الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
سورة الفيل مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول )

الفيل أكبر ما رأيناه من وحوش البر يجلب إلى ملك مصر ، ولم نره بالأندلس بلادنا ، ويجمع في القلة على أفيال ، وفي الكثرة على فيول وفيلة . الأبابيل : الجماعات تجيء شيئا بعد شيء ، قال الشاعر :


كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل



وقال الأعشى :


طريق وجبار رواء أصوله     عليه أبابيل من الطير تنعب



قال أبو عبيدة والفراء : لا واحد له من لفظه ، فيكون مثل عبابيد وبيادير . وقيل : واحده إبول مثل عجول ، وقيل : إبيل مثل سكين ، وقيل : وذكر الرقاشي ، وكان ثقة ، أنه سمع في واحده : إبالة ، وحكى الفراء : إبالة مخففا .

( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول ) .

هذه [ ص: 512 ] السورة مكية ، ولما ذكر فيما قبلها عذاب الكفار في الآخرة أخبر هنا بعذاب ناس منهم في الدنيا ، والظاهر أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، يذكر نعمته عليه ، إذ كان صرف ذلك العدو العظيم عام مولده السعيد عليه السلام ، وإرهاصا بنبوته ، إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول ، من خوارق العادات والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، ومعنى ( ألم تر ) ألم تعلم قدره على وجود علمه بذلك ؟ إذ هو أمر منقول نقل التواتر ، فكأنه قيل : قد علمت فعل الله ربك بهؤلاء الذين قصدوا حرمه ، ضلل كيدهم وأهلكهم بأضعف جنوده ، وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل .

وقصة الفيل ذكرها أهل السير والتفسير مطولة ومختصرة ، وتطالع في كتبهم ، وأصحاب الفيل : أبرهة بن الصباح الحبشي ومن كان معه من جنوده ، والظاهر أنه فيل واحد ، وهو قول الأكثرين . وقال الضحاك : ثمانية فيلة ، وقيل : اثنا عشر فيلا ، وقيل : ألف فيل ، وهذه أقوال متكاذبة ، وكان العسكر ستين ألفا ، لم يرجع أحد منهم إلا أميرهم في شرذمة قليلة ، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا ، وكان الفيل يوجهونه نحو مكة لما كان قريبا منها فيبرك ، ويوجهونه نحو اليمن والشام فيسرع ، وقال الواقدي : أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمن الرسول ، صلى الله عليه وسلم . وقرأ السلمي : ( ألم تر ) بسكون ، وهو جزم بعد جزم ، ونقل عن صاحب اللوامح ( ترأ ) بهمزة مفتوحة مع سكون الراء على الأصل ، وهي لغة لتيم ، و " تر " معلقة ، والجملة التي فيها الاستفهام في موضع نصب به ، وكيف معمول لفعل ، وفي خطابه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( فعل ربك ) تشريف له صلى الله عليه وسلم ، وإشادة من ذكره ، كأنه قال : ربك معبودك هو الذي فعل ذلك لا أصنام قريش إساف ونائلة وغيرهما .

( ألم يجعل كيدهم في تضليل ) وإبطال ، يقال : ضلل كيدهم إذا جعله ضالا ضائعا ، وقيل لامرئ القيس : الضليل ، لأنه ضلل ملك أبيه ، أي ضيعه ، وتضييع كيدهم هو بأن أحرق الله تعالى البيت الذي بنوه قاصدين أن يرجع حج العرب إليه ، وبأن أهلكهم لما قصدوا هدم بيت الله الكعبة بأن أرسل عليهم طيرا جاءت من جهة البحر ، ليست نجدية ولا تهامية ولا حجازية سوداء ، وقيل : خضراء على قدر الخطاف . وقرأ الجمهور : ( ترميهم ) بالتاء ، والطير اسم جمع بهذه القراءة ، وقوله :

كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد

وتذكر كقراءة أبي حنيفة وابن يعمر وعيسى وطلحة في رواية عنه : يرميهم ، وقيل : الضمير عائد على ( ربك ) . ( بحجارة ) كان كل طائر في منقاره حجر ، وفي رجليه حجران ، كل حجر فوق حبة العدس ودون حبة الحمص ، مكتوب في كل حجر اسم مرميه ، ينزل على رأسه ويخرج من دبره ، ومرض أبرهة ، فتقطع أنملة أنملة ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت أبو مكسوم وزيره ، وطائره يتبعه حتى وصل إلى النجاشي وأخبره بما جرى للقوم ، فرماه الطائر بحجره فمات بين يدي الملك ، وتقدم شرح سجيل في سورة هود ، والعصف في سورة الرحمن ، شبهوا بالعصف ورق الزرع الذي أكل ، أي وقع فيه الأكال ، وهو أن يأكله الدود ، والتبن الذي أكلته الدواب وراثته ، وجاء على آداب القرآن نحو قوله : ( كانا يأكلان الطعام ) أو الذي أكل حبه فبقي فارغا ، فنسبه أنه أكل مجاز ، إذ المأكول حبه لا هو ، وقرأ الجمهور : ( مأكول ) بسكون الهمزة وهو الأصل ، لأن صيغة مفعول من فعل ، وقرأ أبو الدرداء ، فيما نقل ابن خالويه : بفتح الهمزة إتباعا لحركة الميم وهو شاذ ، وهذا كما اتبعوه في قولهم : محموم بفتح الحاء لحركة الميم ، قال ابن إسحاق : لما رد الله الحبشة عن مكة ، عظمت العرب قريشا وقالوا : أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مئونة عدوهم ، فكان ذلك نعمة من الله تعالى عليهم ، وقيل : هو إجابة لدعاء الخليل عليه الصلاة والسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية