الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .

                          هذه الآيات الأربع في بيان سنن الله العامة في إهلاك أولئك الأقوام الذين قص على رسوله قصصهم وأمثالهم ، جاءت بعد ما تقدم من بيان عاقبتهم في الدنيا والآخرة وإنذار قومه - صلى الله عليه وسلم - بهم ، ما يجب عليه وعلى من آمن وتاب معه من الاستقامة والصلاح ، واجتناب أهل الظلم والفساد ، قال : - فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض - " لولا " تحضيضية بمعنى : هلا ، والقرون : الأمم والأقوام ، والقرن في اللغة كما في المصباح : " الجيل من الناس . قيل : ثمانون سنة ، وقيل : سبعون " أقول : ثم اشتهر تقديره بمائة سنة . والبقية من الشيء ما يبقى منه بعد ذهاب أكثره ، ومن الناس كذلك ، واستعمل في الخيار والأصلح والأنفع ، قيل : لأن الناس ينفقون في العادة أردأ ما عندهم وأقربه [ ص: 158 ] إلى التلف والفساد أولا ويستبقون الأجود فالأجود ، ونقول : لأن الأحياء يهلك منهم الأضعف فالأضعف أولا ويبقى الأقوى فالأقوى ، ومن هذا ما يعرف في علم الاجتماع بسنة الانتخاب الطبيعي ، وهو إفضاء تنازع الأحياء إلى بقاء الأمثل والأصلح ، كما ورد في المثل الذي ضربه الله للحق والباطل بقوله - تعالى - : - فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض - 13 : 17 ومن ثم يعبرون عن الخيار بالبقية ، يقولون : في الزوايا خبايا ، وفي الناس بقايا ، وبهذا فسرت الآية .

                          والمعنى : فهلا كان - أي وجد - من أولئك الأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم في الأرض ، جماعة أصحاب بقية من النهي والرأي والصلاح ينهونهم عن الفساد في الأرض ، وهو الظلم واتباع الهوى والشهوات التي تفسد عليهم أنفسهم ومصالحهم ، فيحول نهيهم إياهم دون هلاكهم ، فإن من سنتنا ألا نهلك قوما إلا إذا عم الفساد والظلم أكثرهم ، كما يأتي في الآية التالية : - إلا قليلا ممن أنجينا منهم - أي لم يكن فيهم بقية من هؤلاء العقلاء الأخيار ، الناهين عن المنكر ، الآمرين بالمعروف ، ولكن كان هنالك قليل من الذين أنجيناهم ، أو هم الذين أنجيناهم مع الرسل منهم ، وكانوا منبوذين لا يقبل نهيهم وأمرهم ، مهددين مع رسلهم بالطرد والإبعاد ، بعد الأذى والاضطهاد - واتبع الذين ظلموا - وهم الأكثرون منهم - ما أترفوا فيه - أي : ما رزقناهم وآتيناهم من أسباب الترف والنعيم فبطروا .

                          يقال : أترفته النعمة أي أبطرته وأفسدته ، والبطر : الطغيان في المرح وخفة النشاط والفرح - وكانوا مجرمين - أي : متلبسين بالإجرام الذي ولده الترف راسخين فيه ، فكان هو المسخر لعقولهم في ترجيح ما أعطوا من ذلك على اتباع الرسل .

                          روى ابن مردويه في تفسيره عن أبي بن كعب قال : أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أولو بقية وأحلام " والأشبه عندي أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الأحلام تفسيرا لا قرآنا . والمعنى : أن العقول السليمة الرشيدة كافية لفهم ما في دعوة الرسل عليهم السلام من الخير والصلاح ، لو لم يمنع من استعمال هدايتها الافتتان بالترف ، والتفنن في أنواعه ، بدلا من القصد والاعتدال فيه وشكر الله المنعم به عليه ، فالإتراف هو الباعث على الإسراف والفسوق والعصيان ، والظلم والإجرام يظهر في الكبراء والرؤساء ، ويسري بالتقليد في الدهماء ، فيكون سبب الهلاك باستئصال ، أو فقد الاستقلال ، وذلك قوله - تعالى - : - وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا - 17 :16 .

                          [ ص: 159 ] فهذا بيان لسنته - تعالى - في الأمم قديمها وحديثها ، ولا تغني عن شعوب الإفرنج معرفتهم بهذه السنة ومحاولة اتقائها لها ، فحكماؤهم وهم أولو البقية والأحلام الذين ينهونهم عن الفساد في الأرض ، يصرحون بأنهم سيهلكون كما هلك من قبلهم ، ولن تغني عنهم قوتهم ، بل تكون هي المهلكة لهم بأيديهم ، كما قال - تعالى - : - قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض - 6 : 65 فراجع تفسيرها .

                          ومن عجائب الجهل والغي ، أن متبعي الإتراف من شعوبنا يقلدون الإفرنج في الإسراف فيه دون ما به يرجو الإفرنج اتقاء الهلاك من فساده ، وهو القوة الحربية وفنون الصناعة ، فإذا كان فسق الإتراف يهلك الأمم القوية ، فكيف تبقى مع اتباعه وفساده الأمم الضعيفة ؟ وكيف يزول والمتبعون له هم الملوك والأمراء ، والزعماء والحكام ، والكتاب والخطباء ، وهم الأكثرون الظاهرون ، والناهون عن فسادهم الأقلون الخاملون ؟ ثم بين سنته - تعالى - في إهلاك الأمم وما يحول دونه بقوله :

                          - وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون
                          - أي وما كان من شأن ربك وسنته في الاجتماع البشري أن يهلك الأمم بظلم منه لها في حال كون أهلها مصلحين في الأرض . مجتنبين للفساد والظلم ، وإنما أهلكهم ويهلكهم بظلمهم وإفسادهم فيها ، كما ترى في الآيات العديدة من هذه السورة وغيرها .

                          وفي الآية وجه آخر ، وهو أنه ليس من سنته - تعالى - أن - يهلك القرى بظلم - يقع فيها - مع تفسير الظلم والشرك - - وأهلها مصلحون - في أعمالهم الاجتماعية والعمرانية ، وأحكامهم المدنية والتأديبية ، فلا يبخسون الحقوق كقوم شعيب ، ولا يرتكبون الفواحش ويقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر كقوم لوط ، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين كقوم هود ، ولا يذلون لمتكبر جبار يستعبد الضعفاء ، كقوم فرعون - بل لابد أن يضموا إلى الشرك الإفساد في الأعمال والأحكام ، وهو الظلم المدمر للعمران ، ويحتمل أن يراد أنه لا يهلكها بظلم قليل من أهلها لأنفسهم ، إذا كان الجمهور الأكبر منهم مصلحين في حل أعمالهم ومعاملاتهم للناس ، أخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير بن عبد الله قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن تفسير هذه الآية فقال : " وأهلها ينصف بعضهم بعضا ، وروي موقوفا على جرير - رضي الله عنه - فتنكير الظلم في هذا للتقليل والتحقير ، وفيما قبله للتعظيم ، وهو مأخوذ من قوله - تعالى - : - إن الشرك لظلم عظيم - 31 : 13 والآية تدل على أن إهلاك المصلحين ظلم فلذلك يتنزه الله عنه .

                          [ ص: 160 ] وذكر المفسرون في الوجه الثاني القول المشهور المعبر عن تجارب الناس ، وهو أن الأمم تبقى مع الكفر ، ولا تبقى مع الظلم ، والأوجه الثلاثة في الآية صحيحة ، ويجوز إرادتها كلها على القول بأن جميع ما يدل عليه الكلام مما شأن صاحبه أن يعلمه ولا يكون متعارضا في نفسه يصح أن يكون مرادا له ، وإن كان من المشترك أو كان بعضه حقيقة وبعضه مجازا ، ومن أركان بلاغة القرآن جمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل ، وأن يكون بعضها واضحا في هذه المعاني وبعضها خفيا يراد به أن يذهب الذهن والفكر فيه كل مذهب ، وهذا مما يتنافس فيه البلغاء .

                          - ولو شاء ربك - أيها الرسول الحريص على إيمان قومه ، الآسف على إعراض أكثرهم عن إجابة دعوته ، واتباع هدايته - لجعل الناس أمة واحدة - على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة لا رأي لهم فيه ولا اختيار ، وإذن لما كانوا هم هذا النوع من الخلق المسمى بالبشر وبنوع الإنسان ، بل لكانوا في حياتهم الاجتماعية كالنحل أو النمل ، وفي حياتهم الروحية كالملائكة مفطورين على اعتقاد الحق وطاعة الله - عز وجل - فلا يقع بينهم اختلاف ، ولكنه خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا ملهمين ، وعاملين بالاختيار وترجيح بعض الممكنات المتعارضة على بعض ، لا مجبورين ولا مضطرين ، وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار ، وقد كانوا في طور الطفولة النوعية في الحياة الفردية والزوجية والاجتماع البدوي الساذج أمة واحدة لا مثار للاختلاف بينهم ، ثم كثروا ودخلوا في طور الحياة الاجتماعية فظهر استعدادهم للاختلاف والتنازع فاختلفوا ، كما قال - تعالى - : - وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا - 10 : 19 في كل شيء بالتبع لاختلاف الاستعداد - ولا يزالون مختلفين - في كل شيء حتى الدين الذي شرعه الله لتكميل فطرتهم وإزالة الاختلاف بينهم - إلا من رحم ربك - منهم فاتفقوا على حكم كتاب الله فيهم ، وهو القطعي الدلالة منه الذي لا مجال للاختلاف فيه ، وعليه مدار جمع الكلمة ووحدة الأمة ، إذ الظني لا يكلفون الاتفاق على معناه ; لأنه موكول إلى الاجتهاد الذي لا يجب العمل به إلا على من ثبت عنده رجحانه ، وتقدم تفصيل وحدة البشر فاختلافهم فبعثة النبيين وإنزال الكتاب معهم للحكم بين الناس في الآية ( 2 : 213 ) وتفسيرها في الجزء الثاني من هذا التفسير ، - ولذلك خلقهم - أي ولذلك الذي دل عليه الكلام من مشيئته - تعالى - فيهم ، خلقهم مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم وشعورهم ، وما يتبع ذلك من إرادتهم واختيارهم في أعمالهم ، ومن ذلك الدين والإيمان والطاعة والعصيان ، وحكمته أن يكونوا مظهرا لأسرار خلقه المادية والمعنوية في الأجسام والأرواح وسننه في الأحياء ، وتعلق قدرته [ ص: 161 ] ومشيئته بخلق جميع الممكنات ، وبهذا كانوا خلفاء الأرض - وعلم آدم الأسماء كلها - 2 : 31 وقال الحسن وعطاء : خلقهم للاختلاف . وقال مجاهد وعكرمة : خلقهم للرحمة .

                          وقال ابن عباس : خلقهم فريقين : فريقا يرحم فلا يختلف ، وفريقا لا يرحم فيختلف ، فذلك قوله : - فمنهم شقي وسعيد - 105 وهذا أصح مما قبله لأنه جامع للقولين ، وفي معناه قول مالك بن أنس وقد سأله أشهب عن الآية فقال : خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير . انتهى . أي كان الاختلاف سبب دخول كل من الدارين ، وفي الرواية عن ابن عباس تقديم المعلول على العلة ، والمعقول المشروع عكسه ، فالترتيب في الجزاء أن يقال : فريق اتفقوا في الدين فجعلوا كتاب الله حكما بينهم فيما اختلفوا فيه ، فاجتمعت كلمتهم وكانوا أمة واحدة فرحمهم الله بوقايتهم من شر الاختلاف وغوائله في الدنيا ومن عذاب الآخرة ، وفريق اختلفوا فيه كما اختلفوا في مصالح الدنيا ومنافعها وسلطانها ، فكان بأسهم بينهم شديدا ، فذاقوا عقاب الاختلاف والشقاق في الدنيا ، وأعقبهم جزاءه في الآخرة فكانوا محرومين من رحمته بظلمهم لأنفسهم لا بظلم منه لهم : - وتمت كلمة ربك - التي قالها في غير المهتدين - لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين - أي من عالمي : الإنس والجن الذين لا يهتدون بما أرسل به رسله وأنزل معهم كتبه لهداية المكلفين والحكم بين المختلفين ، ففي سورة الم السجدة : - ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم - 32 : 13 الآية ، فهذا فريق السعير ، ومنه يعلم جزاء الفريق الآخر ، والمقام يقتضي الإنذار .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية