الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله : ( والعرش والكرسي حق ) .

ش : كما بين تعالى في كتابه ، قال تعالى : ذو العرش المجيد [ البروج : 15 ] . رفيع الدرجات ذو العرش [ غافر : 15 ] . الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] ثم استوى على العرش [ الأعراف : 54 ] في غير ما آية من القرآن : لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ المؤمنون : 116 ] . الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم [ النمل : 26 ] . الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به [ غافر : 7 ] . ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية [ الحاقة : 17 ] . وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم [ الزمر : 75 ] .

وفي دعاء الكرب المروي في الصحيح : لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا هو رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم .

[ ص: 365 ] وروى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تدرون كم بين السماء والأرض ؟ قال : قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : بينهما مسيرة خمسمائة سنة ، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، والله فوق ذلك ، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء . ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه . وروى أبو داود وغيره ، بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من حديث الأطيط ، أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن عرشه على سماواته كهاكذا ، وقال بأصابعه ، مثل القبة " الحديث .

[ ص: 366 ] وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة ، وأوسط الجنة ، وفوقه عرش الرحمن . يروى وفوقه بالنصب على الظرفية ، وبالرفع على الابتداء ، أي : وسقفه .

وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة ، وربما سموه : الفلك الأطلس ، والفلك التاسع ! وهذا ليس بصحيح ، لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : فإن الناس يصعقون ، فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور .

والعرش في اللغة : عبارة عن السرير الذي للملك ، كما قال تعالى عن بلقيس : ولها عرش عظيم [ النمل : 23 ] . وليس هو فلكا ، ولا تفهم منه العرب ذلك ، والقرآن إنما نزل بلغة العرب ، فهو : سرير ذو قوائم تحمله الملائكة ، وهو كالقبة على العالم ، وهو سقف [ ص: 367 ] المخلوقات . فمن شعر أمية بن أبي الصلت :


مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا     بالبناء العالي الذي بهر النا
س وسوى فوق السماء سريرا شرجعا لا يناله بصر الع ي     ن ترى حوله الملائك صورا

الصور هنا : جمع : أصور ، وهو : المائل العنق لنظره إلى العلو . والشرجع : هو العالي المنيف . والسرير : هو العرش في اللغة .

ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، الذي عرض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته :


شهدت بأن وعد الله حق     وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف     وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد     ملائكة الإله مسومينا

[ ص: 368 ] ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة .

وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش ، إن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام . ورواه ابن أبي حاتم ولفظه : " مخفق الطير سبعمائة عام " .

وأما من حرف كلام الله ، وجعل العرش عبارة عن الملك ، كيف يصنع بقوله تعالى : ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية [ الحاقة : 17 ] . وقوله : وكان عرشه على الماء [ هود : 7 ] . أيقول : ويحمل ملكه يومئذ ثمانية ؟ ! وكان ملكه على الماء ! ويكون موسى عليه السلام آخذا من قوائم الملك ؟ ! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول ؟ !

وأما الكرسي فقال تعالى : وسع كرسيه السماوات والأرض [ البقرة : 255 ] .

وقد قيل : هو العرش ، والصحيح أنه غيره ، نقل ذلك عن ابن [ ص: 369 ] عباس رضي الله عنهما وغيره . روى ابن أبي شيبة في كتاب " صفة العرش " ، والحاكم في " مستدركه " ، وقال : إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، في قوله تعالى : وسع كرسيه السماوات والأرض [ البقرة : 255 ] أنه قال : الكرسي موضع القدمين ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى . وقد روي مرفوعا ، والصواب أنه موقوف على ابن عباس .

[ ص: 370 ] وقال السدي : السماوات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش . وقال ابن جرير : قال أبو ذر رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض .

[ ص: 371 ] وقيل : كرسيه : علمه ، وينسب إلى ابن عباس والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة ، كما تقدم . ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن . والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم ، كما قيل في العرش . وإنما هو - كما قال غير واحد من السلف : بين يدي العرش كالمرقاة إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية