الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 295 ] ( قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون ) .

                          ( قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ) لم يعطف هذا الأمر ولا ما بعده على ما قبله من تلقين النبي - صلى الله عليه وسلم - الاحتجاج على المشركين ؛ لأن حكم البلاغة فيه‌‌‌‌‌‌ الفصل كأمثاله مما يسرد سردا من جنس واحد من المفردات والجمل . أي قل لهم أيها الرسول : هل أحد من شركائكم الذين عبدتموهم مع الله أو من دون الله من له هذا الشأن في الكون ، وهو بدء الخلق في طور ثم إعادته في طور آخر سواء كان من الأصنام المنصوبة ، أو من الأرواح التي تزعمون أنها حالة فيها ، أو من الكواكب السماوية أو غيرها من الأحياء كالجن والملائكة ولما كان هذا السؤال مما لا يجيبون عنه كما أجابوا عن أسئلة الخطاب الأول ، لإنكارهم البعث والمعاد - لا لاعتقادهم أن شركاءهم تفعل ذلك - لقن الله رسوله الجواب ( قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده ) فأدمج إثبات البعث في توحيد الربوبية لأنه يقتضيه ويستلزمه ، فإن الرب القادر على بدء الخلق يكون قادرا على إعادته بالأولى ، على أن الذي ينكرونه هو إعادته تعالى للأحياء الحيوانية دون ما دونها من الأحياء النباتية ، فهم يشاهدون بدء خلق النبات في الأرض عندما يصيبها ماء المطر في فصل الشتاء ، وموته بجفافها في فصل الصيف والخريف ثم إعادته بمثل ما بدأه به مرة بعد أخرى ، ويقرون بأن الله هو الذي يفعل هذا البدء والإعادة ؛ لأنهم يشاهدون كلا منهما ، فهم أسرى الحس والعيان ، ثم ينكرون قدرته على إعادة خلق الناس ؛ لأنهم لم يشاهدوا أحدا منهم حيي بعد موته ، وقد فقدوا العلم ببرهان القياس ، وإننا لا نزال نرى أمثالا لهم في جاهليتهم ممن تعلموا المنطق وطرق الاستدلال . وعرفوا ما لم يكونوا يعرفون [ ص: 296 ] من سلطان الأرواح في عالم الأجسام ، وقد أمر الله رسوله أن يرشدهم إلى جهلهم بأنفسهم ، وينبههم للتفكير في أمرهم بقوله : ( فأنى تؤفكون ) أي فكيف تصرفون عن ذلك وهو من دواعي الفطرة وخاصة العقل في التفكير ، للعلم بالحقائق والبحث عن المصير ؟ .

                          ( قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ) ؟ هذا سؤال عن شأن آخر من شئون الربوبية ، المقتضية لاستحقاق الألوهية ، وتوحيد العبادة الاعتقادية والعملية ، وهو الهداية التي تتم بها حكمة الخلق كما يدل عليه ذكرها عقبه في آيات أخرى كقوله تعالى : ( الذي خلقني فهو يهدين ) ( 26 : 78 ) ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ( 20 : 50 ) ، ( الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ) ( 87 : 2 ، 3 ) وهي أنواع هداية الفطرة والغريزة ، وهداية الحواس ، وهداية العقل ، وهداية التفكر والاستدلال بكل ذلك ، وهداية الدين ، وهو للنوع البشري في جملته كالعقل لأفراده ، وهداية التوفيق الموصل بالفعل إلى الغاية بتوجيه النفس إلى طلب الحق وتسهيل سبيله ومنع الصوارف عنه . ولما كان لا يمكنهم أن يدعوا أن أحدا من أولئك الذين أشركوهم في عبادة الله تعالى ، بادعاء التقريب إليه والشفاعة عنده ، يهدي إلى الحق من ناحية الخلق والتكوين ، ولا من ناحية التشريع ، لقن الله رسوله الجواب بقوله ( قل الله يهدي للحق ) فعل الهدى يتعدى بنفسه كقوله تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم ( 1 : 6 ) ، ( ويهديك صراطا مستقيما ) ( 48 : 2 ) ( لنهدينهم سبلنا ) ( 29 : 69 ) ويتعدى بإلى كقوله : ( وهديناهم إلى صراط مستقيم ) ( 6 : 87 ) ، ( ويهديهم إلى صراط مستقيم ) ( 5 : 16 ) ( يهدي إلى الرشد ) ( 72 : 2 ) ، ( واهدنا إلى سواء الصراط ) ( 38 : 22 ) وباللام كقوله ( الحمد لله الذي هدانا لهذا ) ( 7 : 43 ) ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ( 17 : 9 ) ، ( بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ) ( 49 : 17 ) فتعديته بنفسه تفيد اتصال الهداية بمتعلقها مباشرة ، وتعديته بــ ( ( اللام ) ) تفيد التقوية أو العلة والسببية ، وبـ ( ( إلى ) ) للغاية التي تنتهي إليها الهداية ، فهي تشمل مقدماتها وأسبابها من حيث كونها موصلة إلى المنتهى المقصود للهادي السائق إليها ، وقد يكون قصده مجهولا لمطيعه كقوله تعالى في الشيطان : ( كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ) ( 22 : 4 ) وكل من هذه الثلاث مستعمل في التنزيل في موضعه اللائق به ، يعلم ذلك من له ذوق سليم في هذه اللغة الدقيقة العالية . وقد جمع في هذه الآية بين التعدية بالحرفين ، وبين ترك التعدية وهو حذف المتعلق الدال على العموم ، وكل منها وقع في موقعه الذي تقتضيه البلاغة فهاكه فلم نر أحدا بينه .

                          أما الأول : فقد عداه بإلى في حيز الاستفهام الإنكاري ؛ للإيذان بأنه لا أحد من هؤلاء الشركاء المتخذين بالباطل يدل الناس على الطريق الذي ينتهي سالكه إلى الحق من علم وعمل وهو التشريع ، فهو ينفي المقدمات ونتائجها ، والأسباب ومسبباتها ، ولو عداه بنفسه لما أفاد [ ص: 297 ] إلا إنكار هداية الإيصال إلى الحق بالفعل ، دون هداية التشريع الموصلة إليه ، ولو عداه باللام لكان بمعنى تعديته بنفسه إن كانت اللام للتقوية أو لإنكار هداية يقصد بها الحق إن كانت للتعليل ، والأول أعم وأبلغ كما هو ظاهر .

                          وأما الثاني : وهو تعديته باللام فهو يستلزم الأول ، وإذا جرينا على جواز استعمال اللام بمعنييها على مذهبنا الذي اتبعنا فيه الإمامين الشافعي وابن جرير ، يكون معناه : قل الله يهدي لما هو الحق لأجل أن يكون المهتدون به على الحق .

                          وأما الثالث : أي حذف المتعلق فهو في الشق الثاني من قوله : ( أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى ) قرأ ( يهدي ) يعقوب وحفص بكسر الهاء وتشديد الدال وأصله يهتدي كما سيأتي في بحث لغة الكلمة ، وقرأها حمزة والكسائي بالتخفيف كيرمي ، ومعنى القراءتين مع ما قبلهما نصا واقتضاء : أفمن يهدي إلى الحق ويهدي له ويهديه - وهو الله تعالى - أحق أن يتبع فيما يشرعه ، أم من لا يهدي غيره ولا هو يهتدي بنفسه ممن عبد من دونه إلا أن يهديه غيره ، أي الله تعالى إذ لا هادي غيره ؟ وهذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال ؛ لأن من نفى عنهم الهداية ممن اتخذوا شركاء لله تعالى يشمل المسيح عيسى ابن مريم وعزيرا والملائكة عليهم السلام ، وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه كما قال تعالى في الأنبياء من سورتهم : ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ) ( 21 : 73 ) وقال النحاس : الاستثناء منقطع ، كما تقول : فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع ، أي لكنه يحتاج أن يسمع ، فمعنى ( إلا أن يهدى ) لكنه يحتاج أن يهدى انتهى . فيا لله العجب من هذه البلاغة التي يظهر للمدققين في تعبير القرآن من بدائعها في كل عصر ما فات أساطين بلغاء المفسرين فيما قبله .

                          ( فما لكم كيف تحكمون ) هذا تعجيب من حالهم في جعلهم من هذه حالهم من العجز المطلق شركاء مع القادر على كل شيء ، أورده باستفهامين تقريعيين متواليين ، والمعنى : أي شيء أصابكم ، وماذا حل بكم حتى اتخذتم شركاء هذه حالهم وصفتهم ، فجعلتموهم وسطاء بينكم وبين ربكم الذي لا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا هادي لكم ولا لأحد منهم سواه ؟ كيف تحكمون بجواز عبادتهم ، وبما زعمتم من وساطتهم وشفاعتهم عنده بدون إذنه ؟ .

                          ومن القراءات اللفظية التي لا يختلف بها المعنى ، قراءة ( ( يهدي ) ) المشددة الدال بفتح الياء والهاء بنقل حركة التاء في أصلها ( يهتدي ) إلى الهاء وإدغامها فيها ، وقراءتها بكسرهما معا فالهاء لالتقاء الساكنين والياء لمناسبتها لها ، وقراءتها بفتح الياء وكسر الهاء لمناسبة الدال ، وهي قراءة حفص التي عليها أهل بلادنا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية