الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 124 ]

                          مواضع التقديم والتأخير - النفي

                          فصل

                          التقديم والتأخير في النفي

                          116- وإذ قد عرفت هذه المسائل في الاستفهام فهذه مسائل في النفي .

                          إذا قلت : ما فعلت ، كنت نفيت عنك فعلا لم يثبت أنه مفعول . وإذا قلت : ما أنا فعلت . كنت نفيت عنك فعلا يثبت أنه مفعول .

                          تفسير ذلك: أنك إذا قلت : ما قلت هذا . كنت نفيت أن تكون قد قلت ذاك . وكنت نوظرت في شيء لم يثبت أنه مقول ؟

                          وإذا قلت: " ما أنا قلت هذا " كنت نفيت أن تكون القائل له ، وكانت المناظرة في شيء ثبت أنه مقول . وكذلك إذا قلت : ما ضربت زيدا . كنت نفيت عنك ضربه، ولم يجب أن يكون قد ضرب بل يجوز أن يكون ضربه غيرك وأن لا يكون قد ضرب أصلا . وإذا قلت : ما أنا ضربت زيدا : لم تقله إلا وزيد مضروب، وكان القصد أن تنفي أن تكون أنت الضارب.

                          ومن أجل ذلك صلح في الوجه الأول أن يكون المنفي عاما كقولك : " ما قلت شعرا قط " وما أكلت اليوم شيئا، وما رأيت أحدا من الناس ، ولم يصلح في الوجه الثاني، فكان خلفا أن تقول : ما أنا قلت شعرا قط، وما أنا أكلت اليوم شيئا، وما أنا رأيت أحدا من الناس . وذلك أنه يقتضي المحال، وهو أن يكون هاهنا إنسان قد قال كل شعر في الدنيا، وأكل كل شيء يؤكل، ورأى كل أحد من الناس . فنفيت أن تكونه .

                          [ ص: 125 ]

                          117- ومما هو مثال بين في أن تقديم الاسم يقتضي وجود الفعل قوله :


                          وما أنا أسقمت جسمي به ولا أنا أضرمت في القلب نارا



                          المعنى : كما لا يخفي، على أن السقم ثابت موجود وليس القصد بالنفي إليه، ولكن إلى أن يكون هو الجالب له، ويكون قد جره إلى نفسه.

                          ومثله في الوضوح قوله :


                          وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله



                          الشعر مقول على القطع والنفي لأن يكون هو وحده القائل له.

                          118- وهاهنا أمران يرتفع معهما الشك في وجوب هذا الفرق، ويصير العلم به كالضرورة.

                          أحدهما أنه يصح لك أن تقول : ما قلت هذا ولا قاله أحد من الناس ، وما ضربت زيدا، ولا ضربه أحد سواي ، ولا يصح ذلك في الوجه الآخر . فلو قلت : ما أنا قلت هذا ولا قاله أحد من الناس ، وما أنا ضربت زيدا ولا ضربه أحد سواي، كان خلفا من القول، وكان في التناقض بمنزلة أن تقول : لست الضارب زيدا أمس ، فتثبت أنه قد ضرب [ ص: 126 ] ثم تقول من بعده : وما ضربه أحد من الناس، ولست القائل ذلك . فتثبت أنه قد قيل، ثم تجيء فتقول : وما قاله أحد من الناس.

                          والثاني من الأمرين أنك تقول : ما ضربت إلا زيدا، فيكون كلاما مستقيما، ولو قلت : ما أنا ضربت إلا زيدا، كان لغوا من القول، وذلك لأن نقض النفي بإلا يقتضي أن تكون ضربت زيدا - وتقديمك ضميرك وإيلاؤه حرف النفي يقتضي نفي أن تكون ضربته فهما يتدافعان. فاعرفه .

                          تقديم المفعول وتأخيره في النفي

                          ويجيء لك هذا الفرق على وجهه في تقديم المفعول وتأخيره . فإذا قلت : " ما ضربت زيدا " فقدمت الفعل كان المعنى أنك قد نفيت أن يكون قد وقع ضرب منك على زيد، ولم تعرض في أمر غيره لنفي ولا إثبات، وتركته مبهما محتملا .

                          وإذا قلت : " ما زيدا ضربت " فقدمت المفعول كان المعنى على أن ضربا وقع منك على إنسان، وظن أن ذلك الإنسان زيد، فنفيت أن يكون إياه .

                          فلك أن تقول في الوجه الأول : " ما ضربت زيدا ولا أحدا من الناس "، وليس لك ذلك في الوجه الثاني. فلو قلت : " ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس " كان فاسدا على ما مضى في الفاعل .

                          [ ص: 127 ]

                          120- ومما ينبغي أن تعلمه أنه يصح لك أن تقول : " ما ضربت زيدا " ولكني أكرمته فتعقب الفعل المنفي بإثبات فعل هو ضده، ولا يصح أن تقول : " ما زيدا ضربت ولكني أكرمته " وذاك أنك لم ترد أن تقول : لم يكن الفعل هذا ولكن ذاك، ولكنك أردت أنه لم يكن المفعول هذا ولكن ذاك . فالواجب إذن أن تقول : " ما زيدا ضربت ولكن عمرا " .

                          وحكم الجار مع المجرور في جميع ما ذكرنا حكم المنصوب ، فإذا قلت : " ما أمرتك بهذا " كان المعنى على نفي أن تكون قد أمرته بذلك، ولم يجب أن تكون قد أمرته بشيء آخر - وإذا قلت : ما بهذا أمرتك، كنت قد أمرته بشيء غيره .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية