الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإذا أراد الطهارة بالماء الذي وقعت فيه نجاسة وحكم بطهارته نظرت ، فإن كان دون قلتين وحكم بطهارته بالمكاثرة ، لم يجز الوضوء به ; لأنه وإن كان طاهرا ، فهو غير مطهر ; لأن الغلبة للماء الذي غمره ، وهو ماء أزيل به النجاسة ، فلم يصلح للطهارة ، وإن كان أكثر من قلتين نظرت ، فإن كانت النجاسة جامدة ، فالمذهب : أنه تجوز الطهارة منه ; لأنه لا حكم للنجاسة القائمة فكان وجودها كعدمها ، وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن القاص : لا يجوز حتى يكون بينه وبين النجاسة قلتان ، فإن كان بينه وبين النجاسة أقل من قلتين لم يجز ; لأنه لا حاجة به إلى استعمال ماء فيه نجاسة قائمة ، وإن كان الماء قلتين وفيه نجاسة قائمة ففيه وجهان ، قال أبو إسحاق : لا تجوز الطهارة به ; لأنه ماء واحد .

                                      فإذا كان ما يبقى بعد ما غرف نجسا ، وجب أن يكون الذي غرفه نجسا ، والمذهب : أنه [ ص: 191 ] يجوز ; لأن ما يغرف منه ينفصل منه قبل أن يحكم بنجاسته ، فبقي على الطهارة ، وإن كانت النجاسة دائبة جازت الطهارة به ، ومن أصحابنا من قال : لا يتطهر بالجميع ، بل يبقى منه قدر النجاسة كما قال الشافعي رحمه الله : فيمن حلف لا يأكل تمرة فاختلطت بتمر كثير أنه يأكل الجميع إلا تمرة ، وهذا لا يصح ; لأن النجاسة لا تتميز ، بل تختلط بالجميع فلو وجب ترك بعضه لوجب ترك جميعه بخلاف التمر ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما المسألة الأولى ، وهي إذا حكمنا بطهارة الماء النجس بالمكاثرة من غير أن يبلغ قلتين فقد قطع المصنف بأنه ليس بطهور ، وهكذا قطع به الجمهور وهو تفريع على المذهب : أن المستعمل في إزالة النجاسة لا تجوز الطهارة به ، فأما إذا قلنا بقول الأنماطي : إن المستعمل في النجس يستعمل في الحدث فيجوز الوضوء به هنا ، فإنها هي المسألة بعينها ، وقد نبه على هذا صاحب الحاوي وآخرون ، وصرحوا به .



                                      وأما المسألة الثانية وهي إذا كان الماء أكثر من قلتين وفيه نجاسة جامدة ، فقد ذكر وجهين ( الصحيح منهما ) : أنه لا يجب التباعد ، بل تجوز الطهارة منه من حيث شاء .

                                      ( والثاني ) : يجب التباعد عن النجاسة بقدر قلتين ، وهذا الخلاف مشهور في الطريقتين ، لكن العراقيون والبغوي حكوه وجهين كما حكاه المصنف ، وحكاه جمهور الخراسانيين قولين ، الجديد : يجب التباعد ، والقديم : لا يجب ، واتفقوا على أن الصحيح أنه لا يجب التباعد ، قال القاضي أبو الطيب والماوردي والمحاملي : وهو قول ابن سريج وأبي سعيد الإصطخري وعامة أصحابنا ، قال الخراسانيون وهذه من المسائل التي يفتى فيها على القديم ، وقد قدمت في مقدمة الكتاب بيانها وحكمها وما يتعلق بها ، وقد حكى الشيخ أبو علي السنجي بكسر السين المهملة وإسكان النون وبالجيم : أن الشافعي نص في كتابه اختلاف الحديث ، وهو من كتبه على موافقة القديم ، وحينئذ لا يسلم كون الإفتاء هنا بالقديم .

                                      قال أصحابنا : فإذا شرطنا التباعد لا بد من رعاية التناسب في الأبعاد ، فلو كانت النجاسة على وجه البحر فتباعد شبرا ليحسب عمق البحر وحينئذ يزيد على قلتين لم يكفه ذلك ، بل يشترط أن يتباعد قدرا لو حسب مثله في العمق [ ص: 192 ] وسائر الجوانب لبلغ قلتين ; لأن المقصود أن يكون ماء القلتين حائلا بينه وبين النجاسة ، والعمق الزائد لا يصلح لذلك ، وإن كان الماء منبسطا في عمق شبر فليتباعد زيادة على ذلك بنسبته على ما ذكرنا ، هكذا قاله إمام الحرمين والأكثرون ، وحكى المتولي فيه وجهين أحدهما : هذا ، والثاني : يعتبر ذلك من جميع جهات النجاسة ( سواء ) الجهة التي يغترف منها وغيرها ، والصحيح الأول ; لأنه لا تعلق للمستقي بباقي الجهات .

                                      وإذا أوجبنا التباعد هل يكون الماء المجتنب نجسا أم طاهرا منع من استعماله ؟ فيه وجهان أصحهما : طاهر منع استعماله لقوله صلى الله عليه وسلم : { إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس } وبهذا قطع كثيرون ، واقتضاه كلام آخرين . ممن صرح به القاضي أبو الطيب في تعليقه ، والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد ، وأصحاب الحاوي والشامل والبيان وغيرهم من العراقيين وجماعة من الخراسانيين ، ونقل الاتفاق عليه الشيخان أبو حامد الإسفراييني وأبو محمد الجويني ( والوجه الثاني ) وبه قطع القاضي حسين وإمام الحرمين والبغوي : بأنه نجس حتى قال هؤلاء الثلاثة : لو كان الماء قلتين فقط كان نجسا على هذا القول ، وهذا ضعيف أو غلط منابذ لقوله : صلى الله عليه وسلم { إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس } ، وأما إذا قلنا لا يشترط التباعد فله أن يتطهر من أي موضع شاء منه ، هكذا صرح به الأصحاب واتفقوا عليه .

                                      قال الماوردي : له أن يستعمل منه أقربه إلى النجاسة وألصقه بها ، وخالفهم الغزالي ، فقال في الوسيط : يجب التباعد عن حريم النجاسة وهو ما تغير شكله بسبب النجاسة ، وهذا الذي قاله شاذ متروك مخالف لما اتفق عليه الأصحاب ، وقد صرح هو في البسيط بموافقة الأصحاب ، فقطع بأن الراكد لا حريم له يجتنب ، وكذا صرح به شيخه إمام الحرمين في مواضع من النهاية في هذا الباب ، وقال : له أن يستعمل من قرب النجاسة قال : ووجه ذلك أن تراد الماء يوجب تساوي أجزائه في النجاسة ، فالقريب والبعيد سواء والله أعلم



                                      ( وأما المسألة الثالثة ) وهي إذا كان الماء قلتين فقط وفيه نجاسة جامدة ، ففي جواز استعماله الوجهان اللذان ذكرهما المصنف ، واتفق المصنفون : على [ ص: 193 ] أن الأصح الجواز كما ذكره المصنف . ودليله : ما ذكره .

                                      والثاني : لا يجوز . حكاه المصنف والأصحاب عن أبي إسحاق ، وحكاه البندنيجي عنه وعن ابن سريج . ثم إن استعمال هذا الماء يحتاج إلى فقه ، وهو أنه إن أراد استعمال ما يغرفه بدلو مثلا ، فينبغي أن يغمس الدلو في إناء غمسة واحدة . ولا يغترف في النجاسة ، ثم يرفعه فيكون باطن الدلو وما فيه من الماء طاهرا ، ويكون ظاهر الدلو والباقي بعد المغروف نجسا ، أما نجاسة الباقي فلأن فيه نجاسة وقد نقص عن قلتين ، وأما نجاسة ظاهر الدلو فلملاصقة الماء النجس ، وهو الباقي بعد المغروف . وإنما حكمنا بطهارة ما في الدلو ; لأنه انفصل عن الباقي قبل أن ينقص عن قلتين ، وإنما نقص بعد انفصال المأخوذ ، فلو خالف وأدخل الماء في الدلو شيئا فشيئا ، فالجميع نجس بلا خلاف ; لأنه حين دخل أول الشيء في الدلو نقص الباقي عن قلتين فصار نجسا ، فإذا نزلت الدفعة الثانية في الدلو وهي نجسة تنجس ما في الدلو فصار الجميع نجسا ، فطريقه بعد هذا إلى طهارته : أن يصبه في الباقي أو يغمسه غمسة واحدة حتى يغمره الماء ويمكث لحظة ، وهو واسع الرأس فيطهر الجميع ، فإذا فصل الدلو كان باطنه وما فيه طاهرا ويكون الباقي وظاهر الدلو نجسا لما سبق .

                                      أما إذا أراد استعمال ما يبقى بعد الغرف ، فينظر إن أخذها وحدها في الدلو فالباقي قلتان ، فهو طاهر بلا خلاف ، ، وأبو إسحاق يوافق على هذا ; لأنه قلتان وليس فيه نجاسة ، وإن أخذ النجاسة مع شيء من الماء ، فإن أخذه دفعة واحدة ، فباطن الدلو وما فيه نجس وظاهره وما بقي طاهر .

                                      أما نجاسة باطن الدلو وما فيه فلكونه ماء يسيرا فيه نجاسة ، وأما طهارة الباقي فلانفصال النجاسة عنه قبل نقصه عن قلتين فبقي على طهارته ، قال أصحابنا : فإن قطر من الدلو إلى الماء الباقي قطرة نظر ، إن كانت من ظاهر الدلو ، فالباقي على طهارته ; لأن ظاهر الدلو طاهر ، وإن كانت من باطنه صار الباقي نجسا ، وإن شك فالباقي على طهارته ، ذكره الماوردي وغيره ، وهو واضح ، فإن تنجس الباقي وأراد تطهيره فطريقه : أن يصبه فيه أو [ ص: 194 ] يرد الدلو ويغمسه فيه على ما سبق ، قال أصحابنا : ويستحب له أن يخرج النجاسة أولا ثم يغمس الدلو ليكون طهورا بلا خلاف ، ويخرج من خلاف أبي إسحاق ومن مراعاة هذه الدقائق .

                                      وكذلك يستحب له في مسألة التباعد أيضا . ولو اختطف النجاسة أولا ثم نزل عليها من الماء شيء ، فباطن الدلو وما فيه من الماء نجس ، وظاهره طاهر ، وكذا الباقي من الماء ، وهذه الصورة في النقص عن قلتين محمولة على نقص يؤثر ، سواء قلنا : القلتان خمسمائة تحديدا أو تقريبا . وفي الدلو لغتان التأنيث والتذكير ، والتأنيث أفصح . وإنما ذكرت هذا هنا لئلا ينكر استعمالنا لها من لا معرفة له والله أعلم



                                      ( وأما المسألة الرابعة ) وهي : إذا وقع في قلتين أو أكثر نجاسة ذائبة ففيها الوجهان اللذان ذكرهما المصنف ، الصحيح منهما باتفاق الأصحاب : جواز استعمال جميعه . والثاني : يجب تبقية قدر النجاسة ولم يسم الجمهور قائل هذا الوجه ، وسماه الدارمي فقال : حكاه ابن القطان عن ابن ميمون ، قال أصحابنا : هذا الوجه غلط وأبطلوه بما أبطله به المصنف ، قالوا : لأنا نقطع بأن الباقي ليس عين النجاسة ، فلا فائدة في تركه ، بل إن وجب ترك شيء وجب ترك الجميع ، فلما اتفقوا على أنه لا يجب ترك الجميع وجب أن يقال : يستعمل الجميع ; لأن النجاسة استهلكت وصورة المسألة : أن تكون النجاسة الذائبة قليلة لم تغير الماء مع مخالفتها له في صفاته ، أو كانت موافقة له في صفاته وكانت بحيث لو قدرت مخالفة له لم تغيره ، وقد تقدم بيان هذا في آخر الباب الأول والله أعلم .

                                      ( فرع ) إن قيل : ما الفائدة في حكاية المصنف مذهب أبي إسحاق فيما إذا كان الماء قلتين فقط ، ونحن قد عرفنا مذهبه من المسألة الأولى ، فإنه اشترط التباعد عن النجاسة بقلتين ، فيعلم بهذا أنه إذا كان قلتين لا يجوز استعماله بفقد الشرط وهو التباعد ؟ فالجواب : أنأبا إسحاق يقول هنا : لا يجوز استعماله وإن جوزناه هناك لمعنى هنا وهو ما علل به .

                                      ( فرع ) ذكر المصنف أبا إسحاق وابن القاص ، فأما أبو إسحاق فهو المروزي واسمه إبراهيم بن أحمد وهو صاحب أبي العباس بن سريج انتهت [ ص: 195 ] إليه رياسة بغداد في العلم ، وشرح المختصر وصنف في الأصول والفروع . وعنه وعن أصحابه انتشر فقه الشافعي في الأقطار ، وهو جدنا في التفقه ، فإنه أحد أركان سلسلة تفقه الشافعية . توفي بمصر سنة أربعين وثلثمائة ، وأما أبو العباس بن القاص بتشديد الصاد المهملة فاسمه أحمد بن أبي أحمد ، إمام جليل ، وهو صاحب ابن سريج أيضا ، وعنه أخذ الفقه أهل طبرستان ، صنف كتبا كثيرة كالتلخيص والمفتاح وأدب القاضي والمواقيت والقبلة وغيرها ، توفي بطرسوس سنة خمس وثلاثين وثلثمائة رحمه الله




                                      الخدمات العلمية