الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 308 ] النوع التاسع عشر :

        المضطرب هو الذي يروى على أوجه مختلفة متقاربة ، فإن رجحت إحدى الروايتين بحفظ راويها أو كثرة صحبته المروي عنه ، أو غير ذلك : فالحكم للراجحة ، ولا يكون مضطربا . والاضطراب يوجب ضعف الحديث لإشعاره بعدم الضبط ، ويقع في الإسناد تارة ، وفي المتن أخرى ، وفيهما من راو أو جماعة .

        [ ص: 308 ]

        التالي السابق


        [ ص: 308 ] ( النوع التاسع عشر : المضطرب : هو الذي يروى على أوجه مختلفة ) من راو واحد مرتين ، أو أكثر ، أو من راو ثان ، أو رواة ( متقاربة ) .

        وعبارة ابن الصلاح ( متساوية ) .

        وعبارة ابن جماعة ( متقاومة ) - بالواو والميم - أي ولا مرجح .

        ( فإن رجحت إحدى الروايتين ) ، أو الروايات ( بحفظ راويها ) مثلا ، ( أو كثرة صحبته المروي عنه ، أو غير ذلك ) من وجوه الترجيحات ، ( فالحكم للراجحة ، ولا يكون ) الحديث ( مضطربا ) ، لا الرواية الراجحة كما هو ظاهر ، ولا المرجوحة ، بل هي شاذة ، أو منكرة كما تقدم .

        ( والاضطراب يوجب ضعف الحديث ; لإشعاره بعدم الضبط ) من رواته ، الذي هو شرط في الصحة والحسن .

        ( ويقع ) الاضطراب ( في الإسناد تارة ، وفي المتن أخرى ، و ) يقع ( فيهما ) ، أي الإسناد والمتن معا ، وهذه مزيدة على ابن الصلاح ( من راو ) ، واحد أو راويين ( أو جماعة ) .

        [ ص: 309 ] مثاله في الإسناد : ما رواه أبو داود ، وابن ماجه من طريق إسماعيل بن أمية ، عن أبي عمرو بن محمد بن حريث ، عن جده حريث ، عن أبي هريرة ، مرفوعا : " إذا صلى أحدكم ، فليجعل شيئا تلقاء وجهه " الحديث ، وفيه : " فإن لم يجد عصا ينصبها بين يديه ، فليخط خطا " .

        اختلف فيه على إسماعيل اختلافا كثيرا : فرواه بشر بن المفضل ، وروح بن القاسم عنه هكذا .

        ورواه سفيان الثوري عنه ، عن أبي عمرو بن حريث ، عن أبيه ، عن أبي هريرة .

        ورواه حميد بن الأسود عنه ، عن أبي عمرو بن محمد بن عمرو ، عن جده حريث بن سليم ، عن أبي هريرة .

        ورواه وهيب بن خالد ، وعبد الوارث ، عنه ، عن أبي عمرو بن حريث ، عن جده حريث .

        ورواه ابن جريج عنه ، عن حريث بن عمار ، عن أبي هريرة .

        ورواه ذواد بن علبة الحارثي عنه ، عن أبي عمرو بن محمد ، عن جده حريث بن سليمان .

        قال أبو زرعة الدمشقي : لا أعلم أحدا بينه وبين نسبه غير ذواد .

        ورواه سفيان بن عيينة عنه واختلف فيه على ابن عيينة : [ ص: 310 ] فقال ابن المديني : عن ابن عيينة ، عن إسماعيل ، عن أبي محمد بن عمرو بن حريث ، عن جده حريث رجل من بني عذرة .

        ورواه محمد بن سلام البيكندي ، عن ابن عيينة ، مثل رواية بشر بن المفضل ، وروح .

        ورواه مسدد ، عن ابن عيينة ، عن إسماعيل ، عن أبي عمرو بن حريث ، عن أبيه ، عن أبي هريرة .

        ورواه عمار بن خالد الواسطي ، عن ابن عيينة ، عن إسماعيل ، عن أبي عمرو بن محمد بن عمرو بن حريث ، عن جده حريث بن سليم هكذا .

        مثل ابن الصلاح بهذا الحديث لمضطرب الإسناد .

        وقال العراقي في النكت : اعترض عليه بأنه ذكر أن الترجيح إذا وجد انتفى الاضطراب ، وقد رواه سفيان الثوري ، وهو أحفظ ممن ذكرهم ، فينبغي أن ترجح روايته على غيرها ، وأيضا فإن الحاكم وغيره صححوا هذا الحديث .

        قال : والجواب أن وجوه الترجيح فيه متعارضة ، فسفيان وإن كان أحفظ إلا أنه انفرد بقوله : ( أبي عمرو بن حريث ، عن أبيه ) ، وأكثر الرواة يقولون : عن جده ، وهم بشر ، وروح ، ووهيب ، وعبد الوارث ، وهم من ثقات البصريين ، وأئمتهم ، ووافقهم على ذلك من حفاظ الكوفة ابن عيينة ، وقولهم أرجح للكثرة ، ولأن إسماعيل بن أمية مكي ، وابن عيينة كان مقيما بها ، والأمران مما يرجح به ، وخالف الكل ابن جريج ، وهو مكي ، فتعارضت حينئذ وجوه الترجيح ، وانضم إلى ذلك جهالة راوي الحديث ، وهو شيخ إسماعيل ، فإنه لم يرو عنه غيره مع الاختلاف في اسمه ، [ ص: 311 ] واسم أبيه ، وهل يرويه ، عن أبيه ، أو جده ، أو هو نفسه ، عن أبي هريرة .

        وقد حكى أبو داود تضعيف هذا الحديث ، عن ابن عيينة ، فقال عنه : لم نجد شيئا نشد به هذا الحديث ، ولم يجئ إلا من هذا الوجه ، وضعفه أيضا الشافعي ، والبيهقي ، والنووي في الخلاصة . انتهى .

        وقال شيخ الإسلام : أتقن هذه الروايات رواية بشر وروح ، وأجمعها رواية حميد بن الأسود ، ومن قال : أبو عمرو بن محمد أرجح ممن قال : أبو محمد بن عمرو ، فإن رواة الأول أكثر ، وقد اضطرب من قال : أبو محمد ; فمرة وافق الأكثرين فتلاشى الخلاف .

        قال : ، والتي لا يمكن الجمع بينها رواية من قال : أبو عمرو بن حريث مع رواية من قال : أبو محمد بن عمرو بن حريث ورواية من قال : حريث بن عمار ، وما في الروايات يمكن الجمع بينها ، فرواية من قال : عن جده ، لا تنافي من قال : عن أبيه ; لأن غايته أنه أسقط الأب ، فتبين المراد برواية غيره ، ورواية من قال : عن أبي عمرو بن محمد بن حريث يدخل في الأثناء عمرا لا تنافي من أسقطه ؛ لأنهم يكثرون نسبة الشخص إلى جده المشهور ، ومن قال : سليم يمكن أن يكون اختصره من سليمان كالترخيم .

        قال : والحق أن التمثيل لا يليق إلا بحديث لولا الاضطراب لم يضعف ، وهذا الحديث [ ص: 312 ] لا يصلح مثالا ، فإنهم اختلفوا في ذات واحدة ، فإن كان ثقة لم يضر هذا الاختلاف في اسمه أو نسبه ، وقد وجد مثل ذلك في الصحيح ، ولهذا صححه ابن حبان ؛ لأنه عنده ثقة ، ورجح أحد الأقوال في اسمه واسم أبيه ، وإن لم يكن ثقة فالضعف حاصل بغير جهة الاضطراب ، نعم يزداد به ضعفا .

        قال : ومثل هذا يدخل في المضطرب لكون رواته اختلفوا ، ولا مرجح ، وهو وارد على قولهم : الاضطراب يوجب الضعف .

        قال : والمثال الصحيح حديث أبي بكر ، أنه قال : يا رسول الله أراك شبت ، قال : شيبتني هود وأخواتها .

        قال الدارقطني : هذا مضطرب فإنه لم يرو إلا من طريق أبي إسحاق ، وقد اختلف عليه فيه على نحو عشرة أوجه ، فمنهم من رواه مرسلا ، ومنهم من رواه موصولا ، ومنهم من جعله من مسند أبي بكر ، ومنهم من جعله من مسند سعد ، ومنهم من جعله من مسند عائشة وغير ذلك ، ورواته ثقات لا يمكن ترجيح بعضهم على بعض ، والجمع متعذر .

        قلت : ومثله حديث مجاهد ، عن الحكم بن سفيان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نضح الفرج بعد الوضوء .

        [ ص: 313 ] قد اختلف فيه على عشرة أقوال : فقيل : عن مجاهد ، عن الحكم أو ابن الحكم ، عن أبيه ، وقيل : عن مجاهد ، عن الحكم بن سفيان أو ابن أبي سفيان ، عن أبيه ، وقيل : ، عن مجاهد ، عن الحكم غير منسوب ، عن أبيه ، وقيل : عن مجاهد ، عن رجل من ثقيف ، عن أبيه ، وقيل : ، عن مجاهد ، عن سفيان بن الحكم ، أو الحكم بن سفيان ، وقيل : عن مجاهد ، عن الحكم بن سفيان بلا شك ، وقيل : عن مجاهد ، عن رجل من ثقيف ، يقال له الحكم أو أبو الحكم ، وقيل : عن مجاهد ، عن أبي الحكم ، أو أبي الحكم بن سفيان ، وقيل : عن مجاهد ، عن الحكم بن سفيان ، أو ابن أبي سفيان ، وقيل : عن مجاهد ، عن رجل من ثقيف ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

        ومثال الاضطراب في المتن : فيما أورده العراقي حديث فاطمة بنت قيس قالت : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن الزكاة فقال : إن في المال لحقا سوى الزكاة ; رواه الترمذي هكذا من رواية شريك ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، عن فاطمة ، ورواه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ : ليس في المال حق سوى الزكاة . قال فهذا اضطراب لا يحتمل التأويل .

        قيل : وهذا أيضا لا يصلح مثالا ، فإن شيخ شريك ضعيف ، فهو مردود من قبل ضعف راويه لا من اضطرابه ، وأيضا فيمكن تأويله بأنها روت كلا من اللفظين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن المراد بالحق المثبت المستحب ، وبالمنفي الواجب .

        والمثال الصحيح ما وقع في حديث الواهبة نفسها من الاختلاف في اللفظة الواقعة منه صلى الله عليه وسلم .

        [ ص: 314 ] ففي رواية : زوجتكها ، وفي رواية : زوجناكها ، وفي رواية أمكناكها ، وفي رواية : ملكتكها ; فهذه ألفاظ لا يمكن الاحتجاج بواحد منها ، حتى لو احتج حنفي مثلا على أن التمليك من ألفاظ النكاح لم يسغ له ذلك .

        قلت : وفي التمثيل بهذا نظر أوضح من الأول ، فإن الحديث صحيح ثابت ، وتأويل هذه الألفاظ سهل ، فإنها راجعة إلى معنى واحد بخلاف الحديث السابق .

        وعندي أن أحسن مثال لذلك : حديث البسملة السابق ، فإن ابن عبد البر أعله بالاضطراب كما تقدم ، والمضطرب يجامع المعلل ; لأنه قد تكون علته ذلك .

        تنبيه

        وقع في كلام شيخ الإسلام السابق أن الاضطراب قد يجامع الصحة ، وذلك بأن يقع الاختلاف في اسم رجل واحد وأبيه ، ونسبته ، ونحو ذلك ، ويكون ثقة فيحكم للحديث بالصحة ، ولا يضر الاختلاف فيما ذكر مع تسميته مضطربا ، وفي الصحيحين أحاديث كثيرة بهذه المثابة ، وكذا جزم الزركشي بذلك في مختصره ، فقال : وقد يدخل القلب والشذوذ والاضطراب في قسم الصحيح والحسن .

        فائدة

        صنف شيخ الإسلام في المضطرب كتابا سماه : " المقترب " .




        الخدمات العلمية