الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مع الملائكة عليهم السلام .

                          ذكر إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله - في 24 سورة من القرآن ، منها ما هو في قصته مع أبيه وقومه في وطنه مجملا ومفصلا على ما علمناه من سنة القرآن ، ومنها ما هو في بيان إمامته وكون ملته أساس دين الله - تعالى - على ألسنة رسله من عهده إلى خاتمهم - عليهم الصلاة والسلام - ومنها ما هو في بشارته بولديه إسماعيل فإسحاق - عليهما السلام - وما وعده الله له ولهما ولذريتهما ، وما هو خاص بإسماعيل وقومه العرب من بناء البيت الحرام وإسكانه هنالك ، ومنها ما هو في بشارة الملائكة إياه بإسحاق وإخباره بإهلاك قوم لوط ، ومنه هذه الآيات .

                          ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ( 69 ) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( 70 ) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( 71 ) قالت ياويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ( 72 ) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ( 73 ) .

                          [ ص: 106 ] هذه الآيات الخمس خاصة ببشارة الملائكة لإبراهيم وامرأته بإسحاق ويعقوب .

                          - ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى - خبر مؤكد بالقسم لغرابته عند العرب ، معطوف على قوله - تعالى - : ولقد أرسلنا نوحا : 25 أو على ما عطف عليه من أول السورة لا على ما قبله مباشرة من قصة صالح التي عطفت على قصة هود لتماثلهما ، والمراد بالرسل : جماعة من الملائكة اختلفت الرواية فيهم ، فعن عطاء أنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل - عليهم السلام - وعن محمد بن كعب القرظي أنهم جبريل وسبعة أملاك معه ، وقيل غير ذلك ، وهو مما لا يعلم إلا بتوقيف من الوحي ولا توقيف فيه . وستذكر البشرى بعد التحية والضيافة : - قالوا سلاما - أي نسلم عليك سلاما ، أو ذكروا هذا اللفظ - قال سلام - أي : أمركم سلام ، أو عليكم سلام ، قال المفسرون : إن الرفع أبلغ من النصب ; فقد حياهم بأحسن من تحيتهم ، أي على عادته ودأبه في إكرام الضيف وظن أنهم أضياف - فما لبث أن جاء بعجل حنيذ - أي : ما مكث وما أبطأ عن مجيئه إياهم بعجل سمين حنيذ : أي مشوي بالرضف وهي الحجارة المحمية - والمشوي عليها يكون أنظف من المشوي على النار وألذ طعما ، وقد اهتدى البشر إلى شي اللحم من صيد وغيره على الحجارة المحمية بحر الشمس قبل اهتدائهم لطبخه بالنار ، وفي سورة الذاريات بعد السلام : - فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون - 51 : 16 و 27 وهو نص في المبادرة إلى الإتيان به بدون مهلة كأنه كان مشويا معدا لمن يجيء من الضيف ، أو شوي عند وصولهم من غير تريث .

                          - فلما رأى أيديهم لا تصل إليه - أي لا تمتد إليه للتناول منه كما يمد الآكل يده إلى الطعام - نكرهم وأوجس منهم خيفة - نكر الشيء ( كعلم وتعب ) وأنكره ضد عرفه ، أي نكر ذلك منهم ووجده على غير ما يعهد من الضيف ، فإن الضيف لا يمتنع من طعام المضيف إلا لريبة أو قصد سيء ، وأحس في نفسه خيفة منهم وفزعا ، أو أدرك ذلك وأضمره إذ شعر أنهم ليسوا بشرا ، أو أنهم ربما كانوا من ملائكة العذاب والوجس ( كالوعد ) الصوت الخفي ، ويطلق على ما يعتري النفس من الشعور والخواطر عند الفزع - قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط - أي : قالوا وقد علموا ما يساور نفسه من الوجس : لا تخف فنحن لا نريد بك سوءا ، وإنما أرسلنا إلى قوم لوط لإهلاكهم ، ولوط ابن أخيه وأول من آمن به ، وكان مكانه من مهاجره قريبا من مكانه ، وفي سورة الحجر أنه صارحهم بخوفه ووجله منهم ، فطمأنوه بأنهم مبشرون له بغلام عليم 15 : 53 وكذا في سورة الذاريات - قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم 51 : 28 وفيها أنه بعد البشارة له سألهم عن خطبهم وما جاءوا لأجله فأخبروه فجادلهم فيه كما يذكر هنا مجملا .

                          - وامرأته قائمة فضحكت - وكانت امرأة إبراهيم في تلك الحال قائمة أي : واقفة - [ ص: 107 ] ولعل قيامها كان للخدمة - فضحكت . قيل : تعجبا مما رأت وسمعت ، وقيل : سرور بالأمن من الخوف أو بقرب عذاب قوم لوط لكراهتها لسيرتهم الخبيثة ، وقيل : تعجبا من البشارة بالولد ، وهذا يكون أولى إن كانت البشارة قبل الضحك ، والظاهر أنها بعده لعطفها عليه بالفاء وهو - فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب - وزعم الفراء أن فيه تقديما وتأخيرا ، ولا مقتضى ولا مصوغ له ; لأن لضحكها أسباب ذكرنا بعضها وزاد غيرنا عليها ، على أن بشارتها كانت بالتبع لبشارة بعلها وهو المقصود بالذات ، وصرح به في سور : الحجر ، والصافات ، والذاريات خاصا به ، أي بشرناها بالتبع لتبشيره بإسحاق ، ومن بعد إسحاق يعقوب ، يعني أنه سيكون لإسحاق ولد أيضا . قرأ ابن عامر وحمزة وحفص ( يعقوب ) منصوبا بفعل مقدر تفسره قرينة الكلام كوهبناها من وراء إسحاق يعقوب ، كما قال : - ووهبنا له إسحاق ويعقوب - 6 : 84 وقرأه الباقون مرفوعا بالابتداء ، والتقدير : ويعقوب من وراء إسحاق ، وروي عن ابن عباس أن الوراء ولد الولد .

                          - قالت يا ويلتا - أصلها يا ويلي ( كما قال : يا عجبا بدل : يا عجبي ) وهي كلمة تقال عندما يفجأ الإنسان أمر مهم من بلية أو فجيعة أو فضيحة تعجبا منه أو استكبارا له أو شكوى منه ، وأكثر ما يجري على ألسنة النساء قديما وحديثا ، ونساء مصر يقلن : " يا دهوتي " - أألد وأنا عجوز - عقيم لا يلد مثلها - وهذا بعلي - وأشارت إليه - كما ترون - شيخا - كبيرا لا يولد لمثله - إن هذا - الذي بشرتمونا به ، - لشيء عجيب - في سفر التكوين أن إبراهيم كان عمره يومئذ مائة سنة ، وأن زوجه سارة هذه كانت ابنة تسعين سنة ومثلها لا يلد ، بل الغالب أن ينقطع حيض المرأة في سن الخمسين فيبطل استعدادها للحمل والولادة ، على أنها كانت عقيما كما في سورة الذاريات . فأما الرجال فلا يزال يوجد في المعمرين منهم من يولد له في سن المائة وما بعدها ولكنه نادر . وقد حدثتنا صحف الأخبار عن رجل تركي منهم اسمه ( زارو أغا ) مات في هذا العام ( 1353 هـ ) عن مائة وخمسة وثلاثين عاما . ثم عن رجل عربي في العراق قريب من عمره لا يزال حيا وقد ولد لكل منهما بعد المائة ، ثم عن رجل عربي سوري من مجدل زوين التابع لقضاء صور اسمه : السيد حسين هاشم عمره 125 سنة بشهادة المحكمة الشرعية ومختار بلدته ، وهو لا يزال منتصب القامة جيد الصحة قوي الذاكرة ، وقد تزوج أولا وهو في سن العشرين ، وثانيا وهو في العشرين بعد المائة ، رزق من الأولى 14 ولدا منهم 12 ذكرا ومن الثانية ولدا واحدا ، ويعيش عيشة فطرية إسلامية .

                          والظاهر أن سارة علمت من حال بعلها أنه بعد ولادة هاجر لابنه إسماعيل بزمن قريب [ ص: 108 ] أو بعيد فقد الاستعداد لإتيان النساء ، أو كانت تعتقد كما يعتقد أن مثله في تلك السن لا يولد له ، فقد قال هو للملائكة : - أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون - 15 : 54 ويكفي في خرق العادة أن يكون من قيلها هي ولذلك أنكروا عليها .

                          - قالوا أتعجبين من أمر الله - هذا الاستفهام إنكار لاستفهامها التعجبي ، أي لا ينبغي لك أن تعجبي من شيء هو من أمر الله الذي لا يعجزه شيء ، - إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون - 36 : 82 وإنما يصح العجب من وقوع ما يخالف سنته - تعالى - في خلقه ، إذا لم يكن واضع السنن ونظام الأسباب هو الذي أراد أن يستثني منها واقعة يجعلها من آياته ; لحكمة من حكمه في عباده : - رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت - هذه جملة دعائية استجيبت ، فمعناه الذي فسره الزمان إلى الآن : رحمة الله الخاصة وبركاته الكثيرة الواسعة عليكم يا معشر أهل بيت النبوة والرسالة ، تتصل وتتسلسل في نسلكم وذريتكم إلى يوم القيامة ، فلا محل للعجب أن يكون من آياته - تعالى - أن يهب رسوله وخليله الولد منكما في كبركما وشيخوختكما ، فما هي بأول آياته له وقد نجاه من نار قومه الظالمين ، وآواه إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين .

                          وهذه الرحمة والبركات والسلام عليهم ، إرث أو تجديد لما هبط به نوح من السلام والبركات عليه " وعلى أمم ممن معه " كما تقدم في الآية ( 48 ) - إنه حميد مجيد - إنه - جل جلاله - مستوجب لأنواع الثناء والحمد ، حقيق بأسنى غايات المجد ، وبتأثيلهما لأهل البيت . والجملة تعليل لما قبلها ، وأصل المجد في اللغة أن تقع إبل في أرض واسعة المرعى ، يقال : مجدت تمجد ( من باب نصر ) مجدا ومجادة ، وأمجدها الراعي ، والمجد في البيوت والأنساب ما يعده الرجل من سعة كرم آبائه وكثرة نوالهم ، ووصف الله كتابه بالمجيد كما وصف نفسه به لسعة هداية كتابه ، وسعة كرمه وفضله على عباده ، ومن هذه الآية أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء الصلاة الذي أمر به أمته عقب التشهد الأخير من الصلاة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية