الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 556 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة المطففين

وهي مكية في قول جماعة من المفسرين، واحتجوا لذكر الأساطير، وهذا على أن هذا تطفيف الكيل والوزن كان بمكة حسب ما هو في كل أمة، لا سيما مع كفرهم، وقال ابن عباس ، والسدي ، والنقاش ، وغيرهم: السورة مدنية، قال السدي : كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة، له مكيالان، يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص، فنزلت السورة، ويقال: إنها أول سورة نزلت بالمدينة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا -فيما روي عنه-: نزل بعضها بمكة، ونزل أمر التطفيف بالمدينة; لأنهم كانوا أشد الناس فسادا في هذا المعنى، فأصلحهم الله تعالى.

بهذه السورة، وقال آخرون: نزلت السورة بين مكة والمدينة، وذلك ليصلح الله تعالى قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وأمر الكيل والوزن وكيد جدا، وتصرفه في المدن ضروري في الأموال التي هي حرام بغير حق، والإفساد فيه كبيرة لا تنفع فيها دافع إلا التوبة، ولا يخلص إلا رد المظلمة إلى صاحبها. قال مالك بن دينار : احتضر جار لي، فجعل يقول: جبلان من نار، فقلت له: ما هذا؟ فقال: يا أبا يحيى، كان لي مكيالان، آخذ بالوافي وأعطي بالناقص، وقال عكرمة : أشهد على كل كيال أو وزان أنه في النار، وقال بعض العرب: لا تلتمسوا المروءة ممن مروءته في رؤوس المكاييل وألسنة الموازين.

قوله عز وجل:

ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين

قوله تعالى "ويل" معناه: الثبور والحزن والشقاء الأدوم، وقد روي عن ابن مسعود وغيره أن واديا في جهنم يسمى "ويلا"، ورفع "ويل" على الابتداء، ورفع على معنى: ثبت لهم واستقر، وما كان في حيز الدعاء والترقب فهو منصوب نحو قولهم: [ ص: 557 ] رعيا وسقيا. و"المطفف": الذي ينقص الناس حقوقهم، والتطفيف: النقصان، أصله من الشيء الطفيف وهو النزر، والمطفف إنما يأخذ بالميزان شيئا طفيفا. وقال سلمان : الصلاة مكيال، فمن أوفى وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله تعالى في المطففين، وقال بعض العلماء: يدخل التطفيف في كل عمل قول، ومنه قول عمر رضي الله عنه: طففت معناه: نقصت الأجر والعمل، ولذلك قال مالك رحمه الله: يقال لكل شيء وفاء وتطفيف، فجاء بالنقيضين. وقد ذهب بعض الناس إلى أن التطفيف هو تجاوز الحد في وفاء أو نقصان، والمعنى والقرائن بحسب قول قول تبين المراد، وهذا عندي حد صحيح، وقد بين الله تعالى أن التطفيف ها هنا إنما أراد به أمر الوزن والكيل.

"واكتالوا على الناس" معناه: قبضوا منهم، و"كالوهم" معناه: أقبضوهم، يقال: كلت منك واكتلت عليك، ويقال: كلتك وكلت لك، فلما حذفت اللام تعدى الفعل، قال الفراء والأخفش وأنشد أبو زيد :


ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر



وعلى هذا المعنى هي قراءة الجمهور، وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين، ويقف على "كالوا" "أو وزنوا" ويبتدئ "هم يخسرون"، أي: إذا كالوا أو وزنوا، [ ص: 558 ] ورويت عن حمزة ، فقوله تعالى: "هم" تأكيد للضمير. وظاهر هذه الآية يقتضي أن الكيل والوزن على البائع، وليس ذلك بالجلي، وصدر الآية هو في المشترين، قدمهم بأنهم يستوفون ويشاحون في ذلك، إذ لا تمكنهم الزيادة على الاستيفاء لأن البائع يحفظ نفسه، فهذا مبلغ قدرتهم في ترك الفضيلة والسماحة المندوب إليه، ثم ذكر تعالى أنهم إذا باعوا أمكنهم من الظلم والتطفيف أن يخسروا لأنهم يتولون الكيل للمشتري منهم وذلك هم بحالة من يخسر البائع إن قدر. و"يخسرون" تعدى بالهمزة يقال: خسر الرجل وأخسر غيره، والمفعول بـ "كالوا" محذوف.

ثم وقفهم تعالى على أمر القيامة وذكرهم بها، وهذا يؤيد أنها نزلت بالمدينة في قوم من مؤمنين، وأريد بها -مع ذلك- من غير هذه الأمة. ويظن هنا بمعنى يتحقق ويعلم. و"اليوم العظيم" يوم القيامة، و"يوم" ظرف عمل فيه فعل مقدر، "تبعثون" ونحوه، وقال الفراء : هو بدل من "يوم عظيم" لكنه مبني، ويأبى ذلك البصريون لأنه مضاف إلى معرب.

و"قام الناس فيه لرب العالمين" يختلف الناس فيه بحسب منازلهم، فروي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقام فيه خمسين ألف سنة، وهذا بتقدير شدته، وقيل: ثلاثمائة سنة، قاله النبي عليه الصلاة والسلام، وقال ابن عمر : مائة سنة، وقيل: ثمانون سنة، وقال ابن مسعود : أربعون سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء لا يؤمرون ولا يكلمون، وقيل غير هذا، ومن هذا كله آثار مروية، ومعناها إن كل مدة [ ص: 559 ] لقوم ما تقتضي حالهم وشدة أمرهم ذلك، وروي أن القيام فيه على المؤمن هو على ما بين الظهر إلى العصر، وروي عن بعض الناس على قدر صلاة مكتوبة، وفي هذا القيام هو إلجام العرق للناس، وهو أيضا مختلف، فيروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عقبة بن عامر أنه يلجم الكافر إلجاما، ويروى أن بعض الناس يكون فيه إلى أنصاف ساقيه، وبعضهم إلى فوق، وبعضهم إلى أسفل.

التالي السابق


الخدمات العلمية