الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              463 - يحيى بن معاذ

              ومنهم المادح الشكار ، القانع الصبار ، الراجي الجآر يحيى بن معاذ الواعظ الذكار ، لزم الحداد توقيا من العباد ، واستلذ السهاد تحريا للوداد ، واحتمل الشداد توصلا إلى الفناد .

              حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن عبيد الله بن عمرو سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة قال : سمعت الحسن بن علويه الدامغاني يقول سنة أربع عشرة وثلاثمائة قال : سمعت يحيى بن معاذ يقول :


              يا ليته لم يكن في اللوح مسطورا ذنب على عبده قد كان مقدورا     كيف النجاة بعبد أنت خالقه
              ماذا تريد به يا رب مفطورا     يا ويحه يوم يستدعي صحائفه
              إليك من خمدة الأموات منشورا



              حدثنا محمد بن محمد ، ثنا الحسن بن علويه قال : سمعت يحيى بن معاذ يقول :


              أنا مشغول بذنبي يا رجل     كف عني إن قلبي في شغل
              كيف أرجو توبة تدركني     وأرى قلبي بويلي يشتغل
              ذهبت نفسي بلا شك على     أنني أدفع دهري بالعلل



              حدثنا محمد ، ثنا الحسن قال : سمعت يحيى يقول : " لست أبكي على نفسي إن ماتت إنما أبكي على حاجتي إن فاتت قال : وسمعت يحيى يقول : كيف أمتنع بالذنب من رجائك ولا أراك تمتنع للذنب من عطائك . قال : وسمعت يحيى بن معاذ يقول : إلهي ذنبي إلى نفسي فأنا معناه ، وحبي لك هو لك فأنت معناه ، [ ص: 52 ] والحب أعتقده لك طائعا ، والذنب آتيه مني كارها ، فهب كراهة ذنبي لطواعية حبي إنك أرحم الراحمين . قال : وسمعت يحيى يقول : إلهي إن لم ترحمني رحمة الكرامة عليك فارحمني رحمة الإيقاع إليك ، إلهي بكرمك غدا أصل إليك كما بنعمتك دللت اليوم عليك . قال : وسمعت يحيى بن معاذ يقول : إن وضع عليهم عدله لم تبق لهم حسنة . وإن أنالهم فضله لم تبق لهم سيئة " .

              حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا محمد بن أحمد بن محمد البغدادي ، ثنا عبد الله بن سهل الرازي قال : سمعت يحيى بن معاذ يقول : " مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب ، قال : وسمعته يقول : يا ابن آدم لا يزال دينك متمزقا ما دام القلب بحب الدنيا متعلقا قال : وسمعته يقول : ما ركن إلى الدنيا أحد إلا لزمه عيب القلوب ، ولا مكن الدنيا من نفسه أحد إلا وقع في بحر الذنوب ، وسمعته يقول ورأى رجلا يوما يقلع الجبل في يوم حار وهو يغني فقال : مسكين ابن آدم قلع الأحجار أهون عليه من ترك الأوزار . قال : وسمعته يقول : من لم يرض عن الله في الممنوع لم يسلم من الممنوع . قال : وسمعته يقول : طلبوا الزهد في بطن الكتب ، وإنما هو في بطن التوكل لو كانوا يعلمون . وسمعته يقول : وسئل متى يعلم الرجل أنه قد أصاب الطريق وأمن هذا الخلق ؟ قال : إذا استحلوه واستمرهم ، وأحبوا لقاءه وكره لقاءهم . قال : ونظر يوما إلى إنسان وهو يقبل ولدا له صغيرا فقال : أتحبه ؟ قال : نعم ، قال : هذا حبك له إذ ولدته فكيف بحب الله له إذ خلقه ؟ وسمعته يقول : سبحوا في بحار البلايا حتى جاوزوها إلى العطايا ، ثم سبحوا في بحار العطايا حتى جاوزوها إلى رب البرايا . وقال : وسمعته يقول : وقيل له : من أي شيء دوام غمك ؟ قال : من شيء واحد ، قيل : وما هو ؟ قال : خلقني ولا أدري لم خلقني ؟ وسمعته يقول : من أشخص بقلبه إلى الله انفتحت ينابيع الحكمة من قلبه وجرت على لسانه " .

              حدثنا محمد بن محمد بن زيد ، ثنا الحسن بن علويه الدامغاني قال : سمعت يحيى بن معاذ يقول : " قد غرق في بلائه وهو يريد أن ينجو من ربه بصفائه .

              قال : وسمعت يحيى يقول : أنا في نصب المثابر وتعبية العساكر والناس لا يعلمون . [ ص: 53 ] وقال يحيى : الأبدان في سجن النيات والناس ثلاثة : رجل تشاغل بالدنيا عن الله مذموما ، ورجل تشاغل بالآخرة محمودا ، ورجل تشاغل بالله عما دونه مقربا مرفوعا . قال : وسمعته يقول : لا يفلح من شمت منه رائحة الرياسة . وسمعته يقول : جماع الأمر كله في شيئين : سكون القلب على رزق هذه الناحية ، والاجتهاد في طلب رزق تلك الناحية ، وسمعته يقول : إن لقيني القضاء بكيد من البلاء لقيت القضاء بكيد من الدعاء " .

              سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد بن الحسن بن مقسم يقول : سمعت أبا العباس بن حكويه الرازي يقول : سمعت يحيى بن معاذ يقول : " لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طرقاتها بالذنوب . قال : وسمعت يحيى يقول : اترك الدنيا قبل أن تتركك ، واسترض ربك قبل ملاقاته واعمر بيتك الذي تسكنه قبل انتقالك إليه - يعني القبر - " .

              سمعت أبا الحسن يقول : سمعت أبا العباس يقول : سمعت يحيى بن معاذ يقول : " إنما ينبسطون إليه على قدر منازلهم لديه " .

              وسمعت يحيى بن معاذ يقول : " من كان قلبه مع الحسنات لم تضره السيئات ، ومن كان مع السيئات لم تنفعه الحسنات . قال : وسمعت يحيى يقول : لو رأت العقول بعيون الإيمان نزهة الجنة لذابت النفوس شوقا ، ولو أدركت القلوب كنه هذه المحبة لخالقها لانخلعت مفاصلها إليه ، ولها عليه ، ولطارت الأرواح إليه من أبدانها دهشا ، فسبحان من أغفل الخليقة عن كنه هذه الأشياء وألهاهم بالوصف عن حقائق هذه الأشياء . قال : وسمعت يحيى يقول : لا تطلب العلم رياء ، ولا تتركه حياء . قال : وسمعت يحيى يقول : أعظم المصيبة على الحكيم في اليوم أن يمضي عنه لا يأتيه فيه هدية من ربه - يعني : حكمة جديدة - " .

              حدثنا محمد بن محمد قال : سمعت الحسن بن محمد الرازي المذكر يقول : سمعت أبي يقول : سمعت يحيى بن معاذ يقول : " الدنيا أمير من طلبها وخادم من تركها ، الدنيا طالبة ومطلوبة ، فمن طلبها رفضته ، ومن رفضها طلبته ، الدنيا قنطرة الآخرة ، فاعبروها ولا تعمروها ، ليس من العقل بنيان القصور على [ ص: 54 ] الجسور ، الدنيا عروس وطالبها ماشطتها ، وبالزهد ينتف شعرها ، ويسود وجهها ، ويمزق ثيابها ، ومن طلق الدنيا فالآخرة زوجته . فالدنيا مطلقة الأكياس لا تنقضي عدتها أبدا ، فخل الدنيا ولا تذكرها ، واذكر الآخرة ولا تنسها ، وخذ من الدنيا ما يبلغك الآخرة ، ولا تأخذ من الدنيا ما يمنعك الآخرة " .

              حدثنا محمد قال : سمعت الحسن يقول : سمعت أبي يقول : سمعت يحيى بن معاذ يقول : " تمام المغفرة في ثلاث : حسن القبول ، وتقليد العلم ، وبذل الفضل ، وتفسير حسن القبول : أن تسمع بينة الاستفادة ، وتنظر الإرادة ، وتقليد العلم : أن لا تهز رأسك كأنك عالم بما تسمعه ، فهذا يدخله في الكبر ويفسد العمل . قال : وسمعت يحيى يقول : عدم التواضع من فاته خصال : علمه بما خلق له وما خلق منه وما يعود إليه . قال : وسمعت يحيى يقول : علامة من اتقى الله ثلاثة خصال : من آثر رضاه وقارن تقاه ، وخالف هواه - يعني رضا الله على رضا نفسه - وقارن تقاه - يعني جعل التقى قرينه فلا يزايله - في حال عسره ويسره وسروره ورضاه وغضبه ، وخالف هواه - يعني فيما يبعده عن الله - وينقصه حظ الجزاء " .

              حدثنا أبو الحسن بن عمرو ، ثنا الحسن بن علويه . قال : سمعت يحيى يقول : " إن أعرضت عنا بوجهك الكريم استعطفناك بقول لا إله إلا الله . قال : وسمعت يحيى يقول : إن تلقاني بمكر منه اقتدارا تلقيته بذل مني افتقارا . قال : وسمعت يحيى يقول : التائب يبكيه ذنبه ، والزاهد تبكيه غربته ، والصديق يبكيه خوف زوال الإيمان . قال : سمعت يحيى يقول : فكرتك في الدنيا تلهيك عن ربك ، وعن دينك ، فكيف إذا باشرتها بجميع جوارحك ؟ قال : وسمعت يحيى يقول : أوثق على جراب إيمانك لا يقرضه الفأر . قال : وسمعت يحيى يقول : تضاحكت الأشياء إلى أولياء الله العارفين بأفواه القدرة عن مليكهم لما يرون من آثار صنعه فيها ويعاينون من بدائع خلقه معها ، فلهم في كل شيء معتبر ، وعند كل شيء مدكر ، وقال في دعائه : إلهي ضمن أعمالي غنيمة عقباها وامنع نفسي لذاذة دنياها . قال : وسمعت يحيى يقول : سبحان من يبيع الحبيبة بالبغيضة - يعني الدنيا - . قال : وسمعت يحيى [ ص: 55 ] يقول : الجنة حبيبة المؤمن يبيعها منه بالبغيضة - يعني الدنيا - . قال : وسمعت يحيى يقول : ربما رأيت أحدهم يقول : عشرين سنة أطلب ربي ، ويحك ربك لا يجبرك على تضييع نفسك أبدا ، اطلب نفسك حتى تجدها فإذا وجدتها فقد وجدت ربك . قال : وسمعت يحيى يقول : واعجبا كل من جاءني بكبة وقد ضاع رأسه طلبتها في ساعة ، فدفعتها إليه ورأس الكبة من غزلي قد ضاع منذ عشرين سنة ، وأنا في طلبه فلا أقدر عليه . وسمعته يقول : الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، وهو لا يسألك منها جناح بعوضة " .

              أخبرني محمد بن أحمد البغدادي أبو بكر - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ، ثنا عبد الله بن سهل الرازي . قال : سمعت يحيى بن معاذ يقول : " أيها المريدون طريق الآخرة والصدق ، والطالبون أسباب العبادة والزهد ، اعلموا أنه من لم يحسن عقله لم يحسن تعبد ربه ، ومن لم يعرف آفة العمل لم يحسن أن يحترز منه ، ومن لم تصح عنايته في طلب الشيء لم ينتفع به إذا وجده ، واعلموا أنكم خلقتم لأمر عظيم وخطر جسيم ، وأن العلم لم يرد ليعلم إنما أريد ليعلم ويعمل به ؛ لأن الثواب على العمل بالعلم يقع لا على العلم ، ألا ترى أن العلم إذا لم يعمل به عاد وبالا وحجة ، وانظروا ألا تكونوا معشر المريدين ممن قد تركوا لذة الدنيا ونعيمها ، ثم لا يصدق طلبكم الآخرة فلا دنيا ولا آخرة ، وفكروا فيما تطلبون فإن من لم يعرف خطر ما يطلب لم يسهل عليه الجهل في جنب طلبه ، واعلموا أنه من لم يهن عليه الخلق لم يعظم عليه الرب ، ومن لم يكن طلبه في طريق الرغبة والرهبة والشوق والمحبة كان متحيرا في طلبه ، مخلطا في عمله ، لا يجد لذة العبادة ، ولا يقطع طريق الزهادة ، فاتقوا الله الذي إليه معادكم ، وانظروا ألا تكونوا ممن يعرفهم جيرانهم وإخوانهم بالخير والإرادة والزهادة والعبادة وحالكم عند الله على خلاف ذلك ، فإن الله إنما يجزيكم على ما يعرف منكم لا على ما يعرفه الناس ، ولا تكونوا ممن يولع بصلاح الظاهر الذي إنما هو للخلق ، ولا ثواب له بل عليه العقاب ، ويدع الباطن الذي هو لله وله الثواب ولا عقاب عليه " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية