الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( فرع ) ذكر البرزلي عن بعضهم في مصحف كتب من دواة ثم بعد الفراغ وجد فيها فأرة ميتة أنه إن تبين أن الفأرة كانت في الدواة منذ بدأ فالواجب أن لا يقرأ فيه ويدفن ، وإن كان لا يتيقن ذلك فيحمل على الطهارة قال البرزلي ولا يتحتم دفنه بل إن أراد محاه في موضع طاهر فيدفنه ، أو يحرقه كما فعل عثمان رضي الله تعالى عنه ، قال : والصواب عندي إن أمكن غسل أوراقه مثل أن تكون في رق والمداد لا يثبت مع الغسل أن يغسل وينتفع به ، ويحمل على الطهارة كما إذا صبغ بمتنجس وغسل وبقي لون الصبغ ، وإن كان لا يمكن غسله فيحتمل أن يفعل به ما تقدم من دفنه ، أو حرقه ونحوه ، أو ينتفع به كذلك كما أجيز لبس الثوب النجس في غير الصلاة والاستصباح بالزيت النجس وذكر الله طاهر لا يدركه شيء من الواقعات واستدل عليها في موضع آخر بمسألة بناء المسجد بالماء النجس المتقدمة وقوله لا نجس يقتضي المنع من الانتفاع بالنجس مطلقا .

                                                                                                                            أما أكله والتداوي به في باطن الجسد فالاتفاق على تحريمه كما نقله المصنف في التوضيح في كتاب الشرب عن الباجي وغيره وصرح بذلك ابن ناجي والجزولي وغيرهما لكن حكى الزناتي فيما إذا استهلكت الخمر في دواء بالطبخ أو بالتركيب حتى يذهب عينها ويموت ريحها وقضت التجربة بإنجاح ذلك الدواء قولين بالجواز والمنع قال : وإن لم تقض التجربة بإنجاحه لم يجز باتفاق انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) والظاهر المنع مطلقا ، وأما التداوي بالخمر والنجس في ظاهر الجسد فحكى المصنف في التوضيح وغيره فيه قولين المشهور منهما أنه لا يجوز وقال ابن ناجي - رحمه الله تعالى - في شرح الرسالة وأفتى غير واحد من شيوخنا بحرمته قال : ومن هذا المعنى غسل القرحة بالبول إذا أنقاها بعد ذلك بالماء وقال ابن مرزوق هذا مقتضى إطلاق المصنف وهو المشهور وقال ابن الحاجب في باب الشرب والصحيح لا يجوز التداوي بما فيه خمر ولا بنجس قال في التوضيح الباجي وغيره إنما هذا الخلاف في ظاهر الجسد يعني ويمنع في الباطن اتفاقا وما عبر عنه المصنف بالصحيح عبر عنه ابن شاس بالمشهور وقال ابن عبد السلام وأجاز مالك لمن عثر أن يبول على عثرته وسيأتي للمصنف - رحمه الله - في باب الشرب أنه لا يجوز التداوي بالخمر ولو طلاء وقال في المقدمات لا يجوز التداوي بشرب الخمر ولا بشرب شيء من النجاسات فأما التداوي بذلك من غير شرب فذلك مكروه بالخمر ومباح بالنجاسات ولم يحك في ذلك خلافا وله نحو ذلك في سماع أشهب من كتاب الجامع في شرح مسألة غسل القرحة بالبول ، أو بالخمر

                                                                                                                            قال فيها مالك [ ص: 120 ] إذا أنقى ذلك بالماء بعد فنعم ، وإني لأكره الخمر في كل شيء - الدواء وغيره تعمدا إلى ما حرم الله - تعالى - في كتابه وذكر نجاسته - يتداوى به ولقد بلغني أن هذه الأشياء يدخلها من يريد الطعن في الدين والغمص عليه ، قيل : له فالبول عندك أخف ؟ قال : نعم وعلى ذلك اقتصر الباجي أيضا في جامع المنتقى ونقل عنه ابن عرفة خلاف ذلك ونصه الباجي المشهور منع التداوي بالخمر في ظاهر الجسد وفي نجس غيره قولان لابن سحنون ومالك وحكى الجزولي - رحمه الله تعالى - في ذلك ثلاثة أقوال : بالجواز مطلقا ، وبالمنع مطلقا ، والتفصيل بين الخمر وغيرها وقال : إنه المشهور وذكر أنه جاء في الحديث أن الخمر تطفئ حرارة النار واقتصر الزناتي على القول بالجواز وحكاه ابن عبد الوهاب قائلا : إذ ليس فيه أكثر من التلطخ بنجاسة يقدر على إزالتها بعد انقضاء الغرض منها وحكاية ابن عرفة وغيره الخلاف في ذلك أظهر ممن لم يحك فيه خلافا فقد نقل سند في كتاب الطهارة عن شيخه الطرطوشي أنه قال : أصل مذهب ابن الماجشون أنه لا ينتفع بشيء من النجاسات في وجه من الوجوه حتى لو أراق إنسان خمرا في بالوعة فإن قصد بذلك دفع ما اجتمع فيها من كناسة لم يجز ذلك انتهى .

                                                                                                                            قال ابن مرزوق ومقتضى كلامه أنه لا يطعم الميتة لكلابه وهو خلاف المعروف من قول مالك وأصحابه وهو خلاف ما نص عليه الأبهري ; لأنه قال ينتفع بلحمها بأن يطعمه لكلابه ، وكذلك الخمر يصبها على نار يطفئها بها والمعروف من قول مالك وأصحابه أنه لا ينتفع بالخمر في شيء انتهى .

                                                                                                                            وانظر قوله : " لا ينتفع بها " هل هو على المنع ، أو الكراهة ؟ أما الكراهة فلا إشكال فيها لقول مالك المتقدم أكره الخمر في كل شيء بل الظاهر المنع إذا قصد مجرد الانتفاع بها ; لأن الشارع أمر بإراقتها ولم يأذن في إبقاء اليد عليها أيضا ، وأما لو قصد إراقتها وطفي النار بها ، أو كنس البالوعة بها ولا محذور في ذلك كما قاله الأبهري إلا على قول ابن الماجشون وفي سماع ابن القاسم من كتاب الصيد والذبائح في الطير يوضع بها الخمر فتشرب وتسكر لا بأس بأكلها ولم يتكلم على حكم الفعل ابتداء ونقله ابن عرفة - رحمه الله تعالى - في أواخر كتاب الصيد وقال بعده قلت : يريد ويكره صيده بها ; لأنه استعمال لها ولم يذكره ابن رشد انتهى . والظاهر المنع من ذلك لا الكراهة ; لأن الانتفاع بها محرم لما تقدم والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                            وأما إطعام الميتة لكلابه وهي في محلها فلا خلاف في جوازه ، وأما حملها لكلابه فقال في الموازية لا يحملها لكلابه وظاهر المدونة خلافه لقولها في كتاب البيوع : ولا يطبخ بعظام الميتة ولا يسخن بها الماء لوضوء ، أو عجين ولا بأس أن يوقد بها على طوب أو حجارة للجير وحمله على أن ذلك بعد الوقوع بعيد وعلى أنه وجدها مجتمعة فأطلق النار فيها أبعد ; لأن طبخ الطوب والجير لا يتصور إلا بترتيب وعمل وعلى ما في الموازية ففيه أيضا الانتفاع بالميتة فتستثنى هذه الصورة من عموم قوله لا نجس ، وكذلك جعل العذرة في الماء لسقي الزرع وتخليص الفضة بعظام الميتة كما تقدم من سماع ابن القاسم .

                                                                                                                            ومن ذلك أيضا ما تقدم عن سماع ابن القاسم في التبخر بلحوم السباع إذا لم تكن ذكيت لا بأس به إذا لم يكن دخانها يعلق بالثياب ، وإن كان يعلق فلا يعجبني ، وإطلاقه عدم الانتفاع بالنجس يقتضي المنع من بيع العذرة والزبل وهو المشهور كما سيأتي في البيوع ويقتضي أنه لا يجوز استعمال شحم الميتة في الوقيد ولا طلاء السفن ولا غير ذلك وهو المشهور كما صرح به في التوضيح وغيره ونقل في النوادر عن ابن الجهم والأبهري أنه لا بأس أن يوقد بشحم الميتة إذا تحفظ منه .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية