الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) .

                          هذه الآيات الأربع فذلكة هذا السياق الذي كان ذكر قصص الأنبياء شواهد فيه ، وهي تقرير صدق القرآن في دعوته ووعده ووعيده ، وكونه لا مجال للامتراء فيه ، وبيان الداعية النفسية للمكذبين بآياته ، وتوجيه الاعتبار إلى أهل مكة مقرونا بالإنذار ، بأسلوب التعريض والتلطف في العبارة ، على حد : إياك أعني واسمعي يا جارة : ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ) أي فإن كنت أيها الرسول في شك مما أنزلنا في هذه الشواهد من قصة موسى ونوح وغيرهما على سبيل الفرض والتقدير ، الذي ذكر على عادة العرب في تقدير الشك في الشيء [ ص: 392 ] ليبني عليه ما ينفي احتمال وقوعه أو ثبوته أمرا أو نهيا أو خبرا ، كقول أحدهم لابنه : إن كنت ابني فكن شجاعا أو فلا تكن بخيلا ، أو فإنك ستكون أو ستفعل كذا - بل يفرضون سؤال الديار والأطلال أيضا منه قول المسيح في جواب سؤال الله تعالى إياه أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته ) ( 5 : 116 ) وهذه الجملة الشرطية محل الشاهد ، فهو عليه السلام يعلم أنه لم يقل ذلك ، ولكنه يفرضه ليستدل عليه بأنه لو قاله لعلمه الله منه .

                          وبعض العلماء يجري على هذا الأسلوب فيشكك تلميذه أو مناظره فيما لا شك فيه عندهما ليبني عليه حكما آخر . ويجب في مثل هذا أن يكون فعل الشرط بـ ( ( إن ) ) التي وضعت للدلالة على عدم وقوعه أو تنزيله منزلة ما لا يقع ، دون ( ( إذا ) ) الدالة على أن الأصل في فعل شرطها الوقوع ( فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) هذا جواب الشرط المقدر ، قال ابن عباس لم يشك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسأل ، وروي مثله عن سعيد بن جبير والحسن البصري قالاه فهما لغويا ، وروي عن قتادة خبرا قال : ذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ( لا أشك ولا أسأل ) ) ولم يسم الصحابي الذي ذكره فهو مرسل ، والمراد بالكتاب جنسه ، أي فاسأل الذين يقرءون كتب الأنبياءكاليهود والنصارى فإنهم يعلمون أن ما أنزلناه إليك من الشواهد حق لا يستطيعون إنكاره ، وقال بعض المفسرين : إن المراد سؤال من آمن منهم كعبد الله بن سلام من علماء اليهود ، وتميم الداري من علماء النصارى ولا حاجة إليه ، والآية بل السورة نزلت في مكة ولم يكن أحد من أهل الكتاب آمن . ومما يؤكد كون السؤال مفروضا فرضا قوله : ( لقد جاءك الحق من ربك ) فهذه الشهادة المؤكدة بالقسم من ربه ، تجتث احتمال إرادة الشك والسؤال بالفعل من أصله ، ويزيدها تأكيدا قوله تعالى : ( فلا تكونن من الممترين ) أي من فريق الشاكين الذين يحتاجون إلى السؤال ، وهذا النهي والذي بعده يدلان على أن فرض وقوع الشك والسؤال فيما قبلهما عنه تعريض بالشاكين الممترين والمكذبين له - صلى الله عليه وسلم - من قومه .

                          ( ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ) يعني أن كل من كان من المكذبين فهو من الخاسرين ، الذين خسروا أنفسهم بالحرمان من الإيمان وما يتبعه من سعادة الدنيا والآخرة ، ( ذلك هو الخسران المبين ) ، وإن فرض أنه أول المؤمنين ، محمد رسول الله وخاتم النبيين ، ورحمته للعالمين ، وأن الممترين الشاكين فيما أنزل إليك كالمكذبين بآيات بها ، وما له من ربح سعادة الدنيا والآخرة . وهذا النوع من الأمر والنهي للمؤتمر المنتهي والمراد غيره على سبيل التعريض أبلغ من قوله تعالى : ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ) ( 34 : 24 ، 25 ) [ ص: 393 ] ولكل منهما موقع وتأثير خاص في استمالة الكافرين إلى التأمل والتفكر في مضمون الدعوة .

                          ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ) أي إن الذين ثبتت عليهم كلمة العذاب من ربك وهي كلمة التكوين الدالة على سنته فيمن فقدوا الاستعداد للاهتداء ، ( لا يؤمنون ) لرسوخهم في الكفر والطغيان ، وإحاطة خطاياهم وجهالاتهم بهم من كل مكان ، وإعراضهم عن آيات الإيمان ، هذا معنى قوله : ( لا يؤمنون ) لا أنه تعالى منعهم من الإيمان منعا خلقيا قهريا لا كسب لهم فيه ولا اختيار . وهذا بمعنى الآية 33 من هذه السورة فراجع تفسيرها .

                          ( ولو جاءتهم كل آية ) من الآيات الكونية كآيات موسى التي اقترحوها عليك أيها الرسول ، والآيات المنزلة كآيات هذا القرآن العلمية العقلية الدالة بإعجازها على كونها من عند الله ، وعلى حقية ما تدعوهم إليه وتنذرهم إياه ( حتى يروا العذاب الأليم ) بأعينهم ، ويذوقوه بوقوعه بهم ، وحينئذ يكون إيمانهم اضطراريا لا يعد فعلا من أفعالهم ، ولا يترتب عليه عمل يطهرهم ويزكي أنفسهم ، بل يقال لهم : ( آلآن وقد كنتم به تستعجلون ) ( 51 ) كما قيل لفرعون : ( آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) ( 91 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية