الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      ( فصل ) وأما الحجاز فقد قال الأصمعي : سمي حجازا لأنه حجز بين نجد وتهامة ، وقال ابن الكلبي : سمي حجازا لما احتجز به من الجبال .

                                      وما سوى الحرم منه مخصوص من سائر البلاد بأربعة أحكام : أحدها أن لا يستوطنه مشرك من ذمي ولا معاهد ، وجوزه أبو حنيفة ، وقد روى عبيد الله بن عبد الله بن مسعود رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : { كان آخر ما عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال : لا يجتمع في جزيرة العرب دينان } .

                                      وأجلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أهل الذمة عن الحجاز ، وضرب لمن قدم منهم تاجرا أو صانعا مقام ثلاثة أيام ويخرجون بعد انقضائها فجرى به العمل واستقر عليه الحكم فمنع أهل الذمة من استيطان الحجاز ولا يمكنون من دخوله ولا يقيم الواحد منهم في موضع منه أكثر من ثلاثة أيام ، فإذا انقضت صرف عن موضعه وجاز أن يقيم في غيره ثلاثة أيام ثم يصرف إلى غيره . فإن أقام بموضع منه أكثر من ثلاثة أيام عزر إن لم يكن معذورا .

                                      والحكم الثاني أن لا تدفن أمواتهم وينقلوا إن دفنوا فيه إلى غيره ; لأن دفنهم مستدام فصار كالاستيطان ، إلا أن يبعد مسافة إخراجهم منه ويتغيروا إن أخرجوا فيجوز لأجل الضرورة أن يدفنوا فيه .

                                      والحكم الثالث أن لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجاز حرما محظورا ما بين لابتيها يمنع من تنفير صيده وعضد شجره كحرم مكة . وأباحه أبو حنيفة وجعل المدينة كغيرها ، وفيما قدمناه من حديث أبي هريرة دليل على أن حرم المدينة محظور ، فإن قتل صيده وعضد شجره فقد قيل : إن جزاءه سلب ثيابه ، وقيل تعزيره .

                                      والحكم الرابع : أن أرض الحجاز تنقسم لاختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتحها [ ص: 213 ] قسمين : أحدهما صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أخذها بحقيه ، فإن أحد حقيه خمس الخمس من الفيء والغنائم .

                                      والحق الثاني أربعة أخماس الفيء الذي أفاءه الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب ، فما صار إليه بواحد من هذين الحقين ، فقد رضخ منه لبعض أصحابه وترك باقيه لنفقته وصلاته ومصالح المسلمين ، حتى مات عنه صلى الله عليه وسلم فاختلف الناس في حكمه بعد موته فجعله قوم موروثا عنه ومقسوما على المواريث ملكا .

                                      وجعله آخرون للإمام القائم مقامه في حماية البيضة وجهاد العدو .

                                      والذي عليه جمهور الفقهاء أنها صدقات محرمة الرقاب مخصوصة المنافع مصروفة في وجوه المصالح العامة ، وما سوى صدقاته أرض عشر لا خراج عليها ; لأنها ما بين مغنوم ملك على أهله أو متروك لمن أسلم عليه ، وكلا الأمرين معشور لا خراج عليه .

                                      فأما صدقات النبي عليه الصلاة والسلام فهي محصورة ; لأنه قبض عنها فتعينت ، وهي ثمانية : إحداها وهي أول أرض ملكها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصية مخيريق اليهودي من أموال بني النضير .

                                      حكى الواقدي أن مخيريقا اليهودي كان حبرا من علماء بني النضير آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكانت له سبعة حوائط وهي المبيت والصافية والدلال وجسني وبرقة والأعراف والمسربة فوصى بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم وقاتل معه بأحد حتى قتل رحمه الله .

                                      والصدقة الثانية أرضه من أموال بني النضير بالمدينة ، وهي أول أرض أفاءها الله على رسوله فأجلاهم عنها وكف عن دمائهم وجعل لهم ما حملته الإبل من أموالهم إلا الحلقة ، وهي السلاح ، فخرجوا بما استقلت إبلهم إلى خيبر والشام وخلصت أرضهم كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان ليمين بن عمير وأبي سعد بن وهب فإنهما أسلما قبل الظفر فأحرز لهما إسلامهما جميع أموالهما ، ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سوى الأرضين من أموالهم على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن [ ص: 214 ] خرشة فإنهما ذكرا فقرا فأعطاهما وحبس الأرضين على نفسه فكانت من صدقاته يضعها حيث يشاء وينفق منها على أزواجه ، ثم سلمها عمر إلى العباس وعلي رضوان الله عليهما ليقوما بمصرفها .

                                      والصدقة الثالثة والرابعة والخامسة ثلاثة حصون من خيبر ، وكانت ثمانية حصون : ناعم والقموص وشق والنطاة والكتيبة والوطبح والسلالم وحصن الصعب بن معاذ ، وكان أول حصن فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ناعم وعنه قتل محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة والثاني القموص وهو حصن ابن أبي الحقيق ، ومن سبيه { اصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق فأعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها وجعل عتقها صداقها } ، ثم حصن الصعب بن معاذ وكان أعظم حصون خيبر وأكثرها مالا وطعاما وحيوانا ، ثم شق والنطاة والكتيبة فهذه الحصون الستة فتحت عنوة ، ثم افتتح الوطبح والسلالم وهي آخر فتوح خيبر صلحا بعد أن حاصرهم بضع عشر ليلة فسألوه أن يسير بهم ويحقن لهم دماءهم ففعل ذلك ، وملك من هذه الحصون الثمانية ثلاثة حصون الكتيبة والوطبح والسلالم : أما الكتيبة فأخذها بخمس الغنيمة .

                                      وأما الوطبح والسلالم فهما مما أفاء الله عليه ; لأنه فتحها صلحا ، فصارت هذه الحصون الثلاثة بالفيء والخمس خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصدق بها وكانت من صدقاته . وقسم الخمسة الباقية بين الغانمين وفي جملتها وادي خيبر ووادي السرير ووادي حاضر على ثمانية عشر سهما ، وكانت عدة من قسمت عليه ألفا وأربعمائة وهم أهل الحديبية من شهد منهم خيبر ومن غاب عنها ، ولم يغب عنها إلا جابر بن عبد الله قسم له كسهم من حضرها ، وكان فيهم مائتا فارس أعطاهم ستمائة سهم ، وألف ومائتا سهم لألف ومائتي رجل ، فكانت سهام جميعهم ألفا وثمانمائة سهم ، أعطى لكل مائة سهما فلذلك صارت خيبر مقسومة على ثمانية عشر سهما .

                                      والصدقة السادسة النصف من فدك ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم { لما فتح خيبر جاءه أهل فدك فصالحوه بسفارة محيصة بن مسعود على أن له نصف أرضهم [ ص: 215 ] ونخلهم يعاملهم عليه ولهم النصف الآخر ، فصار النصف منها من صدقاته معاملة مع أهلها بالنصف من ثمرتها والنصف الآخر خالصا لهم إلى أن أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيمن أجلاه من أهل الذمة عن الحجاز ، فقوم فدك ودفع إليهم نصف القيمة فبلغ ذلك ستين ألف درهم ، وكان الذي قومها مالك بن التيهان وسهل بن أبي حثمة وزيد بن ثابت } ، فصار نصفها من صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصفها الآخر لكافة المسلمين ، ومصرف النصفين الآن سواء .

                                      والصدقة السابعة الثلث من أرض وادي القرى لأن ثلثها كان لبني عذرة وثلثيها لليهود فصالحهم رسول الله عليه الصلاة والسلام على نصفه ، فصارت أثلاثا ثلثها لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو من صدقاته ، وثلثها لليهود ، وثلثها لبني عذرة إلى أن أجلاهم عمر رضي الله عنه عنها وقوم فيها فبلغت قيمته تسعين ألف دينار فدفعها إليهم وقال لبني عذرة إن شئتم أديتم نصف ما أعطيت ونعطيكم النصف فأعطوه وهو خمسة وأربعون ألف دينار فصار نصف الوادي لبني عذرة ، والنصف الآخر الثلث منه في صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم والسدس منه لكافة المسلمين ، ومصرف جميع النصف سواء .

                                      والصدقة الثامنة موضع سوق بالمدينة يقال له مهروذ استقطعها مروان من عثمان رضي الله عنه فنقم الناس بها عليه ، فاحتمل أن يكون إقطاع تضمين لا تمليك ليكون له في الجواز وجه ، فهذه ثمان صدقات حكاها أهل السير ونقلها وجوه رواة المغازي ، والله أعلم بصحة ما ذكرنا .

                                      فأما ما سوى هذه الصدقات الثمانية من أمواله ، فقد حكى الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث من أبيه عبد الله أم أيمن الحبشية واسمها بركة ، وخمسة أجمال وقطعة من غنم ، وقيل ومولاه شقران وابنه صالحا وقد شهد بدرا ، وورث من أمه آمنة بنت وهب الزهرية دارها التي ولد فيها في شعب بني علي ، وورث من زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها دارها بمكة بين الصفا والمروة خلف سوق العطارين وأموالا .

                                      وكان حكيم بن حزام اشترى [ ص: 216 ] لخديجة زيد بن حارثة من سوق عكاظ بأربعمائة درهم فاستوهبه منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وزوجه أم أيمن فولدت أم أيمن أسامة بعد النبوة ، فأما الداران فإن عقيل بن أبي طالب باعهما بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم مكة في حجة الوداع قيل له في أي داريك تنزل ؟ فقال هل ترك لنا عقيل من ربع فلم يرجع فيما باعه عقيل لأنه تغلب عليه ومكة دار حرب يومئذ فأجرى عليه حكم المستهلك فخرجت هاتان الداران من صدقاته .

                                      وأما دور أزواج النبي عليه الصلاة والسلام ، فقد كان أعطى كل واحدة منهن الدار التي يسكنها ، ووصى بذلك لهن ، فإن كان ذلك منه عطية تمليك فهي خارجة من صدقاته ، وإن كان عطية سكنى وإرفاق فهي من جملة صدقاته ، وقد دخلت اليوم في المسجد ، ولا أحسب منها ما هو خارج عنه .

                                      وأما رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلته ، فقد روى هشام الكلبي عن عوانة بن الحكم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دفع إلى علي رضي الله عنه آلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودابته وحذاءه ، وقال : ما سوى ذلك صدقة ، وروى الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت : { توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير } .

                                      فإن كانت درعه المعروفة بالبتراء ، فقد حكي أنها كانت على الحسين بن علي رضوان الله عليهما يوم قتل فأخذها عبيد الله بن زياد ، فلما قتل المختار عبيد الله بن زياد صارت الدرع إلى عباد بن الحصين الحنظلي ، ثم إن خالد بن عبد الله بن أسيد وكان أمير البصرة سأل عبادا عنها فجحده إياها فضربه مائة سوط فكتب إليه عبد الملك بن مروان مثل عباد لا يضرب إنما كان ينبغي أن يقتل أو يعفى عنه ; ثم لا يعرف للدرع خبر بعد ذلك .

                                      أما البردة فقد اختلف الناس فيها ، فحكى أبان بن ثعلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وهبها لكعب بن زهير واشتراها منه معاوية رضي الله عنه وهي التي يلبسها الخلفاء ، وحكى ضمرة بن ربيعة أن هذه البردة أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 217 ] أهل آيلة أمانا لهم فأخذها منهم سعيد بن خالد بن أبي أوفى وكان عاملا عليهم من قبل مروان بن محمد فبعث بها إليه ، وكانت في خزائنه حتى أخذت بعد قتله ، وقيل اشتراها أبو العباس السفاح بثلاثمائة دينار .

                                      وأما القضيب فهو من تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي صدقة وقد صار مع البردة من شعار الخلافة .

                                      أما الخاتم فلبسه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم حتى سقط من يده في بئر فلم يجده ، فهذا شرح ما قبض عنه رسول الله من صدقته وتركته .

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية