الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ) .

                          هذا تقسيم آخر للمؤمنين الصادقين والمنافقين من أهل الحضر والبدو جميعا ، عطف على تقسيم الأعراب لمشاركته له في بيان حقيقة جماعات المسلمين في ذلك العهد ، قال :

                          [ ص: 12 ] ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ) هذه طبقات ثلاث هي خير هذه الأمة التي هي في جملتها خير أمة أخرجت للناس ( فالأولى ) السابقون الأولون من المهاجرين قيل : هم الذين صلوا إلى القبلتين وروي عن أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن سيرين والحسن وقتادة وغيرهم . وقيل : هم أهل بدر ، وروي عن محمد بن كعب وعطاء بن يسار ، وقيل : هم الذين شهدوا بيعة الرضوان في الحديبية وعليه الشعبي ولكن هذا القول وما قبله في السابقين من المهاجرين والأنصار جميعا وأما السابقون من المهاجرين وحدهم فهم الذين هاجروا قبل صلح الحديبية ; لأن المشركين كانوا إلى ذلك الوقت يضطهدون المؤمنين في بلادهم ويقاتلونهم في دار الهجرة وما حولها ، ولا يمكنون أحدا من الهجرة ما وجدوا إلى صده سبيلا ، ولا منجاة للمؤمن من شرهم إلا بالفرار أو الجوار ، فالذين هاجروا قبل صلح الحديبية وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم كانوا كلهم من المؤمنين الصادقين ، ليس فيهم منافق كما قلنا ; إذ لم يكن للنفاق في ذلك الوقت مقتضى ولا سبب ، ولا للهجرة والجهاد داع غير الإخلاص في الإيمان وإقامة بناء الإسلام ، وإن كان هؤلاء يتفاضلون في السبق وفي غيره من الأعمال ، فأفضلهم الخلفاء الأربعة فسائر الذين بشرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة بأشخاصهم ، وما كل سابق أفضل من كل مسبوق ، ومن السابقين بالإيمان من سبقه غيره بالهجرة ، وأول من آمن على الإطلاق خديجة - رضي الله عنها - لأنه - صلى الله عليه وسلم - بلغها خبر بعثته قبل كل أحد فصدقت وآمنت ، ويليها من كان معه - صلى الله عليه وسلم - في بيتها ، وهم علي وكان ابن 10 سنين ، وزيد بن حارثة ، ومن خارجه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - والمشهور أنه أول من آمن من الرجال ، ولا خلاف في أنه آمن عندما دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير أدنى تريث أو تردد ، ولا في أنه أول المهاجرين مع الرسول كما تقدم في تفسير آية الغار ، وأول الدعاة إلى الإسلام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                          ( الطبقة الثانية ) السابقون الأولون من الأنصار وهم الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند العقبة في منى في المرة الأولى سنة إحدى عشرة من البعثة وكانوا سبعة ، وفي المرة الثانية وكانوا سبعين رجلا وامرأتين ، ويليهم الذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين ، وأرسله مع أهل العقبة الثانية سنة اثنتي عشرة من البعثة وكذا من آمن عند قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقبل أن تكون للمسلمين قوة غالبة تتقى وترتجى ، وهذه القوة رسخت عقب هجرته - صلى الله عليه وسلم - وصار بعض أهل المدينة يظهرون الإسلام نفاقا ، بدليل قوله تعالى في الآيات التي نزلت في شأن غزوة بدر وكانت في السنة الثانية ( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ) ( 8 : 49 ) ولم يكن فيهم أحد من المهاجرين ولا من الأنصار السابقين وإن كانوا كلهم من الأوس والخزرج .

                          [ ص: 13 ] ( الطبقة الثالثة ) الذين اتبعوا هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في الهجرة والنصرة اتباعا بإحسان ، أو محسنين في الأفعال والأقوال ، فتضمن هذا القيد الشهادة للسابقين بكمال الإحسان ; لأنهم صاروا فيه أئمة متبوعين ، وخرج به من اتبعوهم في ظاهر الإسلام مسيئين غير محسنين في هذا الاتباع وهم المنافقون ، ومن اتبعوهم محسنين في بعض الأعمال ومسيئين في بعض وهم المذنبون والآيات مبينة حال الفريقين .

                          هؤلاء الطبقات الثلاث - رضي الله عنهم - في إيمانهم وإسلامهم وإحسانهم وأعلاه ما كان من هجرتهم وجهادهم ، فقبل طاعاتهم ، وغفر سيئاتهم ، وتجاوز عن زلاتهم ، إذ بهم أعز الإسلام ، ونكل بأعدائه من المشركين وأهل الكتاب ( ورضوا عنه ) بما وفقهم له ، وأسبغه عليهم من نعمه الدينية والدنيوية فأنقذهم من شرك وهداهم من ضلال ، وأغناهم من فقر وأعزهم من ذل . ( وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) تقدم مثل هذا الوعد الكريم في الآية ( 72 ) وفي آيات أخرى ، ومعناه ظاهر ، وأي فوز أعظم من نعيم الجنة الخالد من بدني وروحاني ؟

                          قرأ الجمهور : ( والأنصار ) بالخفض عطفا على : ( المهاجرين ) ، وقرأها يعقوب بالرفع عطفا على ( والسابقون ) وروي عن الحسن البصري ، بل روي أيضا - وفيه نظر عندي أن عمر رضي الله عنه قرأها كذلك مع جعل ( والذين اتبعوهم ) صفة للأنصار وأنكر على رجل قرأها بالخفض ، فأخبره أنه تلقاها عن أبي بن كعب كاتب الوحي وجامع القرآن فسأل عمر أبيا فصدقه وأخبره أنه هكذا سمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية أنها هكذا أنزلها الله على جبريل ونزل بها جبريل على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال عمر : لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا - يعني المهاجرين الأولين - فقال أبي : تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة ( وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ) ( 62 : 3 ) .

                          ولفظ الاتباع فيها نص في الصحابة المتأخرين الذين اتبعوا الأولين من المهاجرين والأنصار في صفتيهم : الهجرة والنصرة ، وهو بصيغة الماضي فلا يدخل في عمومه التابعون الذين تلقوا الدين والعلم من الصحابة ، ولم ينالوا شرف الصحبة والهجرة والنصرة ، وتسمية هؤلاء بالتابعين اصطلاحية حدثت بعد نزول القرآن وانتقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى .

                          وقد ورد ذكر الطبقات الثلاث من الصحابة في آخر سورة الأنفال ، وعبر فيه عن الطبقة الثالثة بقوله : ( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) ( 8 : 75 ) وذكرت في تفسيرها آيات سورة الحشر وقد عبر فيها عن الطبقة الثالثة بقوله : ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) ( 59 : 10 ) إلخ ولا شك في مشاركة سائر [ ص: 14 ] المؤمنين لأولئك الصحابة الكرام في رضاء الله وثوابه بقدر اتباعهم لهم في الهجرة إن وجدت أسبابها والجهاد بالأموال والأنفس لنصرة الإسلام ، ومنها نصرته بالحجة والبرهان ، وفي سائر أعمال البر والإحسان ، وإن الآيات تدل على ذلك في كل موضع ; لأن الجزاء في حكم الله الحق وشرعه العدل على الأعمال ، وللسابقين في كل عمل فضيلة السبق والإمامة في كل عصر ، ويمتاز عصر الرسول الذي وجد فيه الإسلام وأقيم بنيانه ، ورفعت أركانه ، ونشرت في الخافقين أعلامه ، على كل عصر بعده ، وهم الأقلون المقربون كما قال تعالى : ( والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) ( 56 : 10 - 14 ) .

                          هذه الشهادة من رب العالمين للطبقات الثلاث من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدمغ حقها باطل الروافض الذين يطعنون فيهم ، ويحثون التراب في أفواههم ، والذي سن لهم هذا الطعن في جمهورهم الأعظم عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أظهر الإسلام لأجل إيقاع الشقاق بين المسلمين وإفساد أمرهم ، ثم نظم الدعوة لذلك زنادقة المجوس بعد فتح المسلمين لبلادهم ، كما بيناه مرارا . ثم جعل الرفض مذهبا له فرق ذات عقائد ، منها ما هو كفر صريح ، ومنها ما هو ابتداع قبيح . ومنها ما هو دون ذلك .

                          وروي عن أبي صخر حميد بن زياد قال : أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له : ما قولك في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة محسنهم ومسيئهم . فقلت : من أين تقول هذا ؟ قال اقرأ قول الله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) - إلى أن قال : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) وقال : ( والذين اتبعوهم بإحسان ) شرط في التابعين شريطة وهي أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة . قال أبو صخر : فكأني لم أقرأ هذه الآية قط .

                          والتحقيق ما قلناه . فإن هذه الآيات وما بعدها في بيان حال المسلمين في عهد نزولها مؤمنيهم ومنافقيهم . ومحسنيهم ومسيئيهم والذين خلطوا منهم عملا صالحا وآخر سيئا والذين تاب الله عليهم والذين أرجأ توبتهم . وهذه الآية نص في أن الطبقات الثلاث من السابقين الأولين والذين اتبعوهم في الإيمان والهجرة والجهاد - عندما أبيحت الهجرة وتيسرت أسبابها بصلح الحديبية قد فازوا كلهم برضاء الله ووعده لهم بالجنة ، وأنه ليس فيهم أحد من المنافقين بل كان جميع المنافقين من أهل المدينة وما حولها إلى أن فتحت مكة وأعتق النبي - صلى الله عليه وسلم - أهلها فأظهروا الإسلام والسيوف تقطر من دمائهم فكان منهم المنافقون وضعفاء الإيمان المقلدون ، وهم الذين كانوا سبب الهزيمة في حنين كما تقدم في تفسير الآيات ( 25 - 27 ) ثم حسن إسلام الأكثرين ، ففتحوا الفتوحات ونشروا الإسلام في العالمين .

                          وجملة القول أن جميع أفراد هذه الطبقات الثلاث ، قد جازوا القنطرة واستبقوا [ ص: 15 ] الصراط ، وما عاد يؤثر في كمال إيمانهم شيء ; لأن نورهم يمحو كل ظلمة تطرأ على أحد منهم بإلمامه بذنب . وإذا كان بعض المحدثين يقول : إن من اتفق الشيخان على تعديله في الرواية - أي اعتمدا عليه في أصولهما المسندة - قد جاز قنطرة الجرح ، فماذا يقال فيمن عدلهم الله عز وجل وشهد لهم بأنه رضي عنهم ورضوا عنه ؟ ؟ وسيأتي أن الله تعالى تاب على المذنبين والمقصرين وغفر لهم وللشيخ محيي الدين بن عربي مناظرة مع نفسه بسطها في كتابه ( روح القدس ) ذكر فيها أنه في أثناء مجاورته بمكة المكرمة حدث لنفسه من الإعجاب بعبادتها ومعرفتها ما دعاه إلى مناظرتها وإقامة الحجة عليها بغرورها ، فعرضها أولا على القرآن ، فاعترفت بضعفها عن بلوغ ما قرره من أوج الكمال ، فعرضها على سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعذرت بحديث عائشة ( ( كان خلقه القرآن ) ) وهو ما يعجز عنه من دونه كل إنسان ، فعرضها على فضائل الصحابة فأقرت بعجزها عن الرجحان في هذا الميزان ، ومسابقة من رباهم المصطفى بكتاب الله وآياته ، وزكاهم بحكمته فاقتبسوا نوره من مشكاته ، ولكنها أبت أن تعترف لكبار التابعين بمثل هذا السبق ، كان له معها حجاج في أويس القرني ، وهو من أعلى حقائق علم النفس .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية