الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين ) .

                          هذه الآيات الثلاث إرشاد للعقلاء الذين يفهمون مما قبلها أن سنة الله تعالى في نوع الإنسان ، أن خلقه مستعدا للإيمان والكفر ، والخير والشر ، وله الاختيار لنفسه ، وأن الرسول الحريص على إيمان الناس لا يقدر على جعلهم مؤمنين ، لأن الله القادر على ذلك لم يشأ أن يجعلهم أمة واحدة على الإيمان وحده ولا على الكفر وحده ، وإنما جعل مدار سعادتهم على حسن استعمال عقولهم باختيارهم في التمييز بين الكفر والإيمان ، وما الرسول إلا بشير ونذير يبين الطريق المستقيم للعقل المستنير ، فالدين مساعد للعقل على حسن الاختيار إذا أحسن النظر والتفكير ، والله تعالى يأمر بهما بمثل قوله : (

                          قل انظروا ماذا في السماوات والأرض )
                          أي قل أيها الرسول لقومك الذين تحرص على هداهم : انظروا بعيون أبصاركم وبصائركم ماذا في السماوات والأرض من آيات الله البينات ، والنظام الدقيق والعجيب في شمسها وقمرها ، وكواكبها ونجومها ، وبروجها ومنازلها ، وليلها ونهارها ، وسحابها ومطرها ، وهوائها ومائها ، وبحارها وأنهارها ، وأشجارها وثمارها ، وأنواع حيواناتها البرية والبحرية ، ففي كل هذه الأشياء التي تبصرون آيات كثيرة تدل على علم خالقها وقدرته ، ومشيئته وحكمته ، ووحدة النظام في جملتها وفي كل نوع منها هو الآية الكبرى على وحدانيته في ربوبيته وألوهيته ، ثم انظروا ماذا في أنفسكم منها ، كما قال : ( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) ( 51 : 20 و 21 ) إنه يريكم كل هذه الآيات ثم أنتم تشركون ( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) يجوز في هذه الجملة النفي والاستفهام ، والنذر فيها جمع نذير أو إنذار ، والمعنى : أن الآيات الكونية على ظهور دلالتها ، والنذر التشريعية على بلاغة حجتها ، لا فائدة فيهما ولا غنى لقوم لا يؤمنون [ ص: 397 ] بالله عن الإيمان الذي يهديهم إلى الاعتبار بالآيات ، والاستدلال بها على ما تدل عليه أكمل الدلالة من وحدانية الله وقدرته ، ومشيئته وحكمته ، وفضله ورحمته ، والاعتبار بسننه في خلقه ، ففائدة الإيمان الأولى توجيه عقل الإنسان إلى حسن القصد في نظره في الآيات ، والاستفادة منها فيما يزكي نفسه بالعلم والإيمان ، ويرفعها عن أرجاس الأمور وسفسافها ، وبهذا تفهم معنى جعل الرجس على الذين لا يعقلون ، فليس المراد بالذين لا يعقلون المجانين الفاقدين لغريزة العقل ، بل المراد به الذين لا يستعملون العقل في أفضل ما هو مستعد له من المعرفة بالله وتوحيده وعبادته ، التي تجعلهم أهلا لإتمام نعمه عليهم وكرامته ، بالتزام الحق والعدل ، وإيثار الخير على الشر .

                          ( فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ) أي إذا كان الأمر كما قصصنا عليك أيها الرسول من سنتنا في الخلق وما أرسلنا قبلك من الرسل ، فهل ينتظر هؤلاء الكافرون من قومك إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ، أي وقائعهم مع رسلهم مما بلغهم مبدؤه وغايته ، أي ما ثم شيء آخر ينتظر ( قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) أي قل لهم منذرا ومهددا : إذا فانتظروا ما سيكون من عاقبتكم إني معكم من المنتظرين ، على بينة مما وعد الله وصدق وعده للمرسلين ، وإن الذين يصرون على الجحود والعناد سيكونون كمعانديهم من الهالكين .

                          ( ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا ) هذا التعبير من أعجب إيجاز القرآن المعجز الذي انفرد به في العطف على محذوف ، وهو ذكر شيء يدل دلالة واضحة على أمر عام كسنة اجتماعية تستنبط من قصة أو قصص واقعة ، ثم يأتي بجملة معطوفة لا يصح عطفها على ما قبلها من الجمل ، فيتبادر إلى الذهن وجوب عطفها على ذلك الأمر العام ، بحرف العطف المناسب للمقام ، بحيث يستغنى به عن ذكره ، وتقديره هنا: تلك سنتنا في رسلنا مع قومهم: يبلغونهم الدعوة ، ويقيمون عليهم الحجة ، وينذرونهم سوء عاقبة الكفر والتكذيب ، فيؤمن بعض ويصر الآخرون ، فنهلك المكذبين ، ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا بهم ( كذلك حقا علينا ننج المؤمنين ) أي كذلك الإنجاء ننجي المؤمنين معك أيها الرسول ، ونهلك المصرين على تكذيبك ، وعدا حقا علينا لا نخلفه ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) ( 17 : 77 ) وقد صدق وعده كما قال .

                          قرأ الجمهور : ( ننجي رسلنا ) بالتشديد من التنجية إلا في رواية عن يعقوب بالتخفيف مختلف فيها ، وقرأ الكسائي وحفص ويعقوب ( ننجي المؤمنين ) بالتخفيف من الإنجاء ، والباقون بالتشديد والمعنى واحد ، إلا أن التشديد يدل على المبالغة أو التكرار ، وهو الأنسب في الأولى لكثرة الأقوام .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية