الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( سورة المنافقون مدنية وهي إحدى عشرة آية )

( بسم الله الرحمن الرحيم )

إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون . الجسم والخشب معروفان . أسندت ظهري إلى الحائط ، أملته وأضفته إليه ، وتساند القوم : اصطفوا وتقابلوا للقتال .

[ ص: 270 ] إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون .

[ ص: 271 ] هذه السورة مدنية ، نزلت في غزوة بني المصطلق ، كانت من عبد الله بن أبي ابن سلول وأتباعه فيها أقوال ، فنزلت . وسبب نزولها مذكور في قصة طويلة ، من مضمونها : أن اثنين من الصحابة ازدحما على ماء ، وذلك في غزوة بني المصطلق ، فشج أحدهما الآخر ، فدعا المشجوج يا للأنصار ، والشاج يا للمهاجرين ، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول : ما حكى الله تعالى عنه من قوله : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا وقوله : ليخرجن الأعز منها الأذل وعنى الأعز نفسه ، وكلاما قبيحا ، فسمعه زيد بن أرقم ، ونقل ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله ، فحلف ما قال شيئا من ذلك ، فاتهم زيد ، فأنزل الله تعالى : إذا جاءك المنافقون إلى قوله : لا يعلمون تصديقا لزيد وتكذيبا لعبد الله بن أبي .

ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلا عن المنافقين ، واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك ، وذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة ، إذ كان وقت مجاعة ، جاء ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان ، وأتبعه بقبائح أفعالهم وقولهم : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا إذ كانوا هم أصحاب أموال ، والمهاجرون فقراء قد تركوا أموالهم ومتاجرهم وهاجروا لله تعالى .

قالوا نشهد : يجري مجرى اليمين ، ولذلك تلقي بما يتلقى به القسم ، وكذا فعل اليقين والعلم يجري مجرى القسم بقوله :إنك لرسول الله وأصل الشهادة أن يواطئ اللسان القلب هذا بالنطق ، وذلك بالاعتقاد ، فأكذبهم الله وفضحهم بقوله : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون أي : لم تواطئ قلوبهم ألسنتهم على تصديقك ، واعتقادهم أنك غير رسول ، فهم كاذبون عند الله وعند من خبر حالهم ، أو كاذبون عند أنفسهم ، إذ كانوا يعتقدون أن قولهم : إنك لرسول الله كذب . وجاء بين شهادتهم وتكذيبهم قوله تعالى : والله يعلم إنك لرسوله إيذانا أن الأمر كما لفظوا به من كونه رسول الله حقا . ولم تأت هذه الجملة لتوهم أن قولهم هذا كذب ، فوسطت الأمر بينهما ليزول ذلك التوهم . اتخذوا أيمانهم سمى شهادتهم تلك أيمانا . وقرأ الجمهور : " أيمانهم " بفتح الهمزة جمع يمين ; والحسن : بكسرها ، مصدر آمن . ولما ذكر أنهم كاذبون ، أتبعهم بموجب كفرهم ، وهو اتخاذ أيمانهم جنة يستترون بها ، ويذبون بها عن أنفسهم وأموالهم ، كما قال بعض الشعراء :


وما انتسبوا إلى الإسلام إلا لصون دمائهم أن لا تسالا



ومن أيمانهم أيمان عبد الله ، ومن حلف معه من قومه أنه ما قال ما نقله زيد بن أرقم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلوا تلك الأيمان جنة تقي من القتل ، وقال أعشى همدان :


إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة     من المال سار القوم كل مسير



وقال الضحاك : اتخذوا حلفهم بالله أنهم لمنكم . وقال قتادة : كلما ظهر شيء منهم يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم . وقال السدي : ( جنة ) من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا ( فصدوا ) أي : أعرضوا وصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام ( ذلك ) أي : ذلك الحلف الكاذب والصد المقتضيان لهم سوء العمل بسبب إيمانهم ثم كفرهم . وقال ابن عطية : ( ذلك ) إشارة إلى فعل الله بهم في فضيحتهم وتوبيخهم ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا ، فالمعنى : ساء عملهم بأن كفروا . وقال الزمخشري : ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا ، أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستخفاف بالإيمان ، أي : ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا . وقرأ الجمهور : ( فطبع ) مبنيا للمفعول ، و زيد بن علي مبنيا للفاعل أي : فطبع الله ، وكذا قراءة [ ص: 272 ] الأعمش وزيد في رواية مصرحا بالله . ويحتمل على قراءة زيد الأولى أن يكون الفاعل ضميرا يعود على المصدر المفهوم من ما قبله ، أي : فطبع هو ، أي : بلعبهم بالدين . ومعنى ( آمنوا ) نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل المسلمون ثم كفروا أي : ظهر كفرهم بما نطقوا به من قولهم : لئن كان محمد ما يقوله حقا فنحن شر من الحمير ، وقولهم أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر ؟ هيهات ، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين وبالكفر عند شياطينهم ، أو ذلك فيمن آمن ثم ارتد .

وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - أو للسامع أي : لحسنها ونضارتها وجهارة أصواتهم ، فكان منظرهم يروق ، ومنطقهم يحلو . وقرأ الجمهور : ( تسمع ) بتاء الخطاب ، و عكرمة وعطية العوفي : " يسمع " بالياء مبنيا للمفعول ، و ( لقولهم ) الجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وليست اللام زائدة ، بل ضمن ( يسمع ) معنى يصغ ويمل ، تعدى باللام وليست زائدة ، فيكون قولهم هو المسموع . وشبهوا بالخشب لعزوب أفهامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان ، ولم يكف حتى جعلها مسندة إلى الحائط ، لا انتفاع بها لأنها إذا كانت في سقف أو مكان ينتفع بها ، وأما إذا كانت غير منتفع بها فإنها تكون مهملة مسندة إلى الحيطان أو ملقاة على الأرض قد صففت ، أو شبهوا بالخشب التي هي الأصنام وقد أسندت إلى الحيطان ، والجملة التشبيهية مستأنفة ، أو على إضمارهم . وقرأ الجمهور : ( خشب ) بضم الخاء والشين ، و البراء بن عازب والنحويان وابن كثير : بإسكان الشين ، تخفيف خشب المضموم . وقيل : جمع خشباء ، كحمر جمع حمراء ، وهي الخشبة التي نخر جوفها ، شبهوا بها في فساد بواطنهم . وقرأ ابن المسيب وابن جبير : " خشب " بفتحتين ، اسم جنس ، الواحد خشبة ، وأنث وصفه كقوله : أعجاز نخل خاوية أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام . وذكر ممن كان ذا بهاء وفصاحة عبد الله بن أبي ، و الجد بن قيس ، و معتب بن قشير . قال الشاعر في مثل هؤلاء :


لا تخدعنك اللحى ولا الصور     تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسحاب منتشرا     وليس فيها لطالب مطر
في شجر السرو منهم شبه     له رواء وما له ثمر



وقيل : الجملة التشبيهية وصف لهم بالجبن والخور ، ويدل عليه : يحسبون كل صيحة عليهم في موضع المفعول الثاني ليحسبون ، أي واقعة عليهم ، وذلك لجبنهم وما في قلوبهم من الرعب . قال مقاتل : كانوا متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحا بأي وجه كان ، أو أخبروا بنزول وحي ، طارت عقولهم حتى يسكن ذلك ويكون في غير شأنهم ، وكانوا يخافون أن ينزل الله تعالى فيهم ما تباح به دماؤهم وأموالهم ، ونحو هذا قول الشاعر :


يروعه السرار بكل أرض     مخافة أن يكون به السرار



وقال جرير :


ما زلت تحسب كل شيء بعدهم     خيلا تكر عليهم ورجالا





أنشده ابن عطية لجرير ، ونسب هذا البيت الزمخشري للأخطل . قال : ويجوز أن يكون هم العدو المفعول الثاني كما لو طرحت الضمير . ( فإن قلت ) : فحقه أن يقول هي العدو . ( قلت ) : منظور فيه إلى الخبر ، كما ذكر في هذا ربي ، وأن يقدر مضاف محذوف على يحسبون كل أهل صيحة . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية