وما صنعتك ؟ قال : أعلم الصبيان . قلنا لإياس : كيف علمت ذلك ؟ قال : رأيته جاء ، فجعل يطلب موضعا يجلس فيه ، فنظر إلى ، أرفع شيء يقدر عليه فجلس عليه ، فنظرت في قدره فإذا ليس قدره قدر الملوك ، فنظرت فيمن اعتاد في جلوسه جلوس الملوك ، فلم أجدهم إلا المعلمين ، فعلمت أنه معلم صبيان ، فقلنا : كيف علمت أنه أبق له غلام ؟ قال : إني رأيته يترصد الطريق ، ينظر في وجوه الناس . قلنا : كيف علمت أنه أعور ؟ [ ص: 32 ] قال : بينما هو كذلك إذ نزل فاستقبل رجلا قد ذهبت إحدى عينيه ، فعلمت أنه اشتبه عليه بغلامه .

                    وقال الحارث بن مرة نظر إياس بن معاوية إلى رجل ، فقال : هذا غريب ، وهو من أهل واسط . وهو معلم ، وهو يطلب عبدا له أبق . فوجدوا الأمر كما قال . فسألوه ؟ فقال : رأيته يمشي ويلتفت ، فعلمت أنه غريب ، ورأيته وعلى ثوبه حمرة تربة واسط فعلمت أنه من أهلها ، ورأيته يمر بالصبيان فيسلم عليهم ولا يسلم على الرجال ، فعلمت أنه معلم . ورأيته إذا مر بذي هيئة لم يلتفت إليه ، وإذا مر بذي أسمال تأمله ، فعلمت أنه يطلب آبقا .

                    وقال هلال بن العلاء الرقي عن القاسم بن منصور عن عمرو بن بكير : مر إياس بن معاوية ، فسمع قراءة من علية ، فقال : هذه قراءة امرأة حامل بغلام ، فسئل ، كيف عرفت ذلك ؟ فقال سمعت بصوتها ونفسها مخالطة . فعلمت أنها حامل وسمعت صحلا ، فعلمت أن الحمل غلام ، ومر بعد ذلك بكتاب فيه صبيان . فنظر إلى ، صبي منهم ، فقال : هذا ابن تلك المرأة فكان كما قال .

                    وقال رجل لإياس بن معاوية : علمني القضاء فقال : إن القضاء لا يعلم ، إنما القضاء فهم ، ولكن قل : علمني من العلم ، وهذا هو سر المسألة ، فإن الله سبحانه وتعالى يقول : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ، إذ نفشت فيه غنم القوم ، وكنا لحكمهم شاهدين . ففهمناها سليمان ، وكلا آتينا حكما وعلما } فخص سليمان بفهم القضية ، وعمهما بالعلم . وكذلك كتب عمر إلى قاضيه أبي موسى في كتابه المشهور : " والفهم الفهم فيما أدلي إليك . [ ص: 33 ] والذي اختص به إياس وشريح مع مشاركتهما لأهل عصرهما في العلم هو : الفهم في الواقع ، والاستدلال بالأمارات وشواهد الحال .

                    وهذا الذي فات كثيرا من الحكام ، فأضاعوا كثيرا من الحقوق

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية