الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            كتاب الجنايات والقصاص والديات عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله فقد عصموا مني أموالهم وأنفسهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ، ولفظ الشيخين أمرت أن أقاتل الناس ، وزاد مسلم بعد قوله لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به .

                                                            [ ص: 179 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 179 ] كتاب الجنايات والقصاص والديات .

                                                            الحديث الأول .

                                                            عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله فقد عصموا مني دماءهم ، وأنفسهم ، وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله (فيه) فوائد .

                                                            (الأولى) أخرجه مسلم ، والنسائي من طريق يونس بن يزيد عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، وأخرجه مسلم ، وأصحاب السنن الأربعة من طريق الأعمش عن أبي صالح كلاهما عن أبي هريرة بلفظ أمرت أن أقاتل ، وأخرجه مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ أمرت أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي ، وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا الحديث ، وأخرجه الأئمة الخمسة من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستخلف أبو بكر الصديق بعده ، وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر الصديق كيف نقاتل الناس ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله [ ص: 180 ] الحديث وجعله النسائي في رواية له من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر عمر ، وأخرج الشيخان من طريق محمد بن زيد عن زيد عن عبد الله بن عمر عن ابن عمر مرفوعا أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوه عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله ، وزاد البخاري بعد قوله وأموالهم إلا بحق الإسلام .

                                                            (الثانية) أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمقاتلة الناس حتى يدخلوا في الإسلام فامتثل ذلك ، وأخبر عن نفسه لأنه لا يزال يفعله ، ولهذا سمي نبي الملحمة أي القتال ، وفيه أن الجهاد من أصول الدين التي يجب القيام بها فإن الأمر له أمر لجميع أمته إلا ما قام الدليل على اختصاصه به ، وفائدة توجيه الخطاب إليه أنه الداعي إلى الله تعالى ، والمبين عنه معنى ما أراد ، وعلى هذا جاء قوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن فافتتح الخطاب باسمه خصوصا ثم خاطبه وسائر أمته بالحكم عموما ، والله أعلم .

                                                            (الثالثة) اقتصر في هذه الرواية على أن غاية القتال قول (لا إله إلا الله) فظاهره الاكتفاء بذلك في حصول الإسلام ، وإن لم يضم إليه شيئا ، وبه قال بعض أصحابنا فقال يصير بذلك مسلما ، ويطالب بالشهادة الأخرى فإن أبى جعل مرتدا ، وخص بعضهم ذلك بالوثني والمعطل لأنه أقر بما كان يجحده ، وحكى إمام الحرمين ذلك عن المحققين أن من أتى من الشهادتين بكلمة تخالف معتقده حكم بإسلامه ، وإن أتى منهما بما يوافقه لم يحكم بإسلامه فقال في الوثني والمعطل ما تقدم ، وقال في اليهودي إذا قال محمد رسول الله حكم بإسلامه قال ، واختلفوا في أن اليهودي أو النصراني إذا اعترف بصلاة توافق ملتنا أو حكم يختص بشريعتنا هل يكون بذلك مسلما قال وميل معظم المحققين إلى كونه إسلاما ، وعن القاضي حسين في ضبطه أنه قال كل ما كفر المسلم بجحده كان الكافر المخالف له مسلما بعقده ثم إن كذب ما صدق به كان مرتدا ، وقال أصحاب هذه الطريقة إنما ورد هذا الحديث في العرب ، وكانوا عبدة أوثان لا يوحدون فاختص هذا الحكم بهم ، وبمن كان في مثل حالهم ، والذي عليه جمهور العلماء من أصحابنا وغيرهم أنه لا يصير مسلما إلا بنطقه بالشهادتين ، وأجابوا عن الحديث بأن فيه اختصارا ، وحذفا دل عليه قوله [ ص: 181 ] في الرواية الأخرى من حديث أبي هريرة أيضا ويؤمنوا بي وبما جئت به ، والحديث إذا جمعت طرقه تبين المراد منه ، وليس لنا أن نتمسك برواية ، ونترك بقية الروايات ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخص بذلك العرب ، ومن كان مثلهم بل ذكره شرعا عاما في حق كل أحد ، ويدل لذلك أيضا قوله في حديث ابن عمر ، وهو في الصحيحين كما تقدم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة واستغنى في هذه الرواية بذكر إحداها عن الأخرى لارتباطهما ، وشهرتهما ، وفسر الشافعي في بعض المواضع الإسلام بالشهادتين ، وبالبراءة من كل دين خالف الإسلام فأخذ بعضهم بظاهره ، واشترط ذلك ، وحمله أكثرهم على كافر يعترف بأصل رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام كقوم من اليهود يقولون إنه مرسل إلى العرب خاصة فهؤلاء لا بد في حقهم من البراءة بخلاف غيرهم ، وقد نص الشافعي في موضع آخر على هذا التفصيل .



                                                            (الرابعة) استدل بهذا الحديث وما كان مثله الكرامية ، وبعض المرجئة على أن الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب لأنه عليه الصلاة والسلام لم يعتبر سوى ذلك ، وجواب الجماعة عنه أنه إنما علقه بالقول لأنه الذي يظهر ، وترتب عليه الأحكام .

                                                            وأما الاعتقاد بالقلب فلا سبيل لنا إلى معرفته لكنه لا يصير في الباطن مسلما بدونه ، ولو اعترف لنا باعتقاده حكمنا بكفره ، ومن أقوى ما يرد به على هؤلاء إجماع الأمة على إكفار المنافقين ، وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين قال الله تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله إلى قوله وتزهق أنفسهم وهم كافرون ومما يرد عليهم قوله في الرواية الأخرى في صحيح مسلم ويؤمنوا بي وبما جئت به ، وأيضا فلفظ الرواية الأخرى في الصحيح حتى يشهدوا ، والشهادة لا بد فيها من مواطأة القلب للسان بدليل تكذيب الله تعالى للمنافقين في قولهم (نشهد إنك لرسول الله) .



                                                            (الخامسة) فيه حجة للشافعي والجمهور على أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر ، وذهب مالك وأحمد فيما حكاه عنهما الخطابي إلى أن توبة الزنديق ، وهو الذي ينكر الشرع جملة لا تقبل ، وبه قال بعض أصحابنا إن تاب مرة واحدة قبلت توبته ، وإن تكرر ذلك منه لم تقبل [ ص: 182 ] وقال بعضهم إن أسلم ابتداء من غير طلب منه ، وإلا قبل فهذه خمسة أوجه لأصحابنا ، والصحيح عندهم قبولها مطلقا كما تقدم .



                                                            (السادسة) حديث ابن عمر صريح في قتل تارك الصلاة ، ومانع الزكاة ، وهو كذلك في الجاحد لأنه كافر .

                                                            وأما تارك الصلاة كسلا فتقدم الخلاف فيه في أول كتاب الصلاة ، وأما تارك الزكاة بخلا فإنها تؤخذ منه قهرا فإن امتنع بالقتال قوتل ، وهو موافق لقوله تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ولهذا بوب البخاري على هذه الآية ، وأورد هذا الحديث لموافقته لها ، وقال في آية أخرى فإخوانكم في الدين وحكي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن قال ابن بطال فقام الدليل الواضح من هاتين الآيتين على أن من ترك الفرائض أو واحدة منها فلا يخلى سبيله ، وليس بأخ في الدين ، ولا يعصم دمه وماله قال ، ويشهد لذلك قوله عليه الصلاة والسلام فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها .

                                                            (السابعة) فيه أن الإسلام يعصم الدم والمال ، وفي معنى ذلك العرض ، وبهذا خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، وقوله (إلا بحقها) أي بحق الأنفس والأموال بأن يستحق النفس لكونها قتلت مكافئا لها عمدا عدوانا أو المال بطريق يقتضي ذلك فيؤخذ حينئذ ما استحق ، ويستثنى ذلك من عموم العصمة ، وقوله في رواية البخاري إلا بحق الإسلام لأنه مقتضاه وموجبه ، وتارة إلى الأنفس والأموال لتعلقه بها .

                                                            (الثامنة) قوله (وحسابهم على الله) أي فيما يستترون به ، ويخفونه دون ما يخلون به في الظاهر من الأحكام الواجبة فإن حكام المسلمين يقيمون ذلك عليهم ، وفيه أن الأحكام تجرى على الظاهر ، والله يتولى السرائر ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إني لم أؤمر أن أشق على قلوب الناس ولا عن بطونهم لما قال له خالد بن الوليد كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، وهو ثابت في الصحيح .

                                                            (التاسعة) قال النووي في قوله في رواية مسلم ويؤمنوا بي وبما جئت به فيه دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف أن الإنسان إذا [ ص: 183 ] اعتقد دين الإسلام اعتقادا جازما لا تردد فيه كفاه ذلك ، وهو مؤمن من الموحدين ، ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ، ومعرفة الله تعالى بها خلافا لمن أوجب ذلك ، وجعله شرطا في كونه من أهل القبلة ، وزعم أنه لا يكون له حكم المسلمين إلا به ، وهو قول كثير من المعتزلة وبعض أصحابنا المتكلمين ، وهو خطأ ظاهر فإن المراد التصديق الجازم ، وقد حصل ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به ، ولم يشترط المعرفة بالدليل ، وقد تظاهرت بهذا أحاديث في الصحيح يحصل مجموعها التواتر بأصلها والعلم القطعي انتهى .

                                                            (العاشرة) أورده المصنف رحمه الله في كتاب الجنايات لأمرين (أحدهما) دلالته على أن نفس المسلم معصومة فتكون مضمونة ، ويدخل في ذلك أحكام الجنايات ، وتفاصيلها معروفة (الثاني) دلالته على أن العصمة تزول بارتكاب المسلم ما يقتضي الشرع قتله به فلا يكون الجاني معصوما بالنسبة إلى ، ولي الدم ، وتفاصيل ذلك معروفة ، والله أعلم .

                                                            (الحادية عشرة) المقاتلة إلى غاية الإسلام يستثنى منه أهل الكتاب فإنهم يقاتلون إلى إحدى غايتين إما الإسلام أو بذل الجزية قال الله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .




                                                            الخدمات العلمية