الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      ( فصل ) وأما المياه المستخرجة فتنقسم ثلاثة أقسام مياه أنهار ومياه آبار ومياه عيون فأما الأنهار فتنقسم ثلاثة أقسام : أحدها أجراه الله - تعالى - من كبار الأنهار التي لا يحتفرها الآدميون كدجلة والفرات ويسميان الرافدين فماؤهما يتسع للزرع وللشاربة ، وليس يتصور فيه قصور عن كفاية ولا ضرورة تدعو فيه إلى تنازع أو مشاحنة ، فيجوز لمن شاء من الناس أن يأخذ منها لضيعته شربا ويجعل من ضيعته إليها مغيضا ، ولا يمنع من أخذ شرب ولا يعارض في إحداث مغيض .

                                      [ ص: 227 ] والقسم الثاني ما أجراه الله تعالى من صغار الأنهار . وهو على ضربين : أحدهما أن يعلو ماؤها ، وإن لم يحبس ويكفي جميع أهله من غير تقصير ، فيجوز لكل ذي أرض من أهله أن يأخذ منه شرب أرضه في وقت حاجته ولا يعارض بعضهم بعضا ، فإن أراد قوم أن يستخرجوا منه نهرا يساق إلى أرض أخرى أو يجعلوا إليه مغيض نهر آخر نظر ، فإن كان ذلك مضرا بأهل هذا النهر منع منه ، وإن لم يضر بهم لم يمنع .

                                      والضرب الثاني أن يستقل ماء هذا النهر ولا يعلو للشرب إلا بحبسه فللأول من أهل النهر أن يبتدئ بحبسه ليسقي أرضه حتى تكتفي منه وترتوي ثم يحبسه من يليه حتى يكون آخرهم أرضا آخرهم حبسا .

                                      روى عبادة بن الصامت : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في شرب النخل من السيل أن للأعلى أن يشرب قبل الأسفل ، ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه كذلك حتى ينقضي الأرضون } .

                                      وأما قدر ما يحبسه من الماء في أرضه ، فقد روى محمد بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في وادي مهزور أن يحبس الماء في الأرض إلى الكعبين ، فإذا بلغ إلى الكعبين أرسل إلى الأخرى } .

                                      وقال مالك : وقضى في سيل بطحان بمثل ذلك فقدره بالكعبين ، وليس هذا القضاء منه على العموم في الأزمان والبلدان ; لأنه مقدر بالحاجة .

                                      وقد يختلف من خمسة أوجه باختلاف الأرضين ، فمنها ما يرتوي باليسير ، ومنها ما لا يرتوي إلا بالكثير .

                                      والثاني باختلاف ما فيها ، فإن للزرع من الشرب قدرا وللنخل والأشجار قدرا .

                                      والثالث باختلاف الصيف والشتاء ، فإن لكل واحد من الزمانين قدرا .

                                      والرابع : باختلافها في وقت الزرع وقبله ، فإن لكل واحد من الوقتين قدرا .

                                      والخامس : باختلاف حال الماء في بقائه وانقطاعه ، فإن المنقطع يؤخذ منه ما يدخر ، والدائم يؤخذ منه ما يستعمل ; [ ص: 228 ] فلاختلافه من هذه الأوجه الخمسة لم يكن تحديده بما قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحدها ، وكان معتبرا بالعرف المعهود عند الحاجة إليه . فلو سقى رجل أرضه أو فجرها فسال من مائها إلى أرض جاره فغرقها لم يضمن لأنه تصرف في ملكه بمباح ، فإن اجتمع في ذلك الماء سمك كان الثاني أحق بصيده من الأول لأنه من ملكه .

                                      والقسم الثالث : من الأنهار ما احتفره الآدميون لما أحيوه من الأرضين فيكون النهر بينهم ملكا مشتركا كالزقاق المرفوع بين أهله لا يختص أحدهم بملكه .

                                      فإن كان هذا النهر بالبصرة يدخله ماء المد فهو يعم جميع أهله لا يتشاحون فيه لاتساع مائه ولا يحتاجون إلى حبسه لعلوه بالمد إلى الحد الذي ترتوي منه جميع الأرضين ثم يقبض بعد الارتواء في الجزر ; وإن كان بغير البصرة من البلاد التي لا مد فيها ، ولا جزر فالنهر مملوك لمن احتفره من أرباب الأرضين لا حق فيه لغيره في شرب منه ، ولا مغيض ، ولا يجوز لواحد من أهله أن ينفرد بنصب عبارة عليه ولا برفع مائه ولا إدارة رحى فيه إلا عن مراضاة جميع أهله لاشتراكهم فيما هو ممنوع من التفرد به كما لا يجوز في الزقاق المرفوع أن يفتح إليه بابا ، ولا أن يخرج عليه جناحا ولا يمد عليه ساباطا إلا بمراضاة جميعهم .

                                      ثم لا يخلو حال شربهم منه من ثلاثة أقسام : أحدها أن يتناوبوا عليه بالأيام إن قلوا وبالساعات إن كثروا ، ويقترعوا إن تنازعوا في الترتيب حتى يستقر لهم ترتيب الأول ومن يليه ويختص كل واحد منهم بنوبته لا يشاركه غيره فيها ، ثم هو من بعدها على ما ترتبوا .

                                      والقسم الثاني : أن يقتسموا في النهر عرضا بخشبة تأخذ جانبي النهر ، ويقسم فيها حفور مقدرة بحقوقهم من الماء في كل حفرة منها قدر ما استحقه صاحبها من خمس أو عشر وبأخذه إلى أرضه على الأدوار .

                                      والقسم الثالث : أن يحفر كل واحد منهم في وجه أرضه شرابا مقدرا لهم [ ص: 229 ] باتفاقهم أو على مساحة أملاكهم ليأخذ من ماء النهر قدر حقه ويساوي جميع شركائه ، وليس له أن يزيد فيه ولا لهم أن ينقصوه ولا لواحد منهم أن يؤخر شربا مقدما ، كما ليس لواحد من أهل الزقاق المرفوع أن يؤخر بابا مقدما ، وليس له أن يقدم شربا مؤخرا وإن جاز أن يقدم بابا مؤخرا ; لأن في تقديم الباب المؤخر اقتصارا على بعض الحق . وفي تقديم الشرب المؤخر على الحق . فأما حريم هذا النهر المحفور في الموات فهو عند الشافعي معتبر بعرف الناس في مثله ، وكذلك حكم القناة لأن القناة نهر باطن . وقال أبو حنيفة : حريم النهر ملقى طينه . قال أبو يوسف : وحريم القناة ما لم يسح على وجه الأرض وكان جامعا للماء ولهذا القول وجه مستحسن .

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية