الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم )

                          أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير ، والبيهقي في سننه من طريق زيد بن رومان ، عن عروة قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جحش - وهو ابن عمته - في ثمانية من المهاجرين في رجب مقفله من بدر الأولى ، وكتب له كتابا يعلمه فيه أين يسير ، فقال : ( ( اخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك فانظر فيه فما أمرتك به فامض له ، ولا تستكره أحدا من أصحابك على الذهاب معك ) ) فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه : أن امض حتى تنزل نخلة فآتنا من أخبار قريش بما اتصل إليك منهم ، ولم يأمره بقتال . فقال لأصحابه - وكانوا ثمانية - حين قرأ الكتاب : سمعا وطاعة ، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي فأنا ماض [ ص: 248 ] لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن كره ذلك منكم فليرجع ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهاني أن أستكره منكم أحدا ، فمضى القوم معه حتى كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه فتخلفا عليه يطلبانه ، ومضى القوم حتى نزلوا نخلة ، فمر بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله ، وأشرف لهم عكاشة بن محصن - وكان قد حلق رأسه - فلما رأوه حليقا قالوا : عمار، ليس عليكم منهم بأس ، وأتمر بهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان آخر يوم من جمادى ، فقالوا : لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ، ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة الحرم فليمتنعن منكم ، فأجمع القوم على قتلهم ، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل وأعجزهم ، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم : ( ( والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ) ) فأوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا ، فلما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال : سقط في أيديهم ( أي ندموا ) وظنوا أن قد هلكوا ، وعنفهم إخوانهم من المسلمين ، وقالت قريش حين بلغهم أمر هؤلاء : قد سفك محمد الدم الحرام ، وأخذ المال وأسر الرجال ، واستحل الشهر الحرام ، فنزل قوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام ) الآية ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - العير وفدى الأسيرين . وفي رواية الزهري عن عروة : ( ( أنه لما بلغ كفار قريش تلك الفعلة ركب وفد منهم حتى قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أيحل القتال في الشهر الحرام ) ) ؟ فنزلت . هكذا أورد القصة بعض المفسرين ، وقوله في صدرها : ( ( في رجب إلخ ) ) يختلف مع قوله بعد : ( ( وكان آخر يوم من جمادى ) ) وذكروا أن هذه القصة كانت قبل غزوة بدر بشهرين وبعد الهجرة بسبعة عشر شهرا .

                          وأخرجها السيوطي في أسباب النزول عمن ذكر ما عدا ابن إسحاق من حديث جندب بن عبد الله مختصرة ، وقال : إنهم قتلوا ابن الحضرمي ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى ، وقال في آخرها : فقال بعضهم إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر ، فأنزل الله : ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا ) الآية ، ومشى على ذلك في التفسير .

                          وقال الأستاذ الإمام : إن كلامه يفيد أن الآيات نزلت متفرقة ، والصواب أن الآيات الثلاث نزلت في قصة واحدة مرة واحدة .

                          ( كتب عليكم القتال ) إلخ . قالوا : إن هذه أول آية فرض فيها القتال ، وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة ، وقد كان القتال ممنوعا فأذن فيه بعد الهجرة بقوله تعالى في سورة [ ص: 249 ] الحج : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) ( 22 : 39 ) الآيات . ثم كتب في هذه السنة ، ونقل عن ابن عمر وعطاء : أن القتال كان واجبا في ذلك الوقت على الصحابة فقط وأن هذا هو المراد من الآية . وذهب السلف إلى أن القتال مندوب إليه واستدلوا بقوله تعالى في سورة النساء : ( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ) ( 4 : 95 ) وهو مردود بأن القاعدين هنا هم أولو الضرر العاجزون عن القتال لما نطقت به الآية ، وأما القاعدون كراهة في القتال فحكمهم في سورة ( براءة ) وقيل : إن القتال يجب في العمر مرة واحدة ، وقد انعقد الإجماع بعد هذا الخلاف الذي كان في القرن الثاني على أن الجهاد من فروض الكفاية إلا أن يدخل العدو بلاد المسلمين فاتحا فيكون فرض عين . أما قوله تعالى : ( وهو كره لكم ) فقد عده بعضهم من المشكلات إذ كيف يكره المؤمنون ما يكلفهم الله تعالى إياه وفيه سعادتهم ؟ ! وحمله جمهور المفسرين على الكره الطبيعي والمشقة ، وهذا لا ينافي الرضى به والرغبة في القيام بأعبائه من حيث إنه مما أمر الله به وجعل فيه المصلحة لحفظ دينه كما قال في آيات الإذن به من سورة الحج : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد ) ( 22 : 40 ) إلخ .

                          وقوله : ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) معناه أن من الأشياء المكروهة طبعا ما تأتونه وأنتم ترجون نفعه وخيره كشرب الدواء البشع المر ، ومن الأشياء المستلذة طبعا ما يتوقع فاعلها الضر والأذى في نفسه أو من جهة منازعة الناس له فيه .

                          هذا تقرير ما قاله المفسرون ، ولكن الأستاذ الإمام قال : إنه لا يظهر على هذا معنى وجيه لقوله عز وجل : ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) لأن هذا مما يعلمه الناس ويتوقعونه لا مما هداهم الكتاب إليه بعد أن كانوا غائبين عنه ، والصواب أن ( عسى ) في مثل هذا المقام تفيد أن ما دخلت عليه من شأنه أن يقع ، لا أنه مرجو من المتكلم ومتوقع ، وأن الكره محمول على غير ما حملوه عليه ، ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث والعرب في قتال مستحر ، ونزاع مستمر ، وكان الغزو للسلب والنهب من أعظم أسباب الكسب ، وكان الصحابة قد ألفوا القتال واعتادوه ومرنوا عليه ، فلم يكن عندهم مكروها بالطبع ولكنهم كانوا يرون أنفسهم فئة قليلة حملت هذا الدين واهتدت به ، ويخشون أن يقاوموا المشركين بالقوة فيهلكوا، ويضيع الحق الذي هدوا إليه وكلفوا إقامته والدعوة إليه ، وثم وجه آخر : وهو أن كرههم للقتال لم يكن خوفا على أنفسهم أن يبيدوا، ولا على الحق الذي حملوه أن يضيع ، وإنما هو حب السلام والرحمة بالناس التي أودعها القرآن في نفوسهم ، وثبتها الإيمان في قلوبهم ، واختيار مصابرة الكفار ومجادلتهم بالدليل والبرهان دون مجالدتهم بالسيف والسنان ، رجاء أن يدخلوا في السلم كافة ويتركوا خطوات الشيطان ، وعلى هذا الوجه [ ص: 250 ] يظهر من معنى ( وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) ما لا يظهر في المعنى الذي قبله ويفيد قوله : ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) أن قياسكم جميع الكافرين على أنفسكم ، وتوقعكم أن يزين لهم من الإيمان ما زين لكم ، هو من الأقيسة الباطلة، فإن الاستعداد في الناس يتفاوت تفاوتا عظيما ، فمنهم من ساءت خليقته وأحاطت به خطيئته ، حتى لم يبق لروح الحق منفذ إلى عقله ، ولا لحب الخير طريق إلى قلبه ، فلا تنفع فيه الدعوة ، ولا ترجى له الهداية ومثل هذا الفريق في الأمة كمثل الدم الفاسد في الجسم إذا لم يخرج منه فإنه يفسده ، ولم يأمر الله بقتالهم إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم ، فلا يقاسون على من سلمت فطرتهم وحسنت سريرتهم حتى كان وقوعهم في الباطل جهلا منهم بالحق ، وإصابتهم بعض الشر لعدم التمييز بينه وبين الخير ، وأنتم أيها المؤمنون لا تعلمون كنه استعداد الناس ولا ما يكون من أثره في مستقبلهم ، وإنما الله هو الذي يعلم ذلك فامتثلوا أمره .

                          وأما معناه على الوجه الأول مما أورد الأستاذ الإمام فهو أن سنة الله تعالى قد مضت بأن ينصر الحق وحزبه على الباطل وأحزابه ما استمسك حزب الله بحقهم فأقاموه ودعوا إليه ودافعوا عنه ، وأن القعود عن المدافعة ضعف في الحق يغري به أعداءه ويطمعهم بالتنكيل بحزبه ، حتى يتألبوا عليهم ويوقعوا بهم ، وإنه قد سبق في علم الله تعالى أن الله لا بد أن يظهر دينه وينصر أهله على قلتهم ، ويخذل أهل الباطل على كثرتهم ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) ( 2 : 249 ) وقد علم الله كل هذا وأنتم لا تعلمون ما خبأ لكم في غيبه ، وستجدونه في امتثال أمره ، والعمل بما يرشدكم إليه في كتابه .

                          ومن عجيب ما ترى العينان نقل المفسرين بعضهم عن بعض أن المراد بقوله تعالى : ( وعسى أن تكرهوا شيئا ) جميع التكاليف التي أمروا بها ، وبقوله تعالى : ( وعسى أن تحبوا شيئا ) جميع ما نهوا عنه . ولا يوجد مسلم على وجه الأرض يكره طبعه وتستثقل نفسه جميع ما أمره الله تعالى به ، وتحب جميع ما نهاه عنه ، ولكن التقليد يذهل المرء عن نفسه وما تحب وتكره ، وعما يراه ويعرفه في الناس بالمشاهدة والاختبار; فليتأمل القارئ الفرق بين هذا القول الذي يعرف بطلانه من نفسه وبين ما قاله الأستاذ الإمام ، يعرف قيمة استعمال العقل فيما خلق له من غير تقييد بالتقليد، وكم ترك الأول للآخر .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية