الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 6 ] اشتقاق أسماء الله وصفاته، وإظهار معانيها

1- "الرحمن الرحيم": صفتان مبنيتان من "الرحمة". قال أبو عبيدة: وتقديرهما: ندمان، ونديم .

* * *

2- ومن صفاته: "السلام". قال: السلام المؤمن المهيمن ومنه سمي الرجل: عبد السلام; كما يقال: عبد الله.

ويرى أهل النظر - من أصحاب اللغة -: أن "السلام" بمعنى السلامة; كما يقال: الرضاع والرضاعة، واللذاذ واللذاذة . قال الشاعر:


تحيي بالسلامة أم بكر ... فهل لك - بعد قومك - من سلام؟



فسمى نفسه - جل ثناؤه - "سلاما": لسلامته مما يلحق الخلق: من العيب والنقص، والفناء والموت.

قال الله جل وعز: والله يدعو إلى دار السلام ; فالسلام: الله; وداره: الجنة. يجوز أن يكون سماها "سلاما": لأن الصائر إليها يسلم فيها من [ ص: 7 ] كل ما يكون في الدنيا: من مرض ووصب، وموت وهرم; وأشباه ذلك. فهي دار السلام. ومثله: لهم دار السلام عند ربهم .

ومنه يقال: السلام عليكم. يراد: اسم السلام عليكم. كما يقال: اسم الله عليكم.

وقد بين ذلك لبيد، فقال:


إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما ...     ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر



ويجوز أن يكون [معنى] "السلام عليكم": السلامة لكم. وإلى هذا المعنى، يذهب من قال: "سلام الله عليكم، وأقرئ فلانا سلام الله".

وقال: وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين ; يريد: فسلامة لك منهم; أي: يخبرك عنهم بسلامة. وهو معنى قول المفسرين.

ويسمى الصواب من القول "سلاما": لأنه سلم من العيب والإثم. قال: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ; أي: سدادا من القول.

* * *

3- ومن صفاته: "القيوم" و "القيام". وقرئ بهما جميعا.

وهما "فيعول" و "فيعال" . من "قمت بالشيء": إذا وليته. كأنه القيم بكل شيء. ومثله في التقدير قولهم: ما فيها ديور وديار . [ ص: 8 ]

4- ومن صفاته: "سبوح".

وهو حرف مبني على "فعول"; من "سبح الله": إذا نزهه وبرأه من كل عيب.

ومنه قيل: سبحان الله; أي: تنزيها لله، وتبرئة له من ذلك.

ومنه قوله: يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض .

وقال الأعشى:


أقول لما جاءنا فخره ...     سبحان من علقمة الفاخر



أراد: التبرؤ من علقمة. وقد يكون تعجب [بالتسبيح من فخره; كما يقول القائل إذا تعجب] من شيء: سبحان الله.

فكأنه قال: عجبا من علقمة الفاخر.

* * *

5- ومن صفاته: "قدوس".

وهو حرف مبني على "فعول"; من "القدس" وهو: الطهارة.

ومنه قيل: "الأرض المقدسة" ; يراد: المطهرة بالتبريك. ومنه قوله حكاية عن الملائكة: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ; أي: ننسبك [ ص: 9 ] إلى الطهارة. و"نقدسك ونقدس لك" و"نسبح لك ونسبحك" بمعنى واحد.

وحظيرة القدس - فيما قاله أهل النظر - هي: الجنة. لأنها موضع الطهارة من الأدناس التي تكون في الدنيا: من الغائط والبول والحيض، وأشباه ذلك.

* * *

6- ومن صفاته: "الرب".

والرب: المالك. يقال: هذا رب الدار، ورب الضيعة، ورب الغلام. أي: مالكه; قال الله سبحانه: ارجع إلى ربك ; أي: إلى سيدك.

ولا يقال لمخلوق: هذا الرب; معرفا بالألف واللام; كما يقال لله. إنما يقال: هذا رب كذا. فيعرف بالإضافة. لأن الله مالك كل شيء. فإذا قيل: الرب; دلت الألف واللام على معنى العموم. وإذا قيل لمخلوق: رب كذا ورب كذا; نسب إلى شيء خاص: لأنه لا يملك [شيئا] غيره.

ألا ترى أنه قيل: "الله"; فألزم الألف واللام: ليدل بها على أنه إله كل شيء. وكان الأصل: "الإلاه". فتركت الهمزة: لكثرة ما يجري ذكره - عز وجل - على الألسنة; وأدغمت لام المعرفة في اللام التي لقيتها; وفخمت وأشبعت حتى طبق اللسان بها الحنك: لفخامة ذكره تبارك وتعالى; وليفرق أيضا - عند الابتداء بذكره - بينه وبين اللات [والعزى] .

* * *

7- ومن صفاته: "المؤمن".

وأصل الإيمان: التصديق. قال: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين [ ص: 10 ] ; أي: وما أنت بمصدق ولو كنا صادقين. ويقال [في الكلام] : ما أومن بشيء مما تقول; أي: ما أصدق بذلك.

فإيمان العبد بالله: تصديقه قولا وعملا وعقدا. وقد سمى الله الصلاة - في كتابه - إيمانا; فقال: وما كان الله ليضيع إيمانكم ; أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.

فالعبد مؤمن، أي: مصدق محقق. والله مؤمن، أي: مصدق ما وعده ومحققه، أو قابل إيمانه.

وقد يكون "المؤمن" من "الأمان"; أي: لا يأمن إلا من أمنه [الله] .

وقد ذكرت الإيمان ووجوهه، في كتاب "تأويل المشكل ".

وهذه الصفة - من صفات الله جل وعز - لا تتصرف تصرف غيرها; لا يقال: أمن الله; كما يقال: تقدس الله. ولا يقال: يؤمن الله; كما يقال: يتقدس الله.

وكذلك يقال: "تعالى الله". وهو تفاعل من "العلو". و"تبارك الله" هو تفاعل من "البركة" و"الله متعال". ولا يقال: متبارك. لم نسمعه.

وإنما ننتهي في صفاته إلى حيث انتهى; فإن كان قد جاء من هذا شيء - عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله، أو عن الأئمة -: جاز أن يطلق، كما أطلق غيره. [ ص: 11 ] * * *

8- ومن صفاته: "المهيمن".

وهو: الشهيد. قال الله: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ; أي: شاهدا عليه. هكذا قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه.

وروى عنه - من غير هذه الجهة - أنه قال: "أمينا عليه" .

وهذا أعجب إلي; وإن كان التفسيران متقاربين. لأن أهل النظر - من أصحاب اللغة - يرون: أن "مهيمنا" اسم مبني من "آمن" ; كما بني "بطير" و "مبيطر" و "بيطار" من "بطر". قال الطرماح:


كبزغ البطير الثقف رهص الكوادن

[ ص: 12 ] وقال النابغة:

شك المبيطر إذ يشفي من العضد

وكأن الأصل، "مؤيمن"; ثم قلبت الهمزة هاء: لقرب مخرجهما; كما تقلب في "أرقت الماء"، فيقال: هرقت الماء. وقالوا: ماء مهراق; والأصل: ماء مراق. وقالوا: "إبرية وهبرية، وأيهات وهيهات، وإياك وهياك". فأبدلوا من الهمزة هاء. وأنشد الأخفش:


فهياك والأمر الذي إن توسعت ...     موارده، ضاقت عليك مصادره



* * *

و"آمين" اسم من أسماء الله. وقال قوم من المفسرين - في قول المصلي بعد فراغه من قراءة أم الكتاب: "آمين"-: [أمين] قصر من ذلك; كأنه قال: يا ألله; وأضمر "استجب لي" -: لأنه لا يجوز أن يظهر هذا في هذا الموضع من الصلاة; إذ كان كلاما.- ثم تحذف ياء النداء.

وهكذا يختار أصحاب اللغة في "أمين": أن يقصروا الألف، ولا يطولوا. وأنشدوا فيه: [ ص: 13 ]

تباعد مني فطحل إذ سألته ...     أمين، فزاد الله ما بيننا بعدا



ويفتحونها: لانفرادها، وانقطاعها عما يضمر فيها: من معنى النداء. حتى صارت عندهم معنى "كذلك فعل الله".

وقد أجازوا أيضا "آمين" مطولة الألف. وحكوها عن قوم فصحاء.

وأصلها: "يا أمين" بمعنى: يا ألله. ثم تحذف همزة "أمين" استخفافا لكثرة ما تجرى هذه الكلمة على ألسنة الناس. ومخرجها مخرج "آزيد". يريد: يا زيد. و "آراكب" يريد: يا راكب. وقد سمعنا من فصحاء العرب: "آخبيث"; يريدون: يا خبيث.

وفي ذلك قول آخر; يقال: إنما مدت الألف فيها، ليطول بها الصوت.

كما قالوا: "أوه" مقصورة الألف، ثم قالوا: "آوه" [ممدودة] . يريدون تطويل الصوت بالشكاية. وقالوا: "سقط على حاق رأسه"; أي: على حق رأسه . وكذلك "آمين": أرادوا تطويل الصوت بالدعاء.

وهذا أعجب إلي.

* * *

وأما قول العباس بن عبد المطلب، في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [ ص: 14 ]

حتى احتوى بيتك المهيمن من ...     خندف، علياء تحتها النطق



فإنه أراد: حتى احتويت - يا مهيمن- من خندف علياء; فأقام البيت مقامه: لأن بيته إذا حل بهذا المكان، فقد حل هو به. وهو كما يقال: بيته أعز بيت. وإنما يراد: صاحبه. قال النابغة:


وحلت بيوتي في يفاع ممنع ...     تخال به راعي الحمولة طائرا



ولم يكن بيته في جبل بهذه الصفة; إنما أراد: أني ممتنع على من أرادني، فكأني حللت في يفاع ممنع.

* * *

9- ومن صفاته: "الغفور".

وهو من قولك: "غفرت الشيء": إذا غطيته. كما يقال: "كفرته": إذا غطيته. ويقال: كذا أغفر من كذا; أي: أستر. و "غفر الخز والصوف" ما علا فوق الثوب منها: كالزئبر. سمي "غفرا": لأنه ستر الثوب. ويقال لجنة [ ص: 15 ] الرأس: "مغفر"; لأنها تستر الرأس . فكأن "الغفور": الساتر لعبده برحمته، أو الساتر لذنوبه.

ونحو منه قولهم: "تغمدني برحمتك"; أي: ألبسني إياها. ومنه قيل: "غمد السيف"; لأنه يغمد فيه، أي: يدخل.

* * *

10- ومن صفاته: "الواسع".

وهو الغني. والسعة: الغنى. قال الله [: لينفق ذو سعة من سعته أي] : يعط من سعته.

* * *

11- ومن صفاته: "البارئ".

ومعنى "البارئ": الخالق. يقال: برأ الله الخلق يبرؤهم.

و"البرية": الخلق. وأكثر العرب والقراء: على ترك همزها; لكثرة ما جرت على الألسنة. وهي "فعيلة" بمعنى "مفعولة".

ومن الناس من يزعم: أنها مأخوذة من "بريت العود".

ومنهم من يزعم: أنها من "البرى"، وهو: التراب أي: خلق من التراب. وقالوا: لذلك لم يهمز. [ ص: 16 ] وقد بينت هذا في كتاب "القراءات" وذكرت موضع الأخبار منه.

* * *

12- ومثل البارئ: "الذارئ".

وهو: الخالق. يقال: ذرأ الله الخلق. وقال: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا أي: خلقنا. و "الذرية" منه; لأنها خلق الله من الرجل.

وأكثر القراء والعرب: على ترك همزها; لكثرة ما يتكلم بها.

ومنهم من يزعم: أنها من "ذروت" أو "ذريت".

* * *

13- ومن صفاته ما جاء على "فعيل" بمعنى "فاعل"; نحو: "قدير" بمعنى "قادر"، و"بصير" بمعنى "باصر"، و"سميع" بمعنى "سامع"، و"حفيظ" بمعنى "حافظ" و"بديء" بمعنى: "بادئ الخلق"، و"شهيد" بمعنى "شاهد"، و"عليم" بمعنى "عالم"، و"رقيب" بمعنى "راقب" - وهو: الحافظ - و"كفيل" بمعنى "كافل"، و"خبير" بمعنى "خابر"، و"حكيم" بمعنى "حاكم"، و"مجيد" بمعنى "ماجد" وهو: الشريف.

* * *

14- ومن صفاته ما جاء على "فعيل" بمعنى "مفعل"; نحو: [ ص: 17 ] "بصير" بمعنى "مبصر"، و "بديع الخلق" بمعنى "مبدع الخلق". كما قالوا: "سميع"; بمعنى مسمع. قال عمرو بن معديكرب:


أمن ريحانة الداعي السميع



و"عذاب أليم" أي: مؤلم، و"ضرب وجيع" أي: موجع.

[ومنه] : إن الله كان على كل شيء حسيبا ; أي: كافيا. من قولك: "أحسبني هذا الشيء"، أي: كفاني . و"الله حسيبي وحسيبك" أي: كافينا; أي: يكون حكما بيننا كافيا. قال الشاعر:


ونقفي وليد الحي: إن كان جائعا ...     ونحسبه: إن كان ليس بجائع



أي: نعطيه ما يكفيه، حتى يقول: حسبي.

وقال بعض المفسرين -في قوله: إن الله كان على كل شيء حسيبا -: أي محاسبا. وهو -على هذا التأويل- في مذهب "جليس" و "أكيل" و "شريب" و "نديم" و "قعيد".

* * *

15- ومن صفاته ما جاء على "فعيل": لا يكون منها غير لفظها; نحو: [ ص: 18 ] "قريب" و"جليل" و"حليم" و"عظيم" و"كبير" و"كريم" -وهو الصفوح عن الذنوب- و"وكيل" وهو الكفيل. قال: والله على ما نقول وكيل وكفى بالله وكيلا وتوكل عليه ; أي: اجعله كافلك، واعتمد على كفالته لك. ووكيل الرجل في ماله هو الذي كفله له، وقام به.

* * *

16 - ومن صفاته: "الودود".

وفيه قولان. يقال: هو "فعول" بمعنى "مفعول"; كما يقال: رجل هيوب; أي مهيب، يراد به: مودود.

ويقال: هو "فعول" بمعنى "فاعل" كقولك: غفور; بمعنى غافر. أي: يود عباده الصالحين.

وقد تأتي الصفة بالفعل لله ولعبده، فيقال: "العبد شكور لله" أي: يشكر نعمه. و "الله شكور للعبد" أي: يشكر له عمله. و "العبد تواب إلى الله من الذنب"، و "الله تواب عليه".

* * *

17- و "كبرياء الله": شرفه. وهو من "تكبر": إذا أعلا نفسه. [ ص: 19 ]

18- و "جد الله": عظمته. ومنه قوله: تعالى جد ربنا .

ومنه يقال في افتتاح الصلاة: "تبارك اسمك، وتعالى جدك" .

يقال: جد الرجل في صدور الناس وفي عيونهم، إذا عظم. ومنه قول أنس: "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جد فينا" ; أي: عظم.

19- و "مجد الله": شرفه، وكرمه.

20- و "جبروته": تجبره; أي تعظمه.

21- و "ملكوته": ملكه. ويقال: دار ملكه.

وزيدت التاء فيهما، كما زيدت في "رهبوت" و "رحموت". تقول العرب: "رهبوت خير من رحموت"; أي: [أن] ترهب خير من أن ترحم.

* * *

22- و "فضل الله": عطاؤه. وكذلك "منه" هو: عطاؤه. يقال: الله ذو من عظيم. ومنه قوله: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ; أي أعط أو أمسك. وقوله: ولا تمنن تستكثر ; أي: لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثر مما أعطيت.

* * *

23- و "حمد الله": الثناء عليه بصفاته الحسنى. و "شكره": [ ص: 20 ] الثناء عليه بنعمه وإحسانه. تقول: "حمدت الرجل": إذا أثنيت عليه بكرم وحسب وشجاعة: وأشباه ذلك; و "شكرت له": إذا أثنيت عليه بمعروف أولاكه.

وقد يوضع الحمد موضع الشكر. ولا يوضع الشكر موضع الحمد.

* * *

24- و "أسماء الله الحسنى": الرحمن، والرحيم، والغفور، والشكور; وأشباه ذلك.

* * *

25- والإلحاد في أسمائه: [الجور عن الحق والعدول عنه، وذكر] اللات والعزى، وأشباه ذلك.

* * *

26- و "مثله الأعلى" لا إله إلا الله. ومعنى المثل -ها هنا- معنى الصفة; أي: هذه صفته. وهي أعلى من كل صفة: إذ كانت لا تكون إلا له.

ومثل هذا -مما المثل فيه بمعنى الصفة- قوله في صفة أصحاب رسوله: ذلك مثلهم في التوراة ; أي: صفتهم. وقوله: مثل الجنة التي وعد المتقون ; أي: صفتها. وقد بينت هذا في كتاب "المشكل" .

التالي السابق


الخدمات العلمية