الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم )

                          هذه الآيات في أحكام الأيمان ، وهي عامة وخاصة والثاني هو حلف الرجل ألا يقرب امرأته وخص باسم الإيلاء في عرف الشرع كما سيأتي ، فبين الآيات وما قبلها وما بعدها تناسب بهذا الاعتبار .

                          [ ص: 290 ] ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ) العرضة - بالضم كالغرفة - لها معان أظهرها هنا اثنان ، أحدهما : أن تكون بمعنى المانع المعترض دون الشيء; أي : لا تجعلوا الله تعالى مانعا بينكم وبين عمل ؛ بأن تحلفوا به على تركه فتتركوه تعظيما لاسمه ، ويؤيد هذا المعنى ما رواه ابن جرير في سبب نزول الآية ، وهو حلف أبي بكر رضي الله عنه على ترك الإنفاق على ( مسطح ) بعد أن خاض في قصة الإفك ، وفيه نزل : ( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ) ( 24 : 22 ) الآية ، ويؤيده أيضا أحاديث في الصحيحين وغيرهما منها قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ) ) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( والله، إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ) ) وفي حديث عائشة عند ابن ماجه وابن جرير قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ( من حلف على يمين قطيعة رحم أو معصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه ) ) وفي هذا المعنى أحاديث أخرى ، ذلك أن الإنسان يسرع إلى لسانه الحلف أنه لا يفعل كذا وقد يكون خيرا ، وليفعلن كذا وقد يكون شرا ، والله تعالى لا يرضى بأن يكون اسمه حجابا دون الخير ، أو محضاء للشر ، فنهى عن ذلك ، وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بوجوب تحري الخير والأحسن وإن حلف على غيره فليكفر عن يمينه بما هو منصوص في سورة المائدة .

                          والمعنى الثاني للعرضة ما يعرض للشيء أن ما ينصب ليعرض له الشيء كالهدف للسهام ، يقال : فلان عرضة للناس إذا كانوا يقعون فيه ويعرضون له بالمكروه ، قال الشاعر :


                          وإن تتركوا رهط الفدوكس عصبة يتامى أيامى عرضة للقبائل



                          ويقال : جعلته عرضة لكذا; أي : نصبته له فكان معروضا ومعرضا له، يكثر وروده عليه ، وقال الشاعر :


                          طلقتهن وما الطلاق بسبة     إن النساء لعرضة التطليق



                          والمعنى على هذا الوجه لا تكثروا الحلف بالله تعالى ، فالذي يجعل الله عرضة لأيمانه هو كالحلاف في قوله تعالى : ( ولا تطع كل حلاف مهين ) ( 68 : 10 ) فكثير الحلف حليف المهانة وقرينها ، وقد ذكر تعالى في هذه الآيات صفات أخرى ذميمة نهى عن أهلها وبدأها بالخلاف بعدما تقدم : ( هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم ) ( 68 : 11 - 13 ) فالحلاف يعد في مقدمة هؤلاء الأشرار ، ومن أكثر الحلف قلت مهابته وكثر حنثه واتهم بالكذب ، ولا يكون الحلاف إلا كذابا ، فهو على إهانته لاسم الله تعالى يفوته ما يريد من قبول قوله وتصديقه ، فالآية الكريمة ترشدنا إلى ترك الحلف بالله [ ص: 291 ] تعالى إلا عند الحاجة إلى ذلك . وهذا الوجه أظهر من الذي سبقه ، والعرضة بهذا المعنى أكثر استعمالا . وكانت العرب تتمدح بقلة الحلف وحفظ الأيمان ، قال الشاعر :


                          قليل الألايا حافظ ليمينه     وإن سبقت منه الألية برت



                          الألايا : جمع ألية وهي اليمين كقضية وقضايا ، وإنك لتجد كثيرا من أهل الدين لا يحفظون من أيمانهم ما كان يحفظ أهل الشرك في الجاهلية ، فأين هم من قول الإمام الشافعي : ما حلفت بالله صادقا ولا كاذبا ؟ وقال الأستاذ الإمام : من مذام كثرة الحلف أنه يقلل ثقة الإنسان بنفسه ، وثقة الناس به ، فهو يشعر بأنه لا يصدق فيحلف ، ولهذا وصفه الله تعالى بالمهين ، وكثيرا ما يعرض نفسه للخطأ إذا حلف على المستقبل ، ثم إنه لا يكون إلا قليل الخشية والتعظيم لله تعالى لا يهمه إلا أن يرضى الناس ويكون موثوقا به عندهم ، فتعريض اسم الله تعالى للحلف بدون ضرورة ولا حاجة ينشأ عن فقد هيبة الله وإجلاله من النفس ، فإن الناس يتعلمون كثرة الحلف من أمهاتهم ، ومن الولدان الذين يتربون معهم وهم صغار . فيتعودون عدم احترام اسم الله تعالى .

                          قال الأستاذ الإمام بعد تقرير هذا المعنى : وقد نجد هذا الحلف فاشيا حتى في المشتغلين بعلم الدين ، ذلك أن علم الدين أصبح صناعة لفظية لا أثر لها في القلوب ولا في الأعمال ، وقد حدثني بعضهم حديثا أربع مرات وفي كل مرة كان يحلف عليه ويكذب فيه بما يزيد فيه وينقص منه .

                          وقوله تعالى : ( أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ) على الوجه الأول بيان للأيمان لأنها بمعنى المحلوف عليه; أي : لا تجعلوه مانعا لما حلفتم على تركه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس ، بل إذا حلف أحدكم على ترك البر أو التقوى أو الإصلاح فليكفر عن يمينه وليفعل البر والتقوى والإصلاح ، فلا عذر لأحد في ترك ذلك ، ولا يرضى الله تعالى أن يكون اسمه مانعا منه ، وأما على الوجه الثاني فهو لتعليل النهي; أي : لا تجعلوه تعالى معرضا لأيمانكم لأجل البر والتقوى والإصلاح ، فإن كثير الحلف لا يكون أهلا لذلك ؛ لما تقدم من كونه يكون مهينا ، غير معظم لله تعالى ، وعرضة للكذب والحنث ، وغير موثوق بقوله ، فأنى يرضاه الناس مصلحا بينهم ؟ والمصلح مرب ومؤدب وحاكم مطاع بالاختيار . ثم قال : ( والله سميع عليم ) أي : سميع لما تلفظون به من الحلف وغيره ، عليم بما يترتب على كثرة الحلف وبغيره من أعمالكم فعليكم أن تراقبوه وتتذكروا عند داعية كل قول وعمل أنه سميع لأقوالكم عليم بأفعالكم ، لعلكم تقفون عند حدود هدايته لكم فتكونون من المفلحين ، وإلا كنتم من الخاسرين .

                          هذا الختم للآية يتضمن الوعيد على كثرة الحلف ، فإذا دخل فيه ما يجري في الكلام [ ص: 292 ] من قصد وروية كقول الإنسان : أي والله ، لا والله : وعد هذا مما يؤاخذ عليه ويجري فيه الحكم السابق كان الحرج عظيما ، وقد رفع الله هذا الحرج بقوله : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) فاللغو : أن يقع الكلام حشوا غير مقصود به معناه ، فهو يقول : إن هذه الألفاظ التي تسبق إلى اللسان عادة ولا يقصد بها عقد اليمين لغو من القول لا تعد أيمانا حقيقية ، فلا يؤاخذكم الله تعالى بها بفرض الكفارة عليها ولا بالعقاب ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) بأن تقصدوا جعل اسمه الكريم عرضة للابتذال ، أو مانعا لصالح الأعمال ، فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ، فالقول الحشو الذي لا أثر له في القلب ، ولا شأن له في العمل ، مما يعفو عنه ، ولا يعاقب عليه ( والله غفور حليم ) يغفر لعبده ما يلم به مما لا يفسد أخلاقه وأعماله ، ولا يتعجل بالعقوبة على هذا اللمم الذي يضعف العبد عن التوقي منه; ولذلك لم يكلف عباده ما يشق عليهم فيما لم تقصده قلوبهم ولم تتعمده نفوسهم; لأنه مما لا يدخل تحت سلطة الاختيار ، وقد ذكر بعض الفقهاء للغو اليمين غير هذا المعنى المتبادر ووضعوا لذلك أحكاما ذكرها المفسرون ولا حاجة إليها ، وما قلناه هو المتبادر المأثور عن جمهور السلف .

                          بعد بيان هذه الأحكام في الأيمان العامة انتقل إلى حكم اليمين الخاصة فقال : ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) إلخ ، فالإيلاء من المرأة : أن يحلف الرجل أنه لا يقربها ، وهو مما يكون من الرجال عند المغاضبة والغيظ ، وفيه امتهان للمرأة وهضم لحقها وإظهار لعدم المبالاة بها ، فترك المقاربة الخاصة المعلومة ضرارا معصية ، والحلف عليه حلف على ما لا يرضي الله تعالى به لما فيه من ترك التواد والتراحم بين الزوجين وما يترتب على ذلك من المفاسد في أنفسهما وفي عيالهما وأقاربهما ، والظاهر أن حكم هذا الإيلاء ( ( الحلف ) ) يدخل في معنى الآية السابقة على الوجه الأول من الوجهين اللذين أوردناهما ، وهو أنه يجب على المؤلي أن يحنث ويكفر عن يمينه ، ولكنه إذا لم يفعل هذا الواجب لم يكن آثما في نفسه فقط ، فيقال : حسبه ما يلقى من جزاء إثمه ، بل يكون بإثمه هاضما لحق امرأته ، ولا يبيح له العدل هذا الهضم والظلم ، ولذلك أنزل الله فيه هذا الحكم ، وهو التربص مدة أربعة أشهر ، وقد قيل : إن هذه هي المدة التي لا يشق على المرأة البعد فيها عن الرجل ، وهي كافية لتروي الرجل في أمره ورجوعه إلى رشده ( فإن فاءوا ) أي : رجعوا إلى نسائهم بأن حنثوا في اليمين وقاربوهن في أثناء هذه المدة أو آخرها ( فإن الله غفور رحيم ) يغفر لهم ما سلف برحمته الواسعة ؛ لأن الفيئة توبة في حقهم ( وإن عزموا الطلاق ) أي : صمموا قصده وعزموا على ألا يعودوا إلى ملامسة نسائهم ( فإن الله سميع عليم ) أي : فليراقبوا الله تعالى عالمين أنه سميع لإيلائهم وطلاقهم عليم بنيتهم فيه ، فإن كانوا يريدون به إيذاء [ ص: 293 ] النساء ومضارتهن فهو يتولى عقابهم ، وإن كان لهم عذر شرعي بأن كان الباعث على الإيلاء تربية النساء لأجل إقامة حدود الله ، وعلى الطلاق اليأس من إمكان المعاشرة بالمعروف ، فهو يغفر لهم . والمعنى أن من حلف على ترك غشيان امرأته فلا يجوز له أن يتربص أكثر من أربعة أشهر; فإن تاب وعاد قبل انقضائها لم يكن عليه إثم ، وإن أتمها تعين عليه أحد الأمرين : الفيئة والرجوع إلى المعاشرة الزوجية أو الطلاق ، وعليه أن يراقب الله تعالى فيما يختاره منهما ، فإن لم يطلق هو بالقول كان مطلقا بالفعل; أي : أنها تطلق منه بعد انتهاء المدة رغم أنفه منعا للضرار ، وقيل ترفع أمرها إلى الحاكم فيطلق عليه ، والمسألة خلافية في هذا ، ولكن لا خلاف في عدم جواز بقائها على عصمته وعدم إباحة مضارتها ، وقد فضل الله تعالى الفيئة على الطلاق إذ جعل جزاء الفيئة المغفرة والرحمة ، وهدى إلى مراقبته في العزم على الطلاق ، وذكر المؤلي بسمعه تعالى لما يقول وعلمه بما يسره في نفسه ويقصده من عمله .

                          هذا حكم الإيلاء من المرأة إذا أطلقه الزوج فلم يذكر زمنا ، أو قال : لا أقربك مدة كذا وذكر أكثر من أربعة أشهر ، فإن ذكر مدة دون أربعة أشهر فلا يلزمه شيء إذا أتمها وفي الأربعة خلاف ، وقد عدى الإيلاء هنا بـ ( من ) لما فيه من معنى المفارقة والانفصال ، وهو من البلاغة والإيجاز بمكان ، ويقال في غيره ألى وآلى وائتلى أن يفعل كذا; أي : حلف ، وصار الإيلاء حقيقة شرعية في الحلف المذكور .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية