الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          أحكام لبس الحرير والذهب 1915 - مسألة : ولباس المرأة الحرير والذهب في الصلاة وغيرها : حلال ، على أنه قد اختلف في ذلك ، فلم يجز ذلك قوم لهن - : كما روينا من طريق أحمد بن شعيب حدثنا أبو بكر بن علي المروزي نا شريح بن يونس نا هشيم عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك " أن امرأة سألت ابن عمر عن الحرير فقال لها ابن عمر : من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم نا ابن أبي شيبة نا عبيد بن سعيد عن شعبة عن خليفة بن كعب أبي ذبيان قال : سمعت عبد الله بن الزبير يخطب يقول " ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير فإن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن أيوب السختياني عن ابن سيرين أن أبا هريرة كان يقول لابنته " لا تلبسي الذهب فإني أخاف عليك حر اللهب " .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن مبارك - هو ابن فاضلة - عن الحسن أنه كره الذهب للنساء - واحتج أهل هذه المقالة بخبر من طريق الحسن { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يعني النساء - أهلكهن الأحمران الذهب والزعفران } وهذا مرسل لا حجة فيه [ ص: 241 ] وبخبر رويناه من طريق عبد الرزاق بن معمر عن الزهري { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى على عائشة قلابين من فضة ملونين بذهب فأمرها أن تلقيهما وتجعل قلابين من فضة وتصفرهما بالزعفران } وهذا مرسل ولا حجة في مرسل .

                                                                                                                                                                                          وبخبر رويناه من طريق شعبة ، وسفيان ، والمعتمر بن سليمان ، وجرير كلهم عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش عن امرأته عن أخت حذيفة قالت : { خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا معشر النساء أما لكن في الفضة ما تحلين ، أما إنه ليس من امرأة تلبس ذهبا تظهره إلا عذبت به } وهذا عن امرأة ربعي - وهي مجهولة .

                                                                                                                                                                                          ولقد كان يلزم المالكيين والحنفيين الآخذين برواية امرأة أبي إسحاق عند أم ولد زيد بن أرقم ، فحرموا به الحلال أن يقول بهذا الخبر ، وإلا فهم متناقضون .

                                                                                                                                                                                          وبخبر فيه ليث بن أبي سليم - وهو ضعيف - عن شهر بن حوشب - وهو مثله أو أسقط منه عن { أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى علي سوارين من ذهب وخواتم من ذهب فقال لي عليه الصلاة والسلام : أتحبين أن يسورك الله بسوارين من نار وخواتم من نار ؟ قالت : لا ، قال : فانزعي هذين ، أتعجز إحداكن أن تتخذ حلقتين أو تومتين من فضة ، ثم تلطخهما بعبير ، أو ورس أو زعفران } .

                                                                                                                                                                                          وخبر آخر - فيه : محمود بن عمرو الأنصاري عن شهر : أن أسماء بنت يزيد بن السكن حدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها مثلها من النار يوم القيامة ، وأيما امرأة جعلت في أذنها خرصا من ذهب جعله الله في أذنها من النار يوم القيامة } .

                                                                                                                                                                                          ومحمود بن عمرو ضعيف وآخر - من طريق أبي زيد عن { أبي هريرة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاءته امرأة عليها سواران من ذهب ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : سواران من نار ؟ فقالت : ما ترى في طوق من ذهب ، قال : طوق من نار ؟ قالت : فما ترى في قرطين من ذهب ؟ قال : قرطان من نار } وأبو زيد مجهول [ ص: 242 ] وبخبر صحيح - رويناه من طريق أحمد بن شعيب أخبرني الربيع بن سليمان بن داود نا إسحاق بن بكر حدثني أبي عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير { عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى عليها مسكتي ذهب ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أخبرك بما هو أحسن من هذا لو نزعت هذا وجعلت مسكتين من ورق ، ثم صفرتهما بزعفران كانتا حسنتين } .

                                                                                                                                                                                          وهذا الخبر حجة لنا ، لأنه ليس في هذا الخبر : أنه صلى الله عليه وسلم نهاها عن مسكتي الذهب ، إنما فيه : أنه عليه الصلاة والسلام اختار لها غيره - ونحن نقول بهذا .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا بخبر رويناه من طريق أبي داود نا عبد الله بن مسلمة - هو القعنبي - نا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن أسيد بن أبي أسيد البراد عن نافع عن ابن عباس عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من أحب أن يحلق جبينه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب ، ومن أحب أن يطوق جبينه طوقا من نار فليطوقه طوقا من ذهب ، ومن أحب أن يسور جبينه بسوار من نار فليسوره سوارا من ذهب ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا مجمل يجب أن يخص منه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { إن الذهب حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها } .

                                                                                                                                                                                          لأنه أقل معان منه ومستثنى بعض ما فيه وذكروا - ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب نا وهب بن بيان نا ابن وهب نا عمرو بن الحارث أن أبا عشانة حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يخبر { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يمنع أهله الحلية والحرير ، ويقول : إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوهما في الدنيا } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أبو عشانة غير مشهور بالنقل - ثم لو صح لكان عاما للرجال والنساء يخصه الخبر الذي فيه { أن الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها } .

                                                                                                                                                                                          وحديث آخر - من طريق أحمد بن شعيب أنا عبيد الله بن سعيد نا معاذ بن هشام - هو الدستوائي - نا أبي عن يحيى بن أبي كثير حدثني زيد - هو ابن سلام - عن [ ص: 243 ] أبي سلام - هو ممطور الحبشي - عن أبي أسماء الرحبي - هو عمرو بن مرثد - قال : إن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { جاءت ابنة هبيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدها فتخ - قال معاذ : كذا في كتاب أبي - أي خواتم كبار - فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضرب يديها فدخلت على فاطمة تشكو ذلك إليها ، فنزعت فاطمة سلسلة من ذهب في عنقها ، فقالت : هذه أهداها أبو حسن ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسلسلة في يدها ، فقال : أيسرك أن تقول الناس ابنة رسول الله وفي يدك سلسلة من نار - ثم خرج ولم يقعد ، فأرسلت فاطمة بالسلسلة إلى السوق فباعتها واشترت بثمنها غلاما - وذكر كلمة معناها : فأعتقته - فحدث بذلك صلى الله عليه وسلم فقال : الحمد لله الذي نجى فاطمة من النار } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدي بنت هبيرة فليس فيه : أنه عليه الصلاة والسلام إنما ضربها من أجل الخواتم ، ولا فيه أيضا : أن تلك الخواتم كانت من ذهب .

                                                                                                                                                                                          ومن زاد هذين المعنيين في الخبر فقد كذب بلا شك ، وقفا ما لا علم له به ، وما لم يخبر به راوي الخبر ، وهذا حرام بحت ، وقد يمكن أن يكون عليه الصلاة والسلام ضرب يديها لأنها أبرزت عن ذراعيها ما لا يحل لها إبرازه ، أو لغير ذلك مما هو عليه الصلاة والسلام أعلم به

                                                                                                                                                                                          وأما قوله { أيسرك أن يقول الناس ابنة رسول الله وفي يدك سلسلة من نار } فظاهر اللفظ الذي ليس يفهم منه سواه أنه عليه الصلاة والسلام إنما أنكر إمساكها إياها بيدها ، ليس في لفظ الخبر نص بغير هذا ، ولا دليل عليه ، وليس فيه أنه عليه الصلاة والسلام نهاها عن لباسها ولا عن تملكها ، هذا لا شك فيه .

                                                                                                                                                                                          وقد يمكن أنه عليه الصلاة والسلام علم أنها لم تزكها وكانت مما تجب فيه الزكاة كما قال عز وجل : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } .

                                                                                                                                                                                          والله أعلم لأي وجه أنكر كون السلسلة في يدها - رضي الله عنها - إلا أنه ليس فيه [ ص: 244 ] ألبتة تحريم لباسها لها ، بل فيه نصا : أنه عليه الصلاة والسلام أباح لها ملكها يقينا لا شك فيه ، لأنه جوز بيعها للسلسلة ، وجوز للمشتري لها منها شراؤها ، وأما إمساكها باليد الذي في هذا الخبر إنكاره فقد نسخ بيقين لا شك فيه ، لإيجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة في الذهب وإباحته عليه الصلاة والسلام بيع الذهب بالذهب مثلا بمثل ، وزنا بوزن ، وإباحته عليه الصلاة والسلام بيع قلادة الذهب التي أصيبت بخيبر بعد أن أمر بنزع الخرز عنها ، وبيع الذهب بالذهب مثلا بمثل ، ولم يحرم بيع القلادة التي فيها الذهب ، ولا ابتياعها ولا أمر بكسرها .

                                                                                                                                                                                          ولا خلاف في أن إيجاب الزكاة في الذهب وإباحة بيعه بالذهب مثلا بمثل باق إلى يوم القيامة لم ينسخ .

                                                                                                                                                                                          وأما قوله عليه الصلاة والسلام إذ بلغه بيع فاطمة - رضي الله عنها - السلسلة الذهب وابتياعها بثمنها غلاما فأعتقته { الحمد لله الذي أنقذ فاطمة من النار } .

                                                                                                                                                                                          فالذي لا شك فيه ، فهو أنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما رويناه من طريق مسلم نا قتيبة بن سعد نا الليث هو ابن سعد - عن ابن الهاد عن عمر بن علي بن الحسين عن سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال { من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من النار حتى فرجه بفرجه } .

                                                                                                                                                                                          فنحن على يقين من أن الله تعالى أنقذها من النار بعتقها للغلام

                                                                                                                                                                                          ومن ادعى أنه إنما أنقذها من النار ببيعها السلسلة فقد قفا ما لا علم له به ، وقال ما لا دليل له عليه ، ولا برهان عنده بصحته ، وما ليس في الخبر منه نص ، ولا دليل إلا بالظن الذي هو أكذب الحديث .

                                                                                                                                                                                          وقد جاء في كراهة مس حلي الذهب أثر صحيح - : كما روينا من طريق أبي داود نا ابن نفيل - هو عبد الله بن محمد بن نفيل - نا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن { عائشة أم المؤمنين قالت قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلية من عند النجاشي أهداها له فيها خاتم من ذهب فيه فص حبشي قالت : فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعود معرضا أو [ ص: 245 ] ببعض أصابعه ، ثم دعا أمامة بنت أبي العاص ابنة زينب فقال : تحلي بهذا يا بنية } .

                                                                                                                                                                                          فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كره مس خاتم الذهب فلعله كرهه لفاطمة أيضا ، ومع ذلك حلاه أمامة بنت أبي العاص .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : والحاكم على كل ذلك هو ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا عمرو بن علي نا يحيى - هو ابن سعيد القطان - ويزيد - هو ابن زريع - ومعتمر - هو ابن سليمان التيمي - وبشر بن المفضل قالوا كلهم : نا عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى الأشعري " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { إن الله أحل لإناث أمتي الحرير والذهب وحرمه على ذكورها } .

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا : من طريق حماد بن سلمة ، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، وأبي معاوية الضرير ، وحماد بن مسعدة كلهم عن عبيد الله بن عمر بإسناده ، إلا أنهم اقتصروا على ذكر الحرير فقط إلا حماد بن سلمة فإنه ذكر : الحرير والذهب .

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا : من طريق سعيد بن أبي عروبة ، ومعمر ، وكلاهما عن أيوب السختياني عن نافع بإسناده وذكر الحرير والذهب وهو أثر صحيح ; لأن سعيد بن أبي هند ثقة مشهور روى عنه نافع وموسى بن ميسرة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي داود نا أحمد بن حنبل نا يعقوب هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - نا أبي عن ابن إسحاق قال : إن نافعا مولى ابن عمر حدثني عن عبد الله بن عمر قال : إنه { سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب ، وما مس الورس ، أو الزعفران ، من الثياب ، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من معصفر ، أو حذاء ، أو حلي ، أو سراويل ، أو قميص ، أو خف } فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها جميع الحلي ، ولو كان الذهب حراما عليهن لبينه عليه الصلاة والسلام بلا شك ، فإذ لم ينص على منعه ، فهذا حلال لهن - .

                                                                                                                                                                                          وبالله تعالى التوفيق - وبهذا تقول جماعة من السلف - : روينا من طريق حماد بن سلمة ، وقتادة ، قال قتادة عن علي بن عبد الله البارقي ، وقال حماد عن عقبة بن وساج ، كلاهما عن ابن عمر أنهما سألاه عن الحرير والذهب ؟ فقال : يكرهان للرجال ولا يكرهان للنساء

                                                                                                                                                                                          [ ص: 246 ] ومن طريق شعبة عن سليمان بن أبي المغيرة البزار عن سعيد بن جبير قال : رأى حذيفة صبيانا عليهم قمص حرير فنزعه عن الغلمان ، وأمر بنزعه عنهم ، وتركه على الجواري .

                                                                                                                                                                                          وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، وأبي سليمان وأصحابه

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية