الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير .

                          هاتان الآيتان في بقية العبرة بسنة الله - تعالى - في الأمم وأقوام الأنبياء - عليهم السلام - ذكر الله قوم خاتم النبيين وأمته أولا بأقوام الذين غلب عليهم الكفر والجحود فلم يؤمن إلا قليل منهم ، فوفاهم الله جزاء أعمالهم في الدنيا وسيوفيهم إياها في الآخرة ، فإن سنته في الدارين واحدة . وذكرهم في هاتين الآيتين بقوم موسى الذين آتاهم الكتاب فاختلفوا فيه ، وكلمته في تأخير جزائهم إلى الآخرة لأنهم لم يستحقوا عذاب الاستئصال في الدنيا ، وأن مثل الذين يختلفون من أمته في الكتاب كمثل هؤلاء . قال :

                          - ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه - أي : فاختلف فيه قومه من بعده بغيا بينهم [ ص: 135 ] وتنازعا على الرياسة ، فكانوا شيعا ، كل شيعة تنتحل مذهبا وتعادي من يخالفها فيه ، وإنما أوتوا الكتاب لجمع الكلمة ، وتقدم تفصيل إنزال الله الكتب على الأنبياء للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه في الآية ( 2 : 213 ) الجامعة - ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم - أي : في الدنيا بإهلاك البغاة المثيرين للاختلاف فيه بأهوائهم ، وإبقاء المعتصمين بالوحدة والاتفاق على هدايته ، كما أهلك الذين ردوا دعوة الرسل جحودا وعنادا ، والمراد بهذه الكلمة إنظارهم إلى يوم القيامة ، وتقدم مثل هذا التعليق بالكلمة في جميع المختلفين في ( 10 : 19 ) ثم فسرت في بني إسرائيل بقوله : - إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون - 10 : 93 ومثله في ( 45 : 17 ) وسيأتي تحقيق القول في الاختلاف في تفسير الآية 118 هنا - وإنهم لفي شك منه مريب - الظاهر أن هذا في قوم موسى وكتابهم التوراة ، أي : إنهم لمرتكسون في شك من أمر كتابهم موقع في الريب والاضطراب .

                          وذهب بعض كبار المفسرين إلى أنه في مشركي مكة وأمثالهم الذين شكوا في القرآن ، وهو خطأ ظاهر في اللفظ والمعنى والسياق ، وما في معنى الآية من السور الأخرى ، ومثلها في سورة حم السجدة - ( فصلت ) - بنصها ، وفي معناها من سورة الشورى ما يفسر الإجمال في هاتين الآيتين ويفصله ، فإنه بعد ذكر بعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن واختلاف البشر فيه وحكمه - تعالى - هو في الاختلاف قال : - شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب - 42 : 13 و 14 فهذه الآية الأخيرة تفسير لآيتي هود وحم السجدة ( فصلت ) فإن الذين أورثوا الكتاب من بعد من ذكر في الآيات هم اليهود والنصارى الذين جاءوا بعد أنبيائهم وقبل بعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وهؤلاء قد عرض لهم من الشك والريب في كتبهم ما لم يكن في عهد سلفهم ، فإن التوراة التي كتبها موسى - عليه السلام - قد فقدت في إحراق البابليين لهيكل سليمان كما بيناه مفصلا من قبل ، ولذلك قال الله - تعالى - في عيسى - عليه السلام - : - ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل - 3 : 48 فهو لم يأخذ التوراة من أيدي اليهود الذين زعموا أن عزرا كتبها بعد الرجوع من سبي بابل ، وإن كان يحتج عليهم بما كانوا يخالفونه مما حفظوه منها ، وقد اختلفوا في كتبهم وفي شرعهم إلى مذاهب ، وأما النصارى فكانوا أشد اختلافا في كتبهم ومذاهبهم كما فصلناه من قبل .

                          [ ص: 136 ] ومن الغفلة الشنيعة والتكلف البعيد أن يفسروا الكتاب في آية سورة الشورى مع هذا التفصيل فيها بالقرآن الذي وصف بأنه لا ريب فيه ، ويصفوا الذين أورثوه بأنهم في شك منه مريب ، ولا يصح أن يقال فيمن لم يؤمنوا به أورثوه ، وكذلك الذين لم يؤمنوا بموسى وبعيسى لا يقال : إنهم أورثوا التوراة والإنجيل ، وإنما يقال ورث الكتاب من آمن به سواء منهم من أحسن العمل ومن أساء ، كما قال - تعالى - : - ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله - 35 : 32 ولكن الذين أخطئوا في فهم الآيتين المجملتين في السورتين حملوا عليهما الآية المفصلة وجعلوا تفسيرهن واحدا .

                          - وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم - أي : وإن كل أولئك المختلفين فيه ، أو كل أحد منهم ، والله ليوفينهم ربك جزاء أعمالهم لا يظلم منهم أحدا ، - إنه بما يعملون خبير - لا يخفى عليه منه شيء ، فيترتب عليه بعض التوفية دون بعض .

                          وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر " وإن " بتخفيف النون مع إعمالها عمل الثقيلة اعتبارا للأصل ، و " لما " بالتخفيف على أن لامها موطئة للقسم أو فارقة وهي فاصلة بينها وبين اللام الداخلة على فعل القسم . وأما على قراءة تشديد " لما " وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة فهي بمعنى إلا ، وإن نافية ، قاله الجلال .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية